شرح كتاب التوحيد
للإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى
دورة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى
وبرنامج دليل 1447هـ[1]
إن الحمد لله ... أما بعد:
فإن العلم يشرف بشرف مُتعلَّقه، ولما كان علم التوحيد يتعلق بالله عز وجل كان هو أشرف العلوم، فعلم يُعرِّفك بربك، وبربوبيته وعبادته، وما له جل وعلا من صفات الجلال ونعوت الكمال، لا شك أنه علم عظيم.
وأقدم بين يدي هذا الشرح بمقدمتين:
المقدمة الأولى: في ذكر طرفٍ من سيرة المؤلف رحمه الله تعالى
هو الإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي.
وجده الشيخ سليمان كان قاضيا في روضة سدير، ثم في العيينة، وكان مرجع علماء نجد في زمانه، توفي 1079هـ.
أما والده الشيخ عبد الوهاب فقد ولي القضاء في العيينة بعد وفاة والده، ويعد من علماء الحنابلة في زمانه.
ولد الشيخ محمد سنة 1115هـ في بلد العيينة الواقعة شمال مدينة الرياض، وكان منذ صغره يتوقد ذكاء وفطنة، قوي الحافظة، فقد حفظ القرآن ولم يبلغ العاشرة، ثم درس على يدي والده وعمه إبراهيم بعض كتب الفقه الحنبلي.
وقدَّمه والده للإمامة مع صغر سنة لما يرى فيه من الكفاية.
رحلاته:
رحل الشيخ بعد بلوغه العشرين من عمره إلى مكة لأداء الحج وزيارة المدينة لطلب العلم على علماء الحرمين الشريفين، فكان من مشايخه في مكة: الشيخ عبد الله بن سالم البصري الشافعي 1134هـ من علماء الحديث.
ومن مشايخه في المدينة: الشيخ عبد الله بن إبراهيم بن سيف، المتوفى سنة 1140هـ[2]، وهو في الأصل في أهل المجمعة في نجد، قرأ عليه الشيخ في الحديث والفقه والسيرة، وقد توافق الشيخ ابن سيف والشيخ محمد في كثير من القضايا منها الانحراف المنتشر بين الناس في العقيدة آنذاك.
ومن مشايخه في المدينة الشيخ محمد حياة السندي المتوفى سنة 1165هـ، أحد علماء الحديث، والذي عُرف عنه نبذ البدع والشركيات ومحاربتها، ونبذ التعصب المذهبي.
ثم رجع الشيخ للعيينة وانكبَّ على كتب الشيخين ابن تيمية وابن القيم D، مع تعمقه في دراسة مذهب الإمام أحمد.
ثم رحل بعد ذلك إلى البصرة لطلب العلم، فطلب العلم على يد جمعٍ من علمائها، منهم الشيخ محمد المجموعي، وقد قام الشيخ محمد بالإنكار على بعض المنحرفين في العقيدة هناك، واستحسن شيخه المجموعي ذلك الإنكار منه، ثم لم يلبث أن حصل بينه وبين بعض معاصريه في البصرة خصومة بسبب إنكاره، فقاموا بإخراجه من بلدهم.
فتوجه الشيخ إلى الأحساء والتقى ببعض علمائها كالشيخ عبد الله بن فيروز المتوفى سنة 1175هـ، وهو ابن عمة الشيخ محمد، وكان عنده كثير من كتب شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم.
ثم عاد الشيخ إلى حريملاء لكون والده انتقل إليها.
وبعد عودة الشيخ إلى حريملاء استمر في طلب العلم على يد والده، وقام بالدعوة إلى التوحيد والنهي عن الشرك، فتعرض له بعض السفهاء وآذوه، مما جعل والده يخاف عليه ويطلب منه الكف عن ذلك، فاتجه الشيخ إلى مجال آخر وهو البحث والتأليف، فألف كتابه القيم: كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد.
وذكر بعض أهل العلم أنه ألف هذا الكتاب في البصرة أثناء رحلته إليها.
وأيا كان فإنه يعد أولَ مؤلفات الشيخ رحمه الله تعالى.
وبعد وفاة والده سنة 1153هـ قام الشيخ بالدعوة إلى التوحيد، فتعرض له السفهاء مرة أخرى بالأذى، حتى حاولوا قتله، فخرج من حريملاء إلى العيينة سنة 1154هـ، بطلب من أميرها ابن معمر الذي وعد الشيخ بنصرته وتأييده، وفعلا قام ابن معمر بنصرة الشيخ، فقام الشيخ بالدعوة إلى التوحيد ومحاربة الشرك والبدع، فقطع الأشجار التي يتبرك بها الجهال، وهدم القباب على القبور، ومنها القبة المبنية على قبر زيد بن الخطاب I في الجبيلة.
فلما اشتهر أمر الشيخ في العيينة وشاعت أخباره ظن أعداء الدعوة أن ذلك مؤذن بضياع ملكهم، فشكوه إلى أمير الأحساء من بني خالد، وخوفوه من الشيخ، وكان ابن معمر يتلقى من أمير الأحساء بعض الخراج، فكتب أمير الأحساء لابن معمر كتابا يتهدده أنه لم يطرد الشيخ من بلده وإلا قطع عنه ما يعطيه، فطلب ابن معمر من الشيخ الخروج من العيينة، فخرج الشيخ متوجها إلى الدرعية لوجود كثير من أتباعه فيها.
فلما وصل الشيخ إلى الدرعية سنة 1158هـ استقبله أميرها محمد بن سعود رحمه الله تعالى ، وبايعه على النصرة والجهاد في سبيل الله تعالى والدعوة إلى التوحيد ومحاربة الشرك والبدع.
فقامت الدولة السعودية الأولى ناصرة للتوحيد، واستمر الشيخ في جهاده ودعوته حتى توفي سنة 1206هـ، رحمه الله تعالى رحمة واسعة، وجزاه عنا خير الجزاء.
وللتوسع في سيرة الشيخ يراجع:
عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية. للشيخ د. صالح العبود.
وترجمته في علماء نجد خلال ثمانية قرون للشيخ عبد الله البسام.
والإمام محمد بن عبد الوهاب دعوته وسيرته لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز.
المقدمة الثانية: التعريف بالكتاب
كتاب التوحيد كتاب عظيم أثنى عليه علماء السنة، وأجمعوا على أنه لم يصنَّف في الإسلام في موضوعه مثلُه، فهو كتاب فريد في بابه، لم ينسج على منواله؛ لأن المؤلف V ذكر في هذا الكتاب مسائل توحيد العبادة، وما يضاد أصل التوحيد، أو يضاد كماله، فامتاز الكتاب بذكر أبواب توحيد العبادة فيذكر الباب ثم الأدلة من الكتاب والسنة والآثار، وقد يذكر كلاما لبعض العلماء، كالإمام البغوي وشيخ الإسلام ابن تيمية والعلامة ابن القيم، ثم يذكر المسائل التي يستنبطها رحمه الله تعالى من الأدلة، فهذا الكتاب على هذا النحو لم يعرف أن أحدا من العلماء سبق الشيخ إلى ذلك، فحاجة طلاب العلم إليه، وإلى معرفة معانيه ماسة؛ لما اشتمل عليه من الآيات، والأحاديث، والفوائد[3].
وطريقته في التأليف تشبه طريقة الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه، من حيث التبويب وذكر الآية والحديث وكلام أهل العلم.
وغالب ما في الكتاب هو تقرير توحيد العبادة (الألوهية) وبيان ما يضاده من الشرك الأكبر والأصغر، وبيان الذرائع المؤدية إلى الشرك، وذكر فيه شيئا من توحيد الربوبية والأسماء والصفات إجمالا.
وبلغ عدد الآيات التي ذكرها الشيخ في كتاب التوحيد ما يقارب الخمس والثمانين آية.
وعدد الأحاديث والآثار عن الصحابة M والتابعين C التي في كتاب التوحيد مائة وخمسة وسبعون حديثا وأثرا، منها مائة وثمانية وعشرون حديثا، وسبعة وأربعون أثرا[4].
وأما شروح الكتاب المطبوعة فكثيرة بلغت العشرات، وأما المسموعة فأكثر من ذلك.
وأولها شرح حفيد المؤلف الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى ، (ت: 1233هـ) وهو تيسير العزيز الحميد، لكنه لم يكمله، بل توقف في آخر باب ما جاء في منكري القدر، وما بعده من الأبواب، باب ما جاء في المصورين إلى آخر الكتاب لم يشرحه الشيخ سليمان رحمه الله تعالى ، وفي بعض طبعات التيسير أضافوا الشرح لبقية الأبواب من فتح المجيد للشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله تعالى.
وفتح المجيد للشيخ عبد الرحمن له عدة طبعات.
وشرحه مشايخنا سماحة الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين والشيخ صالح الفوزان والشيخ صالح آل الشيخ وغيرهم.
واعتنى جماعة من أهل العلم بتخريج أحاديثه وبيان الحكم عليها، وبعضهم نظمه، وبعضهم اختصره، وبعضهم ألف في منهج الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتاب التوحيد، وغير ذلك من صور العناية الفائقة من أهل العلم بهذا الكتاب المبارك.
فينبغي لطلاب العلم العناية بهذا الكتاب عناية كبيرة، بحفظه وفهمه ومدارسته ومراجعة مسائله بين وقت وآخر، ولا يكفي أن يُقرأ مرة واحدة، بل يعيد قراءته ودراسته مرارا، وفي كل مرة من دارسته تظهر لك مسائل وفوائد جديدة.
قال العلامة محمد تقي الدين الهلالي المغربي رحمه الله تعالى: (كتاب التوحيد لا يكفي أن تقرأه مرة واحدة، بل ينبغي أن تقرأه دائما، كلما ختمته بدأته من جديد، كما أفعل أنا؛ لأن الناس دائما في حاجة إليه، ليستيقن الموحد ويزداد رسوخا، وليرجع المشركُ عن شركه)[5].
وأنبه إلى أن الشرح سوف يكون مختصرا، ولن أتطرق للمسائل التي يذكرها المؤلف رحمه الله تعالى بعد كل باب مع أهميتها، نظرا لضيق الوقت.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (بسم الله الر حمن الرحيم).
ابتدأ كتابه بالبسملة (ثم بالحمدلة على ما في بعض النسخ) اقتداء بكتاب الله عز وجل، فإنه مُبتَدأٌ بالبسملة ثم الحمدلة.
واقتداء بالنبي ﷺ فإنه كان يبتدئ كتبه بالبسملة كما في كتابه لهرقل في الصحيحين.
وقوله: (كتاب التوحيد)
التوحيد في اللغة: مصدر وَحَّدَ الشيء إذا جعله واحداً.
وفي الشرع: إفراد الله تعالى بما يختص به في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته.
فالتوحيد ثلاثة أقسام: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية (العبادة)، وتوحيد الأسماء والصفات، وقد اجتمعت في قوله تعالى: ﴿رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَا فَٱعۡبُدۡهُ وَٱصۡطَبِرۡ لِعِبَٰدَتِهِۦۚ هَلۡ تَعۡلَمُ لَهُۥ سَمِيّٗا﴾.
1-توحيد الربوبية: هو إفراد الله تعالى بالخلق والملك والتدبير.
وتوحيد الربوبية أقر به غالب الخلق، حتى كفار قريش كانوا يقرون به.
2-توحيد الألوهية: وهو إفراد الله عز وجل بالعبادة.
وباعتبار إضافته إلى الخلق يسمى توحيد العبادة.
والعبادة كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
فالمستحق للعبادة هو الله وحده كما قال جل وعلا: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعۡبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمۡ وَٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة:21] فالمنفرد بالخلق هو المستحق للعبادة.
وهذا التوحيد كفر به أكثر الخلق ومن أجل ذلك أرسل الله الرسل وأنزل الكتب قال الله تعالى: ﴿وَمَآ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِيٓ إِلَيۡهِ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّآ أَنَا۠ فَٱعۡبُدُونِ﴾
وقد كان كفار قريش يقرون بتوحيد الربوبية كما أخبر الله عنهم بقوله: ﴿وَلَئِن سَأَلۡتَهُم مَّنۡ خَلَقَهُمۡ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُۖ فَأَنَّىٰ يُؤۡفَكُونَ﴾ [الزُّخرُف:87] وقولِه تعالى: ﴿قُلۡ مَن يَرۡزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلۡأَرۡضِ أَمَّن يَمۡلِكُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَٰرَ وَمَن يُخۡرِجُ ٱلۡحَيَّ مِنَ ٱلۡمَيِّتِ وَيُخۡرِجُ ٱلۡمَيِّتَ مِنَ ٱلۡحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَۚ فَسَيَقُولُونَ ٱللَّهُۚ فَقُلۡ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾ [يونس:31]
وكانوا مع ذلك يعبدونه ويخلصون له أنواعاً من العبادات كالحج والصدقة والدعاء وقت الاضطرار ونحو ذلك.
وإذا كان الأمر كذلك فلماذا قاتلهم النبي ﷺ وسفك دماءهم وأباح أموالهم مع هذا الإقرار بالربوبية وهذه العبادات التي يفعلونها؟ ما ذاك إلا لأجل شركهم في العبادة، فلم يوحدوا الله تعالى في العبادة، بل صرفوا أنواعا من العبادات لغير الله عز وجل.
فدل على أن توحيد الربوبية وحده لا يكفي الإقرار به، لا بد معه من توحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات.
3 – توحيد الأسماء والصفات، وهو إفراد الله تعالى بما سمى به نفسه، ووصف به نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله ﷺ، وذلك بإثبات ما أثبته، ونفي ما نفاه، من غير تحريف، ولا تعطيل، ومن غير تكييف، ولا تمثيل.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وقول الله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقۡتُ ٱلۡجِنَّ وَٱلۡإِنسَ إِلَّا لِيَعۡبُدُونِ﴾)
معنى ليعبدون: أي ليوحدون وقيل إلا لآمرهم وأنهاهم.
فالحكمة من خلق الجن والإنس هو عبادة الله تعالى وطاعته، ودلالة الآية لكتاب التوحيد ظاهرة.
(وقوله: ﴿وَلَقَدۡ بَعَثۡنَا فِي كُلِّ أُمَّةٖ رَّسُولًا أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجۡتَنِبُواْ ٱلطَّٰغُوتَ﴾ الآية)
المراد بالأمة هنا الطائفة من الناس.
والطاغوت مشتق من الطغيان وهو مجاوزة الحد.
وعرفه العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى: بأنه ما تجاوز به العبد حده من متبوع أو معبود أو مطاع. ومراده من كان راضياً بذلك.
أو يقال هو طاغوت باعتبار عابده وتابعه ومطيعه لأنه تجاوز به حده حيث نزَّله فوق منزلته التي جعلها الله له، فتكون عبادته لهذا المعبود واتباعه لمتبوعه وطاعته لمطاعه طغياناً لمجاوزته الحد بذلك.
فالمتبوع مثل الكهان والسحرة وعلماء السوء. والمعبود مثل الأصنام، والمطاع مثل الأمراء الخارجين عن طاعة الله فيحلون ما حرم الله، ويحرمون ما أحل الله، فيطيعهم فهؤلاء طواغيت.
ومعنى قوله: ﴿أَنِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجۡتَنِبُواْ ٱلطَّٰغُوتَ﴾ أي اعبدوا الله وحده واتركوا عبادة ما سواه كما قال تعالى: ﴿فَمَن يَكۡفُرۡ بِٱلطَّٰغُوتِ وَيُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسۡتَمۡسَكَ بِٱلۡعُرۡوَةِ ٱلۡوُثۡقَىٰ لَا ٱنفِصَامَ لَهَاۗ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ والعروة الوثقى هي لا إله إلا الله.
ووجه الاستدلال بهذه الآية لكتاب التوحيد: أنها دالة على إجماع الرسل عليهم الصلاة والسلام على الدعوة إلى التوحيد وأنهم أرسلوا به.
(وقوله: ﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنًا﴾ الآية)
قضاء الله تعالى ينقسم إلى قسمين: شرعي وكوني.
فالشرعي يجوز وقوعه وعدمه ويحبه الله كهذه الآية، والكوني لابد من وقوعه ويكون فيما يحبه الله وفيما لا يحبه كقوله تعالى: ﴿وَقَضَيۡنَآ إِلَىٰ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ فِي ٱلۡكِتَٰبِ لَتُفۡسِدُنَّ فِي ٱلۡأَرۡضِ مَرَّتَيۡنِ وَلَتَعۡلُنَّ عُلُوّٗا كَبِيرٗا﴾
فمعنى : ﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُ﴾ أي: أمر وأوجب ربك أن تعبدوه وحده دون ما سواه، وهذا معنى لا إله إلا الله.
فدلالة الآية على التوحيد ظاهرة.
(وقوله: ﴿وَٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡـٔٗا﴾ الآية)
هذه الآية فيها عمومان:
الأول: في قوله: ﴿وَلَا تُشۡرِكُواْ﴾ ففيه النهي عن أنواع الشرك؛ لأن النهي في قوله ﴿وَلَا تُشۡرِكُواْ﴾ تسلط على الفعل، والفعل فيه مصدر مُستكِنّ، والمصدر نكرة (إشراكاً) والنكرة في سياق النهي تفيد العموم، فتعم الآية الشرك الأكبر والأصغر.
والثاني: في قوله: (شيئاً) وهو نكرة جاءت في سياق النهي فتفيد العموم، فيعم كل ما يُشرَك به مع الله تعالى من ملَك ونبي وصالح وجن وشجر وحجر وغير ذلك.
ودلالة الآية على التوحيد ظاهرة، حيث أمر بعبادة الله تعالى، ونهى عن الإشراك به.
(وقوله: ﴿قُلۡ تَعَالَوۡاْ أَتۡلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمۡ عَلَيۡكُمۡۖ أَلَّا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شيۡٔٗا﴾ الآيات)
المعنى: يقول الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام (قل) لهؤلاء المشركين الذين عبدوا غير الله وحرَّموا ما رزقهم الله (تَعَالَواْ) أي هلموا وأقبلوا (أَتلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُم عَلَيكُم) أي أقص عليكم (مَا حَرَّمَ رَبُّكُم عَلَيكُم) حقاً ألا تشركوا به شيئاً، وكأن في الكلام محذوفاً دل عليه السياق. تقديره وصَّاكم أن لا تشركوا به شيئاً ولهذا قال في آخر الآية: (ذَٰلِكُم وَصَّىٰكُم بِهِ). قال ابن كثير رحمه الله تعالى: فيكون المعنى: حرم عليكم ما وصاكم بتركه من الإشراك به.
قال الشنقيطي رحمه الله تعالى في أضواء البيان: « الظاهر في قوله (مَا حَرَّمَ رَبُّكُم عَلَيكُم) أنه متضمن معنى ما وصاكم به فعلاً أو تركاً لأن كلاً من ترك الواجب وفعل الحرام حرام فالمعنى وصاكم أن لا تشركوا».
(قال ابن مسعود I: من أراد أن ينظر إلى وصية محمد ﷺ التي عليها خاتمة فليقرأ قوله تعالى: ﴿قُلۡ تَعَالَوۡاْ أَتۡلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمۡ عَلَيۡكُمۡ﴾ - إلى قوله - ﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسۡتَقِيمٗا ...﴾ الآية)
المعنى: من أراد أن ينظر إلى الوصية التي كأنها كُتبت وخُتم عليها فلم تُغير ولم تُبدل فليقرأ ...
شبهها بالكتاب الذي كُتب ثم خُتم فلم يُزد فيه ولم يُنقص فإن النبي ﷺ لم يوص إلا بكتاب الله تعالى.
(وعن معاذ بن جبل I قال: كنت رديف النبي ﷺ على حمار فقال لي: «يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟» فقلت: الله ورسوله أعلم. قال: «حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً» فقلت: يا رسول الله أفلا أبشر الناس؟ قال: «لا تبشرهم فيتكلوا» أخرجاه في الصحيحين)
قوله: (حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً) أي يوحدوه بالعبادة.
(وحق العباد على الله) أي أنه حق أوجبه الله تعالى على نفسه لعباده، تفضلا منه سبحانه.
(أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً)
وقوله: «من لا يشرك به شيئاً» لا يظن أنه مجرد عن العبادة؛ لأن التقدير من يعبده ولا يشرك به شيئاً ولم يذكر قوله: «من يعبده» لأنه مفهوم من قوله: (وحق العباد) ومن كان وصفه العبودية فلابد أن يكون عابداً.
قوله: «لا تبشرهم فيتكلوا» أي يعتمدوا على ذلك فيتركوا التنافس في الأعمال.
قال الوزير أبو المظفر: لم يكن يكتمها إلا عن جاهل يحمله جهله على سوء الأدب بترك الخدمة في الطاعة فأما الأكياس الذين إذا سمعوا بمثل هذا زادوا في الطاعة ورأوا أن زيادة النعم تستدعي زيادة الطاعة فلا وجه لكتمانها عنهم.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى: نهى ﷺ عن إخبارهم لئلا يعتمدوا على هذه البشرى وهم لا يفهمون معناها لأن تحقيق التوحيد يستلزم اجتناب المعاصي لأن المعاصي صادرة عن الهوى وهذا نوع من الشرك قال تعالى: ﴿أَفَرَءَيۡتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَٰهَهُۥ هَوَىٰهُ﴾ ا.هـ.
وفي رواية للبخاري (128): «وَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا». أي خشية الوقوع في الإثم.
ودل هذا على أن النهي عن تبشير الناس ليس للتحريم بل للتنزيه وإلا لما أخبر به أصلاً.
أو أنه ظهر له أن النهي عن إخبار عموم الناس بهذا الحديث، فبادر قبل موته فأخبر بها خاصاً من الناس ممن لا يخشى عليه الاتكال.
وفيه جواز كتمان العلم للمصلحة فإذا مست الحاجة أظهره فأخبر معاذ I بهذا الحديث خشية الوقوع في إثم من كتم علماً يعلمه لحديث: «من كتم علماً يعلمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار» رواه الترمذي.
فالناس يحدَّثون من العلم ما تبلغه عقولهم ويفهمونه ولا يترتب عليه فهم خاطئ منهم أو تشويش عليهم بينما طلبة العلم يلقى عليهم نوادر المسائل ودقائقها لكونهم يفهمونها على المراد منها.
وفي صحيح البخاري عن علي I: «حدثوا الناس بما يعرفونه أتريدون أن يكذب الله ورسوله».
2-(باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب)
مناسبة الباب لما قبله:
لما ذكر المؤلف رحمه الله تعالى معنى التوحيد ناسب ذكر فضله وتكفيره للذنوب ترغيباً فيه وتحذيراً من ضده.
قوله: (وما يكفر) يجوز أن تكون (ما) موصولة، والعائد محذوف، أي والذي يكفره من الذنوب. يعني وبيان الذي يكفره التوحيد من الذنوب.
ويجوز أن تكون (ما) مصدرية، أي وتكفيره الذنوب، وهذا الثاني أظهر لأن الأول يوهم أن هناك ذنوباً لا يكفرها التوحيد.
(وقول الله تعالى: ﴿ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمۡ يَلۡبِسُوٓاْ إِيمَٰنَهُم بِظُلۡمٍ﴾ الآية)
قال الله تعالى: ﴿ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمۡ يَلۡبِسُوٓاْ إِيمَٰنَهُم بِظُلۡمٍ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمُ ٱلۡأَمۡنُ وَهُم مُّهۡتَدُونَ﴾ [الأنعام:82]
(لم يلبسوا): لم يخلطوا.
(بظلم) ظلم: نكرة في سياق النفي، وهذا يدل على عموم أنواع الظلم، لكن هذا العموم يُراد به الخصوص، وهو أحد أنواع الظلم وهو الشرك.
فقد روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود I قال: لما نزلت ﴿ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمۡ يَلۡبِسُوٓاْ إِيمَٰنَهُم بِظُلۡمٍ﴾ قلنا يا رسول الله أينا لا يظلم نفسه؟ قال: «ليس كما تقولون، لم يلبسوا إيمانهم بظلم بشرك. أولم تسمعوا قول لقمان لابنه: ﴿يَٰبُنَيَّ لَا تُشۡرِكۡ بِٱللَّهِۖ إِنَّ ٱلشِّرۡكَ لَظُلۡمٌ عَظِيمٞ﴾ [لقمان:13]
فالمعنى أن من أخلص العبادة لله وحده ولم يشرك به شيئاً فهو آمن يوم القيامة مهتدٍ في الدنيا والآخرة.
والظلم أنواع: 1- أظلم الظلم وهو الشرك بالله تعالى.
2- ظلم الإنسان نفسه بما دون الشرك.
3- ظلم العباد.
فمن كان معه إيمان مطلق، أي إيمان كامل لم يخالطه أي نوع من أنواع الظلم فله الأمن المطلق أي الكامل، بمعنى أنه لا يعذب.
أما من كان معه مطلق إيمان أي ليس كاملاً وإنما فيه نقص من ظلم لنفسه بالذنوب التي هي دون الشرك أو ظلمٍ للعباد ونحو ذلك من المعاصي مع سلامته من الشرك فله مطلق الأمن أي أمن ناقص فهو آمن من الخلود في النار إلا أنه لفعله بعض الذنوب التي هي دون الشرك لم يكن له الأمن الكامل، فهو غير آمن من دخول النار، لأنه واقع تحت المشيئة، وهذا في الذنوب التي هي كبائر، أما الصغائر فتكفَّر باجتناب الكبائر.
وبهذا يتبين فضل التوحيد وأن من أتى به تاما فله الأمن التام، ومن أتى به ناقصا بالذنوب التي دون الشرك فهو أيضا آمن من الخلود في النار، ولا بد أن يدخل الجنة، إما دخول أوليا برحمة الله تعالى، وإما بعد أن يدخل النار ويطهر من ذنوبه ثم يدخل الجنة.
(عن عبادة بن الصامت I قال: قال رسول الله ﷺ: (من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل). أخرجاه)
(من شهد أن لا إله إلا الله) أي تكلم بها عارفاً لمعناها عاملاً بمقتضاها باطناً وظاهراً كما قال تعالى: ﴿فَٱعۡلَمۡ أَنَّهُۥ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا ٱللَّهُ وَٱسۡتَغۡفِرۡ لِذَنۢبِكَ﴾ [محمد:19]
أما مجرد النطق بها من غير معرفة بمعناها ولا يقين ولا عمل بما تقتضيه من نفي الشرك وإخلاص القول والعمل فغير نافع بالإجماع.
فالمنافق يقول: لا إله إلا الله، وهي لا تنفعه بالإجماع.
ومعنى لا إله إلا الله: لا معبود بحق إلا الله.
قوله: «وحده لا شريك له» تأكيد للإثبات والنفي.
والإله هو المعبود المطاع الذي تألهه القلوب أي تعبده محبةً وإجلالاً.
قوله: ( وأن محمداً عبده ورسوله ) أي وشهد أن محمداً عبده ورسوله، وُصف ﷺ بهاتين الصفتين دفعاً للإفراط والتفريط في حقه فهو عبد لا يُعبد ورسول لا يكذب.
وشهادة أن محمداً رسول الله تقتضي طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن لا يُعبد الله إلا بما شرع.
قوله (وأن عيسى عبد الله ورسوله) أي خلافاً لما يعتقده النصارى أنه الله أو ابن الله أو ثالث ثلاثة تعالى الله عن ذلك علوا كبيراً ﴿مَا ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ مِن وَلَدٖ وَمَا كَانَ مَعَهُۥ مِنۡ إِلَٰهٍۚ﴾[المؤمنون:91]
قوله : (وكلمته) أطلق الله عليه كلمة لأنه خُلق بالكلمة عليه السلام، فوجد بكلمة (كن) فهو على خلاف بقية البشر الذين يولدون من أب وأم.
وقوله : (ألقاها إلى مريم وروح منه)
أي وجهها إلى مريم عن طريق جبريل عليه السلام فنفخ فيها من روحه بإذن ربه عز وجل فكان عيسى عليه السلام.
قوله: (وروح منه) أي روح مخلوقة مبتدأة من الله تعالى، و (منه) هنا لابتداء الغاية.
قوله: (والجنة حق والنار حق) أي وشهد أن الجنة حق والنار حق.
قوله: (أدخله الله الجنة على ما كان من العمل ) هذه جملة جواب الشرط وفي رواية :(أدخله الله الجنة من أي أبواب الجنة الثمانية شاء) ففي هذا الحديث فضل التوحيد وأنه سبب لدخول الجنة.
ومعنى (على ما كان من العمل) فيه قولان:
1- أي على ما كان من عمل صالح أو فاسد، فحتى من يعمل السيئات التي هي دون الشرك فإن ذلك لا يحول بينه وبين دخول الجنة إما من أول وهله وإما في النهاية أي أنه وإن عذب بسبب ذنوبه فإنه لا يخلد في النار بل يدخل الجنة بعد ذلك خالدًا فيها.
2- على ما كان من عمل أي يدخل الجنة فتكون منزلته فيها بحسب عمله لأن أهل الجنة يتفاوتون في منازلهم بحسب أعمالهم فمنهم من يكون في أعلاها ومنهم دون ذلك.
(ولهما في حديث عتبان: (فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله))
وهذا يدل على فضل التوحيد، فإن من وحد الله تعالى مخلصا له حرمه الله تعالى على النار، بأن يحرِّم الله عليه دخولها أبدا، أو يحرِّم الله عليه الخلود فيها.
والحاصل أن لا إله إلا الله سبب لدخول الجنة والنجاة من النار ومقتض لذلك، ولكن المقتضي لا يعمل عمله إلا باستجماع شروطه وانتفاء موانعه فقد يتخلف عنه مقتضاه لفوات شرط من شروطه أو لوجود مانع. ولهذا قيل للحسن: إن ناسًا يقولون من قال لا إله إلا الله دخل الجنة فقال: من قال لا إله إلا الله فأدى حقها وفرضها دخل الجنة.
(وعن أبي سعيد الخدري I عن رسول الله ﷺ قال: (قال موسى: يا رب، علمني شيئاً أذكرك وأدعوك به. قال: يا موسى: قل لا إله إلا الله. قال: يا رب كل عبادك يقولون هذا. قال: يا موسى، لو أن السموات السبع وعامرهن غيري، والأرضين السبع في كفة، ولا إله الله في كفة، مالت بهن لا إله الله) رواه ابن حبان، والحاكم وصححه)
قوله :(علمني شيئا أذكرك وأدعوك به) يعني أثني عليك وأسالك به.
فقال: (قل يا موسى: لا إله إلا الله) فهذه الكلمة ذكر متضمن للدعاء؛ لأن الذاكر يريد رضا الله عنه، والوصولَ إلى دار كرامته.
قوله: (كل عبادك يقولون هذا) أي أريد شيئا تخصني به عن عبادك.
قوله: (لو أن السماوات السبع وعامرهن غيرى) أي ساكنهن، وقوله: (غيري) استثنى نفسه تبارك وتعالى؛ لأن قول لا إله إلا الله ثناء عليه، والمثنى عليه أعظم من الثناء.
قوله: (والأرضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله) أي لو أن السماوات السبع ومن فيهن من العمار غير الله تعالى والأرضين السبع ومن فيهن وضعوا في كفة الميزان ولا إله إلا الله في الكفة الأخرى مالت ورجحت بهن لا إله إلا الله، وذلك لما اشتملت عليه من نفي الشرك، وتوحيد الله تعالى الذي هو أفضل الأعمال.
ودلالة الحديث على فضل التوحيد ظاهرة.
(وللترمذي وحسنه عن أنس I: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (قال الله تعالى: يا ابن آدم؛ لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة).
قوله:(لو أتيتني بقُراب الأرض خطايا) أي ملؤُها أو يقارب ملأها.
قوله:(ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا) هذا شرط ثقيل في الوعد بحصول المغفرة وهو السلامة من الشرك كثيرة وقليله صغيره وكبيره ولا يسلم من ذلك إلا من سلمه الله تعالى.
قال شيخ الإسلام: الشرك نوعان: أكبر وأصغر فمن خلص منهما وجبت له الجنة، ومن مات على الأكبر وجبت له النار، ومن خلص من الأكبر وحصل له بعض الأصغر مع حسنات راجحة على ذنوبه دخل الجنة، فإن تلك الحسنات توحيد كثير مع يسير من الشرك الأصغر، ومن خلص من الأكبر ولكن كثر الأصغر حتى رجحت به سيئاته دخل النار، فالشرك يؤاخذ به العبد إذا كان أكبر أو أصغر، والأصغر القليل في جانب الإخلاص الكثير لا يؤاخذ به.
3-باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب
هذا الباب كالمتمم للباب الذي قبله وهو باب فضل التوحيد وما يكفِّر من الذنوب.
فمن فضل التوحيد أن من حققه حصل له هذا الفضل العظيم وهو دخول الجنة بغير حساب.
ومعنى تحقيق التوحيد:
أي تخليصه من شوائب الشرك والبدع والمعاصي، وتحقيق التوحيد عزيز في الأمة لا يوجد إلا في أهل الإيمان الخُلَّص، الذين أخلصهم الله تعالى واصطفاهم من خلقه.
ولا بد في تحقيق التوحيد من العلم ثم اعتقاده ثم الانقياد لما يقتضيه هذا التوحيد وذلك بالعمل بما يرضي الله تعالى واجتناب ما يسخطه.
وتحقيق التوحيد على درجتين:
1- واجبة: وهي أن يترك ما يجب تركه من الشرك كبيره وصغيره وخفيه وجليه والبدع والمعاصي.
2- مستحبة: هي التي يتفاضل فيها المحققون للتوحيد تفاضلاً عظيماً وهي ألا يكون في القلب شيء من التوجه أو القصد لغير الله عز وجل فنطقه لله وحركة قلبه لله تعالى وقد عبر عن هذه الدرجة بعض أهل العلم بأن يترك ما لا بأس به حذراً مما به بأس.
وقول الله تعالى: ﴿إِنَّ إِبۡرَٰهِيمَ كَانَ أُمَّةٗ قَانِتٗا لِّلَّهِ حَنِيفٗا وَلَمۡ يَكُ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ﴾.
وصف الله عز وجل خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام في هذه الآية بعدة صفات، هي:
1- أنه كان أمة أي قدوة وإماماً معلماً للخير وذلك لتكميله مقام الصدق واليقين الذين تُنال بهما الإمامة في الدين.
2- أنه كان قانتاً أي مستمراً على طاعة الله.
3- أنه كان حنيفاً، أي مائلاً قصداً عن الشرك.
4- أنه ما كان من المشركين، وذلك لصحة إخلاصه وكمال صدقه وبعده عن الشرك.
فوصفه الله تعالى بامتناع الشرك استمراراً في قوله: (حَنِيفا) وابتداءً في قوله: ﴿وَلَمۡ يَكُ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ﴾ أي ولم يكن فاعلاً للشرك بأنواعه.
وجه الدلالة من الآية للباب: أن الله عز وجلوصف نبيه إبراهيم عليه السلام بهذه الصفات التي هي الغاية في تحقيق التوحيد ترغيباً في اتباعه في ذلك، فمن تبعه في ذلك فإنه يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب كما يدخلها إبراهيم عليه السلام .
وقال: ﴿وَٱلَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمۡ لَا يُشۡرِكُونَ﴾.
هذه الآية وصف للمؤمنين السابقين إلى الجنة حيث يقول عز وجل في وصفهم: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ هُم مِّنۡ خَشۡيَةِ رَبِّهِم مُّشۡفِقُونَ 57 وَٱلَّذِينَ هُم بَِٔايَٰتِ رَبِّهِمۡ يُؤۡمِنُونَ 58 وَٱلَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمۡ لَا يُشۡرِكُونَ 59 وَٱلَّذِينَ يُؤۡتُونَ مَآ ءَاتَواْ وَّقُلُوبُهُمۡ وَجِلَةٌ أَنَّهُمۡ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ رَٰجِعُونَ 60 أُوْلَٰٓئِكَ يُسَٰرِعُونَ فِي ٱلۡخَيۡرَٰتِ وَهُمۡ لَهَا سَٰبِقُونَ 61﴾ [المؤمنون:57-61]
فأثني الله تعالى عليهم بالصفات التي أعظمها أنهم برهم لا يشركون أي لا شركاً أكبر ولا أصغر، فيعم جميع أنواع الشرك وذلك أن النفي إذا تسلط على الفعل المضارع فإنه يفيد عموم المصدر الذي استكن في الفعل، والمصدر هو ( إشراكاً ) وهو نكرة في سياق النفي فتفيد عموم أنواع الشرك والذي لا يشرك بأي نوع من أنواع الشرك هو الموحد المحقق للتوحيد.
والمعاصي بالمعنى الأعم يمكن أن نعتبرها من الشرك لأنها صادرة عن هوى مخالف للشرع، قال تعالى: ﴿أَفَرَءَيۡتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَٰهَهُۥ هَوَىٰهُ﴾ [الجاثية:23] أما بالمعنى الأخص فتنقسم إلى شرك أكبر وأصغر ومعصية كبيرة وصغيرة.
فقوله تعالى :(لا يشركون) يراد به الشرك بالمعنى الأعم إذ تحقيق التوحيد لا يكون إلا باجتناب الشرك كبيره وصغيره وجميع المعاصي الكبيرة والصغيرة.
ولكن ليس معنى ذلك أن محقق التوحيد لا تقع منه معصية لأن كل ابن آدم خطاء وليس بمعصوم ولكن إذا وقعت منه المعصية فإنه يتوب منها ولا يستمر عليها كما قال سبحانه : ﴿وَٱلَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَٰحِشَةً أَوۡ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ ذَكَرُواْ ٱللَّهَ فَٱسۡتَغۡفَرُواْ لِذُنُوبِهِمۡ وَمَن يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ إِلَّا ٱللَّهُ وَلَمۡ يُصِرُّواْ عَلَىٰ مَا فَعَلُواْ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ﴾ [آل عمران:135]
(عن حصين بن عبد الرحمن قال: كنت عند سعيد بن جبير فقال: أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة؟ فقلت: أنا، ثم قلت: أما إني لم أكن في صلاة، ولكني لُدِغت، قال: فما صنعت؟ قلت: ارتقيت قال: فما حملك على ذلك؟ قلت: حديث حدثناه الشعبي، قال وما حدثكم؟ قلت: حدثنا عن بريدة بن الحصيب أنه قال: لا رقية إلا من عين أو حمة. قال: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع. ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي ﷺ أنه قال: (عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم، فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه، فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، ثم نهض فدخل منزله. فخاض الناس في أولئك، فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله ﷺ. وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئاً، وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه فأخبروه، فقال: (هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون) فقام عكاشة بن محصن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. قال: (أنت منهم) ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: (سبقك بها عكاشة).
قوله:(عن حصين بن عبد الرحمن) هو السلمي ثقة من التابعين، مات سنة 136هـ.
(قال: كنت عند سعيد بن جبير) هو الإمام الفقيه من أجل أصحاب ابن عباس M قتل بين يدي الحجاج سنة 95هـ.
(أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة) أي سقط البارحة.
والكوكب هو الشهاب الذي يُرمى به الشياطين الذين يسترقون السمع.
(فقلت أنا) أي حصين ودل هذا على أنه لم ينم البارحة، فخاف أن يُظن أنه رآه وهو يصلي في الليل، فأراد أن ينفي ذلك فقال:
(ثم قلت: أما إني لم أكن في صلاة) وهذا يدل على حرص السلف C على الإخلاص وابتعادهم عن الرياء والتزين بما ليس فيهم.
(ولكني لدغت) أصابته ذوات السموم بسمها كالعقرب ونحوها.
(قال فما صنعت؟ قلت: ارتقيت) وفي رواية مسلم (استرقيت) أي طلبت من يرقاني، والرقية هي القراءة على المصاب بالمرض أو اللدغ من القرآن والأدعية وينفث على موضع الألم.
(قال: فما حملك على هذا؟) فيه طلب الدليل على ما يفعله، وأن السلف كانوا يذاكرون العلم ويطلبون الدليل.
(قلت: حديث حدثناه الشعبي) واسمه عامر بن شُراحيل الهمْداني ولد في خلافة عمرI وهو من ثقات التابعين وفقهائهم مات سنة 103هـ.
(قال: وما حدثكم؟ قلت: حدثنا عن بريدة بن الحُصَيب) صحابي شهير I، مات سنة 63هـ.
(أنه قال: لا رقية إلا من عين أو حُمَة)[6].
العين: هي إصابة غيره بعينه.
والعائن الذي يؤذي غيره بسبب تلك النظرة الخبيثة يضره لأمرين:
1- شدة العداوة والحسد من العائن لمن ينظر إليه.
2- الإعجاب وهو أن يرى الناظر الشيء رؤية إعجاب فيؤثر ذلك في المتعجب منه.
والحُمَة: هي سم العقرب وشبهها.
ومعنى الحديث والله أعلم أي لا رقية أشفى وأنفع من رقية العين والحمة وإلا فإن الرقية تنفع في سائر الأمراض غير العين والحمة.
ويدل على أن الرقية من الحمة مفيدة قصة السرية الذين قرأوا على اللديغ فبرأ.
(قال: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع) أي من أخذ بما بلغه من العلم وعمل به فقد أحسن. وفيه فضيلة علم السلف وحسن أدبهم.
(ولكن حدثنا ابن عباس) L (عن النبي ﷺ قال: «عُرضتْ عليَّ الأمم»)
الله أعلم متى عرضت، وعَرضُها: أن الله تبارك وتعالى أراه مثالها إذا جاءت الأنبياء عليهم السلام ومن تبعهم.
(فرأيت النبي ومعه الرهط) الرهط هم الجماعة من الثلاثة إلى التسعة.
(والنبي ومعه الرجل والرجلان) الظاهر أن الواو بمعنى أو، أي النبي ومعه الرجل، والنبي الآخر ومعه الرجلان؛ لأنه لو كانت الواو بمعنى الجمع لكان يغني أن يقول ومعه الثلاثة.
وفي صحيح مسلم (332) عن أنس I قال: قال النبي ﷺ: «أنا أول شفيع في الجنة لم يصدق نبي من الأنبياء ما صُدقت وإن من الأنبياء نبياً ما يصدقه من أمته إلا رجل واحد»
(والنبي وليس معه أحد) أي يُبعث في قومه فلا يتبعه منهم أحد وإنما يبعثه الله تعالى لإقامة الحجة على الناس. وفيه الرد على من احتج بالكثرة.
(إذ رفع لي سواد عظيم) أي أشخاصاً من بعيد كأنهم من كثرتهم سواداً.
(فظننت أنهم أمتي) لأنه عليه الصلاة والسلام أكثر الأنبياء أتباعاً.
(فقيل لي هذا موسى وقومه) فيه فضيلة لموسى عليه السلام لكونه أكثر الأنبياء أتباعاً بعد نبينا محمد ﷺ.
(فقيل لي: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب)
وفي حديث أبي هريرة I في الصحيحين: «أنهم تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر».
وزاد الإمام أحمد في المسند (22156): «مع كل ألف سبعون ألفاً».
(ثم نهض) أي قام.
(فخاض الناس في أولئك) والمراد بالناس الحاضرون، وهذا من العام الذي أُريد به الخصوص.
فالصحابة M اهتموا من هذا الأمر فصاروا يبحثون فيما بينهم من هم هؤلاء الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب.
وفيه عمق علم السلف لمعرفتهم أنهم لم ينالوا ذلك إلا بعمل.
(فقال بعضهم فلعلهم الذين صحبوا رسول الله ﷺ) قالوا ذلك لعلمهم بفضل صحابة رسول الله ﷺ كما في حديث «لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو انفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» متفق عليه.
(وقال بعضهم فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام ولم يشركوا بالله شيئاً) أي ولدوا بعد بعثة النبي ﷺ من أولاد المسلمين.
(وذكروا أشياء) أي غير ما سبق.
وفيه من الفوائد أن المجتهد إذا لم يكن معه دليل لا يجوز له أن يجزم بصواب نفسه بل يقول: لعل الحكم كذا، كقول الصحابة M في هذا الحديث.
(فخرج عليهم فأخبروه) أي النبي ﷺ.
(فقال هم الذين لا يسترقون) هكذا في الصحيحين وفي رواية لمسلم: (لا يرقون)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (هذه الزيادة وهم من الراوي لم يقل النبي ﷺ: «ولا يرقون»، لأن الراقي محسن إلى أخيه، وقد قال النبي ﷺ وقد سئل عن الرقى فقال: «من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه»)[7].
وقد رقى جبريل عليه السلام النبي ﷺ كما عند مسلم وفي الصحيحين أن النبي ﷺ رقى أصحابه.
والفرق بين الراقي والمسترقي:
أن الراقي محسن والمسترقي سائل ملتفت إلى غير الله بقلبه فالطالب للرقية يكون في قلبه ميل للراقي حتى يرفع ما به من جهة السبب لأن الناس في الرقية تتعلق قلوبهم جداً بالراقي أكثر من تعلقهم بالطب ونحوه وهذا ينافي كمال التوكل على الله عز وجل.
فمن طلب الرقية فقد فاته الكمال.
أما إذا أتاه من يريد أن يرقيه بدون طلب منه فهنا لا يمنعه لأنه لم يسترق ولم يطلب ولأن النبي ﷺ لم يمنع عائشة أن ترقيه وكذلك الصحابة لم يمنعوا أحداً أن يرقيهم فهذا لا يؤثر على التوكل ولا ينافي الكمال أما المنع هنا فهو خلاف السنة.
فمعنى (لا يسترقون) أي لا يطلبون من أحد أن يرقيهم لقوة توكلهم على الله تعالى وعزة نفوسهم عن التذلل للمخلوق لأن سؤال المخلوق فيه نوع ذلة. ولما في ذلك من التعلق بغير الله تعالى.
(ولا يكتوون) أي لا يسألون غيرهم أن يكويهم.
والكي بالنار نوع من أنواع الطب كما في الصحيح أن النبي ﷺ قال: «الشفاء في ثلاثة: شربة عسل وشرطة محجم وكية نار وأنا أنهى أمتي عن الكي»، وفي لفظ: «وما أحب أن أكتوي».
والكي في الأصل جائز مع الكراهة لأن فيه تعذيباً بالنار، والعرب تعتقد أن الكي يحدث المقصود دائماً فلهذا تتعلق القلوب بالكي من جهة أنه سبب يؤثر دائماً فلهذا تركه أكمل في التوكل على الله تعالى.
(ولا يتطيرون) أي لا يتشاءمون.
(وعلى ربهم يتوكلون) هذا هو الأصل الجامع الذي تفرعت عنه هذه الخصال وهو التوكل على الله تعالى.
ومن لم يتصف بهذه الصفات لا يذم وإنما فاته الكمال إلا التطير فإنه شرك كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وهذا الحديث لا يُفهم منه أن هؤلاء لا يباشرون الأسباب أصلاً لأن مباشرة الأسباب أمر لابد منه بل إن التوكل على الله تعالى هو من أعظم الأسباب كما قال سبحانه: «ومن يتوكل على الله فهو حسبه» أي كافيه ولأنه عليه الصلاة والسلام أمر بالتداوي وهو من أخذ الأسباب.
وإنما المراد أنهم يتركون الأمور المكروهة مع حاجتهم إليها توكلاً على الله كالاكتواء والاسترقاء.
فهذه الأمور الثلاثة المذكورة في الحديث تنقص التوكل على الله تعالى وهي الاسترقاء والاكتواء والتطير لما فيها من التفات القلب لغير الله تعالى
(فقام عكاشة بن محصن I) صحابي كان من السابقين إلى الإسلام شهد بدراً واستشهد في قتال الردة مع خالد بن الوليد L.
(فقال يا رسول الله: ادع الله أن يجعلني منهم قال: أنت منهم) وهذا لما يعلمه ﷺ من فضله وجهاده كما في الصحيحين: «لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم».
(ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم قال: سبقك بها عكاشة)
قال القرطبي: «لم يكن عند الثاني من الأحوال ما كان عند عكاشة فلذلك لم يجبه إذ لو أجابه لجاز أن يطلب ذلك كل من كان حاضراً فيتسلسل الأمر فسد الباب بقوله ذلك.»
4-باب الخوف من الشرك
مناسبة الباب لما قبله:
لما ذكر المؤلف رحمه الله تعالى في الأبواب السابقة فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب وأن من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب ناسب أن يذكر بعده هذا الباب باب الخوف من الشرك لبيان أن تحقيق التوحيد عند أهله هو مع الخوف من الشرك، ولأنه لا يوجد محقق للتوحيد على وجه الكمال ولا يكون خائفاً من الشرك فذكر هذا الباب ليحذَر المؤمنُ من الشرك، ويخافَ على نفسه الوقوع فيه.
والخوف من الشرك يثمر: أن يكون متعلماً للشرك بأنواعه حتى لا يقع فيه ويعرف الأسباب الموصلة إليه ليجتنبها ولهذا قال حذيفة I : كان الناس يسألون رسول الله ﷺ عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه.
وذلك أن من لم يعرف إلا الخير قد يأتيه الشر ولا يعرف أنه شر فإما أن يقع فيه وإما أن لا ينكره كما ينكره الذي عرفه.
وقول الله عز وجل: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغۡفِرُ أَن يُشۡرَكَ بِهِۦ وَيَغۡفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُ﴾.
المعنى: أن الله لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك ويغفر ما هو دون الشرك من الذنوب؛ لأن الشرك لا يغفره الله تعالى لصاحبه وهذا يوجب شدة الخوف من الشرك.
والشرك أظلم الظلم وفيه تنقص لرب العالمين وصرف خالص حقه لغيره، وعَدل غيره به كما قال تعالى : ﴿ثُمَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمۡ يَعۡدِلُونَ﴾ [الأنعام:1]
والشرك ينقسم إلى أكبر وأصغر:
فالشرك الأكبر: هو أن يجعل لله نداً في ربوبيته أو ألوهيته أو أسمائه وصفاته.
وعُرِّف بأنه: تسوية غير الله بالله فيما هو من خصائص الله[8]
والشرك الأصغر: هو ما جاء في النّصوص أنه شركٌ ولم يَصِلْ إلى حدِّ الشّركِ الأكبر[9] وعُرِّف أيضاً بأنه: كلُّ وسيلة وذريعة يُتَطَرَّقُ منها إلى الشِّرْكِ الأكبرِ من الإراداتِ والأقوالِ والأفعالِ التي لم تبلغْ رتْبةَ العبادةَ[10].
وقال الخليل عليه السلام: ﴿وَٱجۡنُبۡنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعۡبُدَ ٱلۡأَصۡنَامَ﴾.
المعنى: اجعلني وبني في جانب عن عبادة الأصنام وباعد بيننا وبينها.
ثم بين ما يوجب الخوف من ذلك بقوله: ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضۡلَلۡنَ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِ﴾ [إبراهيم:36]
فإنه هو الواقع في كل زمان.
وجه الدلالة من الآية للترجمة: أن إبراهيم عليه السلام وهو من بلغ الغاية في تحقيق التوحيد ومع ذلك خاف من الوقوع في الشرك فسأل ربه جل جلاله أن يباعده وبنيه عن عبادة الأصنام وإذا كان هذا حال إبراهيم عليه السلام فكيف بغيره، قال إبراهيم التيمي: ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم.
ثم إن في قوله: ﴿رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضۡلَلۡنَ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلنَّاسِ﴾ دليل على أن كثيراً من الناس قد وقعوا في الشرك وضلوا بعبادة الأصنام وهذا يوجب للقلب الحي أن يخاف من الشرك، لا كما يقول بعض الجهال: أن الشرك لا يقع في هذه الأمة، ولهذا لما أمنوا الشرك وقعوا فيه.
وفي حديث: (أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر)، فسئل عنه فقال: (الرياء).
هكذا أورده المؤلف رحمه الله تعالى مختصراً وقد رواه الإمام أحمد عن محمود بن لبيد I أن رسول الله ﷺ قال: (إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر) قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله قال: (الرياء، يقول الله تعالى يوم القيامة إذا جُزِي الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاءً). وحسن إسناده الحافظ.
وجه الدلالة أن الشرك الأصغر إذا كان يخافه النبي ﷺ على الصحابة رضوان الله عليهم مع كمال علمهم وقوة إيمانهم فمن هو دونهم في العلم والإيمان أولى أن يخاف على نفسه الوقوع في الشرك الأصغر.
وإذا كان هذا الخوف من الشرك الأصغر وهو لا يخرج من الملة فكيف بالشرك الأكبر المخرج من الملة والعياذ بالله.
وروى البخاري في الأدب المفرد (716) عن معقل بن يسار I قال: انطلقت مع أبي بكر الصديق I إلى النبي ﷺ فقال: «لَلشرك فيكم أخفى من دبيب النمل» فقال أبو بكر: وهل الشرك إلا من جعل مع الله إلهاً آخر؟ فقال النبي ﷺ: «والذي نفسي بيده للشرك فيكم أخفى من دبيب النمل، ألا أدلك على شيء إذا فعلته ذهب عنك قليلة وكثيره؟ قال: «قل: اللهم إني أعوذ بك من أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم.».
وإنما خاف النبي ﷺ على الصحابة M الشرك الأصغر لأن النفوس مجبولة على حب الرياسة والمنزلة في قلوب الخلق إلا من سلَّم الله تعالى، فكان الداعي إلى الشرك الأصغر أقوى في قلوب الصالحين من الشرك الأكبر.
(وعن ابن مسعود I أن رسول الله ﷺ قال: (من مات وهو يدعو من دون الله نداً دخل النار) رواه البخاري)
قوله: «يدعو» الدعاء على قسمين:
دعاء مسألة: وهو أن يطلب الداعي ويسأل ربه ما ينفعه وما يكشف ضره.
دعاء عبادة: وهو يشمل جميع أنواع العبادة الظاهرة والباطنة.
لأن المتعبد لله تعالى في الحقيقة داع بلسان حاله فهو يريد بهذه العبادة الثواب والسلامة من العقاب.
وروى الترمذي عن النعمان بن بشير I أن النبي ﷺ قال: «الدعاء هو العبادة» وصححه الألباني.
قوله: (من دون الله) يشمل من دعا الله ودعا معه غيره، ومن دعا غير الله وتوجه إليه استقلالاً.
قوله: (نداً) الند: الشبيه والمثيل.
قوله: (دخل النار) أي خالداً فيها لأن الشرك الأكبر محبط للعمل كما قال الله تعالى: ﴿لَئِنۡ أَشۡرَكۡتَ لَيَحۡبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾[الزُّمَر:65]
هذا إن كان اتخاذ الند من قبيل الشرك الأكبر بأن يجعله شريكاً لله تعالى في أنواع العبادة أو بعضها، أما إن كان من قبيل الشرك الأصغر فإنه لا يحبط العمل، وقد ثبت عن النبي ﷺ أن التنديد يكون في الشرك الأصغر، كما في قوله «أجعلتني لله ندا؟» عندما قال الرجل: ما شاء الله وشئت.
وجه الدلالة من حديث ابن مسعود I: أنه لما كانت عقوبة الشرك بالله تعالى هي دخول النار فإن هذا يوجب الخوف من الوقوع في الشرك لأن المشرك قد خسر آخرته والعياذ بالله.
ولمسلم عن جابر I، أن رسول الله ﷺ قال: (من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار).
هذا كالذي قبله.
5- (باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله)
مناسبة الباب لما قبله:
لما ذكر المصنف رحمه الله تعالى التوحيد وفضله وما يوجب الخوف من ضده وهو الشرك نبه بهذه الترجمة على أنه لا ينبغي لمن عرف ذلك أن يقتصر على نفسه بل يجب عليه أن يدعو إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة كما هو سبيل المؤمنين وأتباعهم.
(وقوله الله تعالى: ﴿قُلۡ هَٰذِهِۦ سَبِيلِيٓ أَدۡعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِي﴾ الآية)
قوله: (قُل) أي يا محمد ﷺ
قوله: (هَٰذِهِۦ سَبِيلِيٓ) أي هذه الدعوة التي ادعوا إليها من الدعاء إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له دون الآلهة التي تعبد من دونه وطاعته واجتناب معصيته هي طريقتي.
قوله: (أَدۡعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِۚ) لابد للداعي أن تكون دعوته إلى الله تعالى لا إلى نفسه فالداعي إلى الله تعالى هو المخلص الذي يريد هداية الناس وصلاحهم بغض النظر عن مدحهم وثنائهم عليه أو ذمهم له.
قوله: (عَلَىٰ بَصِيرَةٍ) أي على علم والعلم هنا يراد به العلم الشرعي والعلم بحال المدعو والعلم بالطريق الموصل إلى المقصود وهو الحكمة.
قوله: (أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِيۖ) أي يدعو إليه على بصيرة أيضاً من اتبعني وآمن بي.
قوله: (وَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ) أي أُنزه الله تعالى عن أن يكون له شريك.
قوله: (وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ) أي أنا بريء من أهل الشرك بالله تعالى.
وجه الدلالة من الآية للترجمة:
ظاهر، وذلك أن الآية قد دلت على أن النبي ﷺ وأتباعه هم الدعاة إلى الله على بصيرة، ودعوتهم أساسها التوحيد وهو شهادة ألا إله إلا الله.
وفي هذه الآية بيان أن الداعي إلى الله تعالى لابد له من علم يسبق دعوته فلا يجوز لمن ليس عنده علم أن يدعو إلى الله لأنه يفسد أكثر مما يصلح.
(عن ابن عباس L، أن رسول الله ﷺ، لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له: (إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله ـ وفي رواية: إلى أن يوحدوا الله ـ فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك: فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) أخرجاه)
قوله: (لما بعث معاذاً إلى اليمن) كان بعث معاذ إلى اليمن سنة عشر قبل حج النبي ﷺ وقيل آخر سنة تسع بعد غزوة تبوك. بعثه إلى اليمن معلماً وحاكماً.
قوله: (قال له: إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب) أهل الكتاب هم اليهود والنصارى.
وأخبره بذلك لأمرين:
1- أن يكون بصيراً بأحوال من يدعو.
2- أن يكون مستعداً لمناظرتهم لأنهم أهل علم سابق بخلاف المشركين.
قوله: (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة ألا إله إلا الله)
وفي رواية للبخاري (إلى أن يوحدوا الله) فدل على أن معنى شهادة ألا إله إلا الله هو توحيد الله تعالى.
وهذا هو الشاهد للباب، وهو الدعاء إلى شهادة ألا إله إلا الله.
قوله: (فإن هم أطاعوك لذلك) أي شهدوا وانقادوا لذلك.
قوله: (فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات)
فيه أن الصلاة أعظم واجب بعد الشهادتين وأنه لا يطالب بها إلا بعد الإسلام.
قوله: (فعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم اموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)
اتق دعوة المظلوم بأن تجعل بينك وبينها وقاية بالعدل وعدم الظلم فإن دعوته لا تحجب حتى وإن كان عاصياً كما حديث أبي هريرة I عند أحمد مرفوعاً: (دعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجراً ففجوره على نفسه).
وفي هذا الحديث دليل على قبول خبر الواحد ووجوب العمل به.
إشكال: لم يذكر في الحديث الصوم والحج، فلماذا؟
الجواب: أن النبي ﷺ اقتصر على الأركان العظيمة الأساسية التي يقاتل الناس على تركها هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى أن هذه الأركان المذكورة ظاهرة يراها الناس ويسمعونها بخلاف الصيام فهو أمر خفي بين العبد وبين ربه والحج لا يجب على كل أحد بل يجب على من استطاع إليه سبيلاً مرة في العمر. وكذلك من نطق بالشهادتين وأقام الصلاة وآتى الزكاة فإنه سيحافظ على الصيام والحج من باب أولى.
قوله: (أخرجاه) أي البخاري ومسلم.
(ولهما عن سهل بن سعد I، أن رسول الله ﷺ قال يوم خيبر: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه. فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها. فلما أصبحوا غدوا على رسول الله ﷺ كلهم يرجو أن يعطاها. فقال: (أين علي بن أبي طالب؟) فقيل: هو يشتكي عينيه، فأرسلوا إليه، فأتى به فبصق في عينيه، ودعا له، فبرأ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية فقال: (انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً، خير لك من حمر النعم). يدوكون: يخوضون)
قوله: (ولهما) أي البخاري ومسلم.
قوله: (لأعطين الراية) قيل الراية بمعنى اللواء وهو العَلَم الذي يحمل في الحرب يُعرف به موضع صاحب الجيش وقد يحمله أمير الجيش وقد يدفعه إلى مقدم العسكر وقيل إنهما متغايران.
قوله: (يحب اللهَ ورسولَه ويحبه الله ورسوله) فيه فضيلة لعلي I وفيه إثبات صفة المحبة لله تعالى.
قوله: (يفتح الله على يديه) فيه علم من أعلام النبوة.
قوله: (فبات الناس يدوكون ليلتهم) أي يخوضون فيمن يدفعها إليه.
وفيه حرص الصحابة على الخير.
قوله: (فلما أصبحوا غدوا على رسول الله ﷺ كلهم يرجو أن يُعطاها)
وفي رواية أبي هريرة I عند مسلم أن عمر I قال: ما أحببت الإمارة إلا يومئذٍ.
قوله: (فقال أين علي بن أبي طالب) فيه سؤال الإمام عن رعيته وتفقد أحوالهم.
قوله: (فقيل هو يشتكي عينيه) أي من الرمد كما في صحيح مسلم فقال: (ادعوا لي علياً) فأُتي به أرمد.
قوله: (فبصق) أي تفل.
قوله: (ودعا له فبرأ) أي عوفي في الحال. كأنه لم يكن به وجع. وفيه علَم من أعلام النبوة وذلك كله بالله تعالى وحده فهو الذي يملك الضر والنفع.
قوله: (انفذ على رسلك) أي امض على رفقك من غير عجلة.
قوله: (حتى تنزل بساحتهم) هي فناء أرضهم وما حولها.
قوله: (ثم ادعهم إلى الإسلام) وهو شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله وهذا مطابق للترجمة.
قوله: (وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه) أي في الإسلام إذا أجابوك إليه فأخبرهم بما يجب عليهم من الحقوق التي لابد من فعلها كالصلاة والزكاة ...
قوله: (فو الله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حُمر النَّعم)
قوله: (حُمْر) بضم الحاء وسكون الميم جمع أحمر، والنعم بفتح النون أي خير لك من الإبل الحمر وهي أنفس أموال العرب.
6- (باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله)
مناسبة الباب لما قبله:
قيل: إن هذا الباب فيه زيادة توضيح وبيان لمعنى التوحيد الذي تقدم بيانه في الأبواب السابقة.
وقيل: إن الباب الذي قبله في الدعاء إلى شهادة ألا إله إلا الله والداعي إلى الشهادة لابد أن يفسرها لمن يدعوهم ويوضحها لهم توضيحاً تاماً فلهذا أورد المؤلف هذا الباب.
قوله: (باب تفسير التوحيد وشهادة ألا إله إلا الله)
هذا من عطف المترادفين لأن التوحيد حقيقة هو شهادة ألا إله إلا الله
وشهادة ألا إله إلا الله تتضمن الإقرار والاعتراف بأنه لا إله إلا الله، عالما بمعناها ناطقا معلنا بها.
(وقول الله تعالى: ﴿أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ يَبۡتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ ٱلۡوَسِيلَةَ أَيُّهُمۡ أَقۡرَبُ﴾ الآية)
قال الله تعالى في الآية التي قبلها: ﴿قُلِ ٱدۡعُواْ ٱلَّذِينَ زَعَمۡتُم مِّن دُونِهِۦ فَلَا يَمۡلِكُونَ كَشۡفَ ٱلضُّرِّ عَنكُمۡ وَلَا تَحۡوِيلًا 56 أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ يَبۡتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ ٱلۡوَسِيلَةَ أَيُّهُمۡ أَقۡرَبُ وَيَرۡجُونَ رَحۡمَتَهُۥ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُۥٓۚ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحۡذُورٗا 57﴾
المعنى: قل يا محمد للمشركين الذين عبدوا غير الله تعالى ادعو الذين زعمتم من دونه من الأنداد فإنهم لا يملكون كشف الضر عنكم بالكلية ولا تحويله إلى غيركم فإن الذي يقدر على ذلك هو الله جل وعلا وحده لا شريك له.
ثم قال تعالى: ﴿أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ يَبۡتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ ٱلۡوَسِيلَةَ﴾ أي هؤلاء الذين يدعوهم المشركون هم أنفسهم يبتغون إلى ربهم الوسيلة، والوسيلة هي ما يوصلهم إلى الله تعالى من طاعته والقرب منه، وكل واحد منهم يرجو أن يكون أقرب إلى الله تعالى، ويرجو رحمته ويخاف عذابه، فإذا كان حال هؤلاء المدعوين كذلك فكيف تدعونهم من دون الله وهم محتاجون مفتقرون إلى الله تعالى؟ وهذا ينطبق على من دُعي مع الله تعالى وهو داعٍ لله تعالى كعيسى عليه السلام والملائكة عليهم السلام ونحوهم أما الشجر والحجر ونحوُها فلا تدخل في الآية.
وفيه الرد على من ادعى أن شرك المشركين إنما هو بعبادة الأصنام.
وجه الدلالة من الآية للترجمة:
أن في هذه الآية ثناء على خاصة عباد الله تعالى بأنهم وحدوا الله تعالى في العبادة وهذا معنى التوحيد الذي هو إفراد الله تعالى بالعبادة.
(وقوله: (وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني برآءُ مما تعبدون * إلا الذي فطرني) الآية)
وقوله: ﴿وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَٰهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوۡمِهِۦٓ إِنَّنِي بَرَآءٞ مِّمَّا تَعۡبُدُونَ﴾ أي من عبادة الأوثان، وهذا فيه النفي.
﴿إِلَّا ٱلَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُۥ سَيَهۡدِينِ﴾ وهذا فيه الإثبات.
ومعنى ﴿إِلَّا ٱلَّذِي فَطَرَنِي﴾ أي إلا الله تعالى، وهذا يدل على أن قوم إبراهيم يعبدون الله تعالى ويعبدون غيره، فتبرأ مما يعبدون إلا الله سبحانه، لا كما يظن الجهال أن الكفار لا يعرفون الله ولا يعبدونه أصلاً.
ومعنى البراءة: الكفر والبغضاء والمعاداة لعبادة غير الله تعالى، ولا يصح إسلام أحد حتى تقوم البراءة في قلبه.
قوله: ﴿وَجَعَلَهَا كَلِمَةَۢ بَاقِيَةٗ فِي عَقِبِهِۦ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ﴾ أي كلمة التوحيد لا إله إلا الله.
وجه الدلالة من الآية: أن في هذه الآية معنى لا إله إلا الله وذلك لتضمنها النفي والإثبات فقد نفى عبادة غير الله في قوله: ( بَرَآء مِّمَّا تَعۡبُدُونَ) وأثبت عبادة الله وحده في قوله: (إِلَّا ٱلَّذِي فَطَرَنِي).
(وقوله: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) الآية)
قال الله تعالى: ﴿ٱتَّخَذُوٓاْ أَحۡبَارَهُمۡ وَرُهۡبَٰنَهُمۡ أَرۡبَابٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِ وَٱلۡمَسِيحَ ٱبۡنَ مَرۡيَمَ وَمَآ أُمِرُوٓاْ إِلَّا لِيَعۡبُدُوٓاْ إِلَٰهٗا وَٰحِدٗاۖ لَّآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۚ سُبۡحَٰنَهُۥ عَمَّا يُشۡرِكُونَ﴾ [التوبة:31]
الأحبار: هم العلماء حيث جعلوهم أرباباً وذلك بطاعتهم في تحريم الحلال وتحليل الحرام.
الرهبان: هم العُبَّاد حيث اتخذوهم أولياء يعبدونهم من دون الله تعالى.
ولما سمع عدي بن حاتم I النبي ﷺ يقرأ هذه الآية قال: «إنا لسنا نعبدهم. قال: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ قال: بلى. قال: فتلك عبادتهم»
وجه الدلالة من الآية للترجمة:
أن الطاعة في تحريم الحلال وتحليل الحرام عبادة لا يجوز صرفها إلا لله وحده ولهذا فسرت العبادة بالطاعة وفسر الإله بالمعبود المطاع فمن أطاع مخلوقاً في ذلك فقد عبده، فمقتضى التوحيد وشهادة ألا إله إلا الله يقتضي إفراد الله تعالى بالطاعة ولهذا أنكر الله تعالى عليهم عبادتهم للأحبار والرهبان لأنه مناقض للتوحيد وسماه شركاً في قوله: ﴿سُبۡحَٰنَهُۥ عَمَّا يُشۡرِكُونَ﴾
(وقوله: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله) الآية)
قيل في معنى الآية: يحبون أندادهم كحبهم لله فالكاف هنا اسم بمعنى مثل.
وقيل يحبونهم كحب المؤمنين لله تعالى.
وهذه التسوية في المحبة هي الشرك وهي التي جعلتهم من أهل النار.
قال تعالى: ﴿تَٱللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٍ 97 إِذۡ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ﴾[الشعراء:97-98]
ومعلوم أنهم لم يسووا الله تعالى بتلك المعبودات في الخلق والرزق ومفردات الربوبية وإنما سووهم برب العالمين في المحبة والعبادة.
بل وجد من المشركين من يحب الآلهة أعظم من محبة الله تعالى، ولهذا تجده إذا انتهكت يغضب لها أعظم مما يغضب لله ويستبشر لها ما لا يستبشر لله.
وجه الدلالة من الآية للترجمة:
أن الله تعالى أخبر عن المشركين أنهم جعلوا لله انداداً يحبونهم كحب الله فهم يحبون الله تعالى حباً عظيماً إلا أنهم أشركوا معه في المحبة محبة آلهتهم فالمحبة التي بمعنى كما الذل والخضوع عبادة لا يجوز صرفها إلا لله فصرفها لغيره مخالف لمقتضى لا إله إلا الله. لأن معنى التوحيد وشهادة ألا إله إلا الله إفراد الله بالعبادة.
(وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (من قال: لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله، حرم ماله ودمه، وحسابه على الله عز وجل)
في الصحيح: أي صحيح مسلم.
في هذا الحديث علَّق النبي ﷺ عصمة الدم والمال بأمرين:
1- قول لا إله إلا الله عن علم ويقين، كما هو مقيد في عدة أحاديث.
2- الكفر بما يعبد من دون الله، فلم يكتف باللفظ المجرد عن المعنى بل لابد من قولها والعمل بها.
وفيه معنى قوله تعالى ﴿فَمَن يَكۡفُرۡ بِٱلطَّٰغُوتِ وَيُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسۡتَمۡسَكَ بِٱلۡعُرۡوَةِ ٱلۡوُثۡقَىٰ﴾ [البقرة:256]
فلا بد من الكفر بعبادة غير الله وإنكار عبادتها.
قوله: (وحسابه على الله) أي أن الله تعالى يتولى حسابه فإن كان صادقاً جزاه بالجنة، وإن كان قالها نفاقاً عذبه بالنار، أما في الدنيا فالحكم للظاهر فمن أتى بالتوحيد ولم يأت بما ينافيه ظاهراً والتزم شرائعه وجب الكف عنه.
قال المصنف في مسائل هذا الباب معلقا على هذا الحديث:
(وهذا من أعظم ما يبيِّن معنى (لا إله إلا الله) فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصماً للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله، فإن شك أو توقف لم يحرم ماله ودمه. فيالها من مسألة ما أعظمها وأجلها، ويا له من بيان ما أوضحه، وحجةٍ ما أقطعها للمنازع).
(وشرح هذا الترجمة: ما بعدها من الأبواب)
لأن ما بعدها من الأبواب فيه ما يبين التوحيد ويوضح معناه وفيه بيان ضده وهو الشرك بنوعيه الأصغر والأكبر.
7-(باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه)
قوله: (من الشرك) من هنا تبعيضية أي بعض الشرك، والشرك اسم جنس يشمل الأكبر والأصغر. وذلك لأن لبس الحلقة والخيط قد يكون أكبر وقد يكون أصغر بحسب اعتقاد لابسها.
وقوله: (الحلقة) سواء أكانت حلقة من حديد أم من ذهب أو فضة أو ما أشبه ذلك، والخيط معروف.
قوله: (ونحوِهما) من كل ما يعلقه الناس على أنفسهم أو مراكبهم كمن يعلق القِرَب البالية على السيارة ونحو ذلك لدفع العين.
قوله: (لرفع البلاء) أي بعد نزوله (أو دفعه) أي قبل نزوله.
فمن هذا الباب ابتدأ المؤلف رحمه الله تعالى في تفسير التوحيد وشهادة ألا إله إلا الله بذكر شيء مما يضاد ذلك من أنواع الشرك الأكبر والأصغر فمن لا يعرف الشرك لا يعرف التوحيد وكما قيل: وبضدها تتبين الأشياء.
ولبس الحلقة والخيط ونحوهما إن اعتقد لابسها أنها مؤثرة بنفسها دون الله تعالى فهو مشرك شركاً أكبر في توحيد الربوبية؛ لأنه اعتقد أن مع الله خالقاً غيره، وإن اعتقد أنها سبب ولكنه ليس مؤثراً بنفسه فهو مشرك شركاً أصغر لأنه اعتقد أن ما ليس بسبب سبباً، فيكون قد شارك الله تعالى في الحكم لهذا الشيء بأنه سبب، والله تعالى لم يجعله سبباً، وطريق العلم بأن الشيء سبب إما عن طريق الشرع وإما عن طريق القدر كما إذا جربنا الشيء فوجدناه نافعاً في هذا المرض مثلاً.
ولكن لابد أن يكون هذا السبب القدري أثره ظاهراً مباشراً، كما لو اكتوى فبرئ مثلاً فهذا سبب ظاهر بيّن وإنما يقال هذا لئلا يقول قائل أنا جربت هذا السبب وانتفعت به وهو سبب غير ظاهر، كالحلقة فقد يلبسها إنسان وهو يعتقد أنها نافعة ثم يقدر الله تعالى له الشفاء.
ومن أمثلة الأسباب الشرعية قراءة الفاتحة على المريض.
ومن أمثلة الأسباب القدرية (الكونية) أي التي تعرف بالتجارب تناول المسكِّن لمن يصاب بالصداع.
(وقول الله تعالى: (قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادنيَ الله بضر هل هن كاشفات ضره) الآية)
قال الله تعالى: ﴿قُلۡ أَفَرَءَيۡتُم مَّا تَدۡعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ إِنۡ أَرَادَنِيَ ٱللَّهُ بِضُرٍّ هَلۡ هُنَّ كَٰشِفَٰتُ ضُرِّهِۦٓ أَوۡ أَرَادَنِي بِرَحۡمَةٍ هَلۡ هُنَّ مُمۡسِكَٰتُ رَحۡمَتِهِۦۚ قُلۡ حَسۡبِيَ ٱللَّهُۖ عَلَيۡهِ يَتَوَكَّلُ ٱلۡمُتَوَكِّلُونَ﴾ [الزُّمَر:38]
في هذه الآية يأمر الله تعالى نبيه ﷺ أن يقول للمشركين: أخبروني عن هذه الآلهة التي تدعون من دون الله فتعبدونهم وتسألونهم - وهذا يشمل دعاء العبادة والمسالة - إن أرادني الله بضر هل تكشف هذه الآلهة الضر عني، أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته، والجواب: أنها لا تكشف الضر ولا تمسك رحمة الله تعالى وإنما كانوا يتخذونها وسائط وشفعاء.
وفي وصف الآلهة بوصف الإناث دليل على بطلانها وعجزها؛ لأن الأنوثة فيها اللين والرخاوة.
ثم قال: (قُل حَسبِيَ اللَّهُ) أي كافي من توكل عليه.
وجه الدلالة من الآية للترجمة:
أن هذه الأصنام لا تنفع أصحابها لا بجلب نفع ولا بكشف ضر فليست أسباباً مشروعة وهكذا كل ما ليس بسبب شرعي أو قدري فيكون اتخاذه سبباً من الشرك بالله تعالى. فإذا انتفى عن هذه الآلهة التي قد يكون منها أنبياء وملائكة وصالحين أن يكون لها تأثير وأن تكون سبباً لجلب النفع أو دفع الضر فإن انتفاء ذلك عما سواها مما هو أدنى كالحلقة والخيط ونحوهما من باب أولى.
(عن عمران بن حصين I، أن النبي ﷺ رأى رجلاً في يده حلقة من صفر، فقال: (ما هذه)؟ قال: من الواهنة. فقال: (انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهناً، فإنك لو مت وهي عليك، ما أفلحت أبداً) رواه أحمد بسند لا بأس به)
قوله: (أن النبي ﷺ رأى رجلاً في يده حلقة من صُفْر، فقال: ما هذه؟) قيل الاستفهام هنا للإنكار، وقيل للاستعلام لأنه قد يظن ما ليس بمنكر منكراً.
(قال: من الواهنة) مرض يوهن الإنسان، وفيه أنه إنما لبسها لاعتقاده أنها تنفعه وتدفع عنه المرض.
(فقال: انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهناً)
أمره بنزعها، وأخبره أنها لا تنفعه بل تزيده ضعفاً، وهكذا كل ما نُهي عنه فإنه لا ينفع غالباً، وإن حصل شيء من النفع به فضرره أكبر من نفعه.
قوله: (فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً) لأن هذا الفعل شرك.
والفلاح هو الفوز والظفر والسعادة.
والفلاح المنفي على قسمين:
1- الفلاح المطلق وهو دخول الجنة والنجاة من النار وهذا في حال الشرك الأكبر بأن اعتقد أن تلك الحلقة من الصفر أو الخيط ينفع استقلالاً، فينتفي عنه الفلاح المطلق، فلا يدخل الجنة، ويخلد في النار عياذا بالله.
2- مطلق الفلاح أو نوع من الفلاح (بعض الفلاح) وذلك إذا كان لبس الحلقة ونحوها على وجه يكون به شركا أصغر، بأن اعتقد أنها سبب والله عز زوجل لم يجعلها سبباً لا قدراً ولا شرعاً. فهذا ينتفي عنه مطلق الفلاح، أي بعضه، وهو أنه متوعد بدخول النار، وإن كان قد حصل له بعض الفلاح وهو السلامة من الخلود فيها.
وفي هذا الحديث رد على المغرورين الذين يفتخرون بكونهم من ذرية الصالحين أو من أصحابهم ويظنون أنهم يشفعون لهم عند الله وإن فعلوا المعاصي, وذلك لأن النبي ﷺ أخبر أن الصحابي I لو مات وهي عليه ما أفلح أبداً.
وجه الدلالة من الحديث للترجمة:
أن هذا الرجل قد لبس هذه الحلقة لدفع البلاء الواقع به وهو المرض فأخبر النبي ﷺ أنه لو مات وهي عليه لم يفلح أبداً، وقد تقدم أن نفي الفلاح قد يكون بسبب الشرك الأكبر، أو بسبب الشرك الأصغر.
(وله عن عقبة بن عامر I مرفوعاً: (من تعلق تميمة فلا أتم الله له، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له))
قوله: (من تعلق) أي علق التميمة متعلقاً بها قلبه.
التميمة: شيء يعلق على الأولاد من خرز وغيره يتقون به العين.
قوله: (فلا أتم الله له) يحتمل أن تكون دعاءً ويحتمل أن تكون خبراً.
وعلى كلا الاحتمالين فيه دليل على تحريم تعليق التميمة.
قوله: (ومن تعلق ودْعَة) الوَدْع شيء يخرج من البحر شبه الصدف يتقون به العين.
قوله:(فلا ودَع الله له) أي لا جعله في دعة وسكون.
(وفي رواية: (من تعلق تميمة فقد أشرك))
وإنما كان شركا من جهة تعلق القلب على غير الله في جلب نفع أو دفع ضر، فكان شركا من هذه الحيثية.
وجه الدلالة: ظاهر، ففيه التصريح بأن تعليق التمائم من الشرك.
(ولابن أبي حاتم عن حذيفة أنه رأى رجلاً في يده خيط من الحمى فقطعه، وتلا قوله: (وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون).
(رأى رجلاً في يده خيط من الحمى) أي لبسه عن الحمى؛ لأجل أن يدفعها عنه.
(فقطعه وتلا قوله: (وَمَا يُؤۡمِنُ أَكۡثَرُهُم بِٱللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشۡرِكُونَ)) واستدلاله بهذه الآية يدل على أن هذا العمل شرك.
ومعنى الآية: أن الله أخبر عن المشركين أنهم يجمعون بين الإيمان بالله أي بوجوده وأنه الخالق الرازق المحيي المميت ثم مع ذلك يشركون في عبادته فسرها بذلك ابن عباس L وغيره.
والمراد أن الإنسان قد يجتمع في حقه إيمان وشرك ولكن ليس الشرك الأكبر لأن الشرك الأكبر لا يجتمع مع الإيمان ولكن المراد الشرك الأصغر.
8-(باب ما جاء في الرقي والتمائم)
مناسبة الباب لما قبله:
أنه مكمل للباب الذي قبله وهو بابٌ من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه. ثم ذكر هنا أنواعاً أخرى تُتخذ أسباباً لحصول المطلوب لم يجعلها الله سبباً لا شرعاً ولا قدراً، إلا أنه في الباب السابق صرح أن ذلك من الشرك لورود ذلك منصوصاً عليه في الأدلة.
أما هنا فلم يصرح بأن الرقى والتمائم شرك لأن الأمر فيه تفصيل:
فمن الرقى ما هو جائز ومن التمائم ما فيه خلاف في جوازه لهذا لم يجزم بأنها شرك.
الرقى: جمع رقية وهي القراءة فيقال: رقى عليه من القراءة ويقال: رَقِي عليه من الصعود.
التمائم جمع تميمة وسميت بذلك لأنهم يرون أنه يتم بها دفع العين.
فالمراد بقوله: (باب ما جاء في الرقى والتمائم) أي من النهي عما لا يجوز من ذلك.
والتمائم الشركية قد تكون شركاً أكبر وقد تكون شركاً أصغر حسب اعتقاد المرء، وقد تقدم ذلك في الباب الماضي.
(في الصحيح عن أبي بشير الأنصاري I أنه كان مع رسول الله ﷺ في بعض أسفاره، فأرسل رسولاً أن لا يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت)
(في الصحيح) أي في الصحيحين.
(قلادة من وتر).
الوَتَر: وتر القوس، وكان أهل الجاهلية إذا اخلولق الوتر أبدلوه بغيره وقلدوا بالقديم الدواب اعتقاداً منهم أنه يدفع عن الدابة العين، وهذا اعتقاد فاسد لأنه تعلقٌ بما ليس بسبب فنهاهم النبي ﷺ عنها.
(قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت) هذا شك من الراوي هل قال: قلادة من وتر أو قال: قلادة ولم يقيدها بالوتر وهذا من دقتهم وورعهم في الرواية C.
قال الشيخ سليمان رحمه الله تعالى في التيسير: والأُولى أصح لاتفاق الشيخين عليها وللرخصة في القلائد إلا الأوتار وكما روى أبو داود والنسائي من حديث أبي وهب الجيشاني مرفوعاً: «اربطوا الخيل وقلدوها ولا تقلدوها الأوتار» ولأحمد عن جابر مرفوعاً مثله وإسناده جيد.ا.ه.
وعلى كل حال فيه دليل على تحريم هذا التعليق سواء كان من وتر أو من غيره ما دام المقصود من التعليق فاسداً وهو دفع العين.
فمن علق خيطاً أو وتراً أو سيراً أو خرزاً أو غيرها مع الاعتقاد الشركي فيها فإنها محرمة وقد تكون شركاً أكبر أو أصغر حسب اعتقاد واضعها.
وكذلك إذا كان المعلَّق مما يختص به أهل الاعتقادات الباطلة، فإنه ينهى عنه ولو لم يعتقد فيه واضعه اعتقادهم، كمن يضع رأس دب أو مسبحة على شكل معين أو أرنب أو حذوة فرس أو رأس ذئب أو غزال إما يضعها في السيارة أو البيت فهذه ينهى عنها وإن قال لا أقصد الشرك الأصغر فهي محرمة لأجل مشابهته من يشرك الشرك الأصغر.
أما إذا كانت هذه القلائد من غير الوتر وإنما تستعمل للقيادة كالزمام أو كان التعليق لمقصد شرعي مثل قلائد الهدي فهذا لا بأس به وذلك لعدم الاعتقاد الفاسد.
وقوله:(في رقبة بعير) ذكر البعير هنا لأن المنتشر عندهم في ذلك الوقت فيكون كالتمثيل ويشمل الحكم غيره.
وكذلك لا يلزم أن تكون في الرقبة فلو وضعها في أي موضع من الحيوان كاليد أو الرجل فلها حكم الرقبة لأن العلة هي هذه القلادة وليس مكان وضعها فالمكان لا يؤثر.
وجه الدلالة من الحديث للترجمة:
أن النبي ﷺ أمر بقطع القلائد من الوتر التي تُعلَّق على الإبل وهي من التمائم لأن أهل الجاهلية كانوا يعتقدون أنها تدفع العين فهذا دليل على تحريمها وأنها من الشرك لحديث: (من تعلق تميمة فقد أشرك).
(وعن ابن مسعود I قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (إن الرقى والتمائم والتولة شرك) رواه أحمد وأبو داود)
قوله:(إن الرقى) قال المصنف رحمه الله تعالى في معناها: هي التي تسمى العزائم وخص منه الدليل ما خلا من الشرك فقد رخص فيه رسول الله ﷺ من العين والحمة.
وتسمى الرقية عزيمة في عرف الناس.
وقوله:(إن الرقى) هذا عام أريد به الخاص وهي الرقى التي فيها شرك، كالتي يستعان فيها بغير الله تعالى.
أما ما خلا من الشرك كالتي تكون بأسماء الله وصفاته وآياته والأذكار المشروعة فهي جائزة أو مستحبة.
شروط الرقية المشروعة:
أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط:
1- أن تكون بكلام الله أو بأسمائه أو صفاته ولا يجوز أن تكون بما يخالف الشرع كما لو تضمنت شركاً.
2- أن تكون باللسان العربي وبما يعرف معناه.
3- أن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بتقدير الله تعالى فإن اعتقد تأثيرها بذاتها فهو شرك.
قوله: (والتمائم) قال المصنف رحمه الله تعالى في بيان معناها: «شيء يعلق على الأولاد من العين».
فهي عبارة عن أشياء تعلق بأعناق الصبيان وكذا الكبار أو الدواب لدفع العين أو غيرها من الشرور وهذا المعلَّق قد يكون خرزات أو عظام أو جلد أو غيره.
قوله: (والتولة) قال المصنف رحمه الله تعالى في معناها: (هو شيء يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها والرجل إلى امرأته) وهو نوع من السحر.
(وعن عبد الله بن عكيم مرفوعاً: (من تعلق شيئاً وكل إليه). رواه أحمد والترمذي)
التعلق يكون بالقلب وينشأ عنه القول والفعل، وهو التفات القلب عن الله إلى شيء يعتقد أنه ينفع أو يدفع عنه.
أقسام التعلق بغير الله تعالى:
1- ما ينافي التوحيد من أصله وهو أن يتعلق بشيء لا يمكن أن يكون له تأثير ويعتمد عليه اعتماداً كاملاً معرضاً عن الله مثل تعلق عباد القبور بمن فيها عند حلول المصائب.
2- ما ينافي كمال التوحيد وهو أن يعتمد على سبب شرعي صحيح مع الإعراض عن المسبب وهو الله عز وجل وعدم صرف قلبه إليه فهذا نوع من الشرك ولا نقول إنه شرك أكبر لأن هذا السبب قد جعله الله سبباً.
3- أن يتعلق بالسبب تعلقاً مجرداً لكونه سبباً فقط مع اعتماده الأصلي على الله وأن الله لو شاء لأبطل أثره ولو شاء لأبقاه فهذا لا ينافي التوحيد لا كمالاً ولا أصلاً.
وقوله: (شيئاً) نكرة في سياق الشرط فتعم جميع الأشياء.
وقوله: (وكل إليه) أي أسند إليه وفوض.
ومعنى الحديث أن من علَّق قلبه بأي شيء من دون الله تعالى كالحجر أو الشجر أو الحلقة أو الخيط أو التميمة أو الولي أو الملَك أو غيره بحيث يعتمد عليه ويعلق رجاءه به في حصول مطلوبه وزوال خوفه فإن الله تعالى يكله إلى ذلك الغير، ومن وُكل إلى غير الله خذله وضل وهلك.
ومن علَّق قلبه بالله تعالى وأنزل به حوائجه والتجأ إليه كفاه وقرَّب إليه كل بعيد ويسَّر له كل عسير كما قال سبحانه: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسۡبُهُۥٓ﴾ أي كافيه.
(التمائم: شيء يعلق على الأولاد من العين، لكن إذا كـان المعلـق من القرآن، فرخص فيه بعض السلف، وبعضهم لم يرخص فيه، ويجعله من المنهي عنه، منهم ابن مسعود I)
اختلف العلماء من الصحابة M فمن بعدهم في جواز تعليق التمائم التي من القرآن وأسماء الله وصفاته.
فقالت طائفة: يجوز ذلك وهو قول عبد الله بن عمرو بن العاص L. وهو ظاهر ما روي عن عائشة J وقال به الإمام أحمد رحمه الله تعالى في رواية.
وحملوا الحديث الوارد على التمائم التي فيها شرك، أما التي فيها القرآن وأسماء الله وصفاته فكالرقية بذلك.
وقالت طائفة أخرى: لا يجوز ذلك، وبه قال ابن مسعود وابن عباس M وهو ظاهر قول حذيفة وعقبة بن عامر وابن عكيم M وبه قال أحمد في رواية اختارها كثير من أصحابه، ورجح هذا القول الشيخ عبد الرحمن بن حسن رحمه الله تعالى في الفتح لوجوه ثلاثة:
1- عموم النهي عن تعليق التمائم، يشمل التمائم التي فيها القرآن.
2- سد الذريعة فإنه يفضي إلى تعليق ما ليس كذلك. فإنه إذا علق وأُنكر عليه قال هذا من القرآن أو من الدعوات الطيبة فيفتح الباب وتُلْبس التمائم كلُّها لأن التميمة قد لا يُعلم ما بداخلها.
3- أنه إذا عُلق فلابد أن يمتهنه المعلِّق بحمله معه إلى مكان قضاء الحاجة ونحو ذلك وربما كان المعلَّق عليه طفل فيبول فتصل الرطوبة إلى المعلَّق.
(والرقى: هي التي تسمى العزائم، وخص منه الدليل ما خلا من الشرك، فقد رخص فيه رسول الله ﷺ من العين والحمة، والتولة: شيء يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها، والرجل إلى امرأته)
تقدم الكلام عليه.
(وروى أحمد عن رويفع قال: قال لي رسول الله ﷺ: (يا رويفع! لعل الحياة تطول بك، فأخبر الناس أن من عقد لحيته، أو تقلد وتراً، أو استنجى برجيع دابة أو عظم، فإن محمداً بريء منه)).
قوله: (لعل الحياة ستطول بك) فيه علَم من أعلام النبوة فإن رويفعاً I طالت حياته حتى توفي سنة 56 ه، وقيل 53 ه.
قوله: (فأخبر الناس أن من عقد لحيته)
المراد بعقد اللحية فيه أقوال، منها: أنهم يعقدونها خوفاً من العين لأنها إذا كانت حسنة ثم عقدت صارت قبيحة.
قوله: (أو تقلد وتراً) أي جعله قلادة في عنقه أو عنق دابته.
وقد تقدم أن ذلك من الشرك الأصغر لما كانوا يعتقدون فيه من أنه سبب لدفع الضر عنهم.
قوله: (أو استنجى برجيع دابة أو عظم)
الاستنجاء هو إزالة أثر الخارج من السبيلين.
ورجيع الدابة روثها، والعظم معروف.
وإنما يتبرأ النبي ﷺ ممن استنجى برجيع الدابة أو العظم لأن الروث علف بهائم الجن والعظم طعامهم يجدونه أوفر ما يكون لحماً، كما ورد في الحديث.
قوله: (فإن محمداً برئ منه) كل ذنب قرن بالبراءة من فاعله فهو من كبائر الذنوب.
وجه الدلالة من الحديث للترجمة:
من قوله: (أو تقلد وتراً ... فإن محمداً برئ منه) فقد برئ النبي ﷺ ممن تقلد وتراً يعتقد فيه اعتقاداً فاسدا، وهذا يدل على أنه من الكبائر.
(وعن سعيد بن جبير I، قال: (من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة) رواه وكيع)
قال في فتح المجيد: هذا عند أهل العلم له حكم الرفع لأن مثل ذلك لا يقال بالرأي، ويكون هذا مرسلاً لأن سعيداً تابعي.
وجه المشابهة بين قطع التميمة وعتق الرقبة أنه إذا قطع تميمة من إنسان فكأنه أعتقه من الشرك ففكه من النار، ولكن يقطعها بالتي هي أحسن لأن العنف يؤدى إلى المشاحنة والشقاق إلا إن كان له ولاية كولي الأمر أو نائبه ونحوه ممن له سلطة فله أن يقطعها مباشرة.
(وله عن إبراهيم قال: كانوا يكرهون التمائم كلها، من القرآن وغير القرآن)
إبراهيم هو ابن يزيد النخعي الكوفي ثقة من كبار الفقهاء مات سنة 96هـ.
قوله: (كانوا) يريد بذلك أصحاب عبد الله بن مسعود I كعلقمة والأسود وأبى وائل والحارث بن سويد، وهم سادات التابعين C.
قوله: (يكرهون) في زمانهم كانوا يطلقون الكراهة على المحرم وهذا القول الصحيح لأن ما كان من غير القرآن فقد تقدم النهي عنه بلا ريب، وأما إذا كان المعلَّق من القرآن فيتعين النهي عنه على الصحيح لما سبق بيانه.
ومما يدل على أن الكراهة تطلق على المحرم قوله تعالى لما ذكر المحرمات في سورة الإسراء: ﴿كُلُّ ذَٰلِكَ كَانَ سَيِّئُهُۥ عِندَ رَبِّكَ مَكۡرُوهٗا﴾[الإسراء:38]
9-(باب من تبرك بشجرة أو حجر ونحوهما)
قوله:(من تبرك) من: اسم شرط والجواب محذوف تقديره: فقد أشرك بالله.
ومعنى قوله (تبرك) أي طلب البركة.
والبركة هي الخير الكثير الدائم.
ويكون معنى التبرك: طلب الخير الكثير وطلب ثباته ولزومه.
والتبرك بالشيء هو طلب البركة بواسطته.
قوله:(بشجرة أو حجر أو نحوهما) مما يشبههما كبقعة وغار وعين وقبر وأثر ونحو ذلك مما يُعتقد فيه البركة.
(وقول الله تعالى: (أفرأيتم الَّلات والعزى) الآيات)
قوله: (أَفَرَءَيتُمُ) هذا استفهام المراد به الاستخفاف والاستهجان بهذه الأصنام.
والمعنى: أخبروني ما شأنها وما حالها.
(ٱللَّٰاتَ) قرأ الجمهور بتخفيف التاء وعليه فيكون المعنى أنها مشتقة من الإله فهم سموا اللات من اسم الله تعالى الإله.
واللاتَّ بالتشديد قرأ بها ابن عباس L وغيره فتكون اسم فاعل من اللَّتّ.
واللات صخرة بيضاء منقوشة عليها بيت بالطائف لها أستار وسدنة وحوله فناء معظم عند ثقيف وهم أهل الطائف.
قال ابن عباس: كان رجلاً يلت السويق للحاج فلما مات عكفوا على قبره.
ولا منافاة بين القولين فإنهم عبدوا الصخرة والقبر تألهاً وتعظيماً.
وقيل إنه كان يلت السويق عند صخرة فلما مات عبدت ثقيف تلك الصخرة إعظاماً لصاحب السويق.
والعزى: شجرة عليها بناء وأستار بمكان يقال له نخله بين مكة والطائف كانت قريش تعظمها.
ومناة: كانت بالمشلَّل عند قُديد بين مكة والمدينة وكانت خزاعة والأوس والخزرج يعظمونها ويهلون منها للحج وهي مشتقة من اسم الله تعالى المنان. وقيل لكثرة ما يمنى أي يراق عندها من الدماء للتبرك بها.
ومعنى الآية أفريتم هذه الآلهة هل هي تنفع أو تضر حتى تكون شريكة لله تعالى.
وقوله: ﴿وَمَنَوٰةَ ٱلثَّالِثَةَ ٱلۡأُخۡرَىٰٓ﴾ [النجم:20 أي المتأخرة الذميمة الحقيرة.
قوله: ﴿أَلَكُمُ ٱلذَّكَرُ وَلَهُ ٱلۡأُنثَىٰ﴾[النجم:21] هذا استفهام إنكاري على المشركين الذين يجعلون لله تعالى البنات ولهم البنين.
قوله : ﴿تِلۡكَ إِذٗا قِسۡمَةٞ ضِيزَىٰٓ﴾ [النجم:22] أي جائرة لأن هذه القسمة لو كانت بين مخلوقين لكانت جائرة فكيف إذا كانت بين الخالق والمخلوق.
وجه الدلالة من الآيات للترجمة:
أن اللات ومناة كل منهما صخرة والعزى شجرة وقد كان المشركون يعتقدون في هذه الآلهة حصول البركة منها ولهذا كانوا يعظمونها ويدعونها ويؤملون بركتها وشفاعتها.
فمن تبرك بشيء من ذلك أو بالقبور بفعل أو اعتقاد فقد شابه المشركين في تبركهم بآلهتهم.
والتبرك الممنوع قد يكون شركا أكبر، وقد يكون شركا أصغر، فيكون شركا أكبر إذا اعتقد فاعلُ ذلك حصولَ البركة من المخلوق المتبرَّك به، لا من الله عز وجل، أو أنه يقربه إلى الله سبحانه، ويشفعُ له عنده، كفعل المشركين الأولين مع آلهتهم، ويكون التبرك شركا أصغر إذا اعتقد أن حصول البركة من الله تعالى، وأن ما يَتبرك به من شجر أو حجر أو نحوه سببٌ لحصول الخير له، مع أن الله عز وجل لم يجعله سببا لا شرعا ولا قدرا[11].
وإذا وُجد دليل شرعي على التبرك بشيء، صار التبرك به مشروعا، كالتبرك بماء زمزم، فقد قام الدليل الشرعي على مشروعية التبرك به، لقول النبي ﷺ: «إِنَّهَا مُبَارَكَةٌ، إِنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ» رواه مسلم 2473.
(عن أبي واقد الليثي، قال: خرجنا مع رسول الله ﷺ إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله أجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال رسول الله ﷺ: (الله أكبر! إنها السنن، قلتم ـ والذي نفسي بيده ـ كما قالت بنو إسرائيل لموسى: (اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون) (لتركبن سنن من كان قبلكم). رواه الترمذي وصححه)
قوله: (خرجنا مع النبي ﷺ إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر . . .)
ذكر ذلك I للاعتذار لما بدر منهم وأنهم لو لم يكونوا حديثي عهد بكفر لما سألوا هذا السؤال.
قوله: (وللمشركين سدرة يعكفون عندها)
العكوف هو الإقامة على الشيء في المكان، وكان عكوف المشركين عند تلك السدرة تبركاً بها.
قوله: (وينوطون بها أسلحتهم) أي يعلقون أسلحتهم عليها للبركة أي رجاء نقل البركة من الشجرة إلى السلاح حتى يكون أمضى وحتى يكون خيره لحامله أكثر.
فهؤلاء المشركون عبدوا هذه الشجرة وذلك بتعظيمها والعكوف عندها وطلب البركة منها.
قوله: (فقلنا يا رسول الله اجعل لنا ذاتَ أنواط) أي اجعل لنا سدرة نعلق أسلحتنا عليها تبركاً بها، ظنوا أن هذا محبوب عند الله وقصدوا التبرك، وإلا فهم أجل قدراً من أن يقصدوا مخالفة النبي ﷺ.
(فقال النبي ﷺ: الله أكبر) كبر تعظيماً واستعظاماً لهذا الطلب وتنزيهاً لله تعالى عن الشرك.
ثم قال: (إنها السنن) بضم السين أي الطرق التي يسلكها العباد.
(قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى «اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة») شبَّه مقالتهم هذه بمقالة بني إسرائيل، بجامع أن كلاً طلب أن يُجعل له ما يألهه ويعبده من دون الله وإن اختلف اللفظان فالمعنى واحد.
ففيه الخوف من الشرك وأن الإنسان قد يستحسن شيئاً يظنه يقربه إلى الله وهو يبعده من رحمته ويقربه من سخطه.
قوله: (لتركبن سُنن من كان قبلكم) بضم السين أي لتتبعن طُرق من كان قبلكم من اليهود والنصارى ومناهجهم وأفعالهم.
ويجوز فتح السين أي طريقهم.
ويشهد لهذا الخبر الواقع في كثير من البقاع والله المستعان.
10-(باب ما جاء في الذبح لغير الله)
الذبح: أي ذبح البهائم. والمراد هنا إراقة الدم تقرباً.
قوله: (لغير الله) أي قاصداً بذبحه غير الله تعالى.
وقوله: (لغير الله) يشمل الأنبياء والملائكة والأولياء والجن وغيرهم فكل من ذبح لغير الله تقرباً وتعظيماً فإنه داخل في هذه الكلمة.
فمعنى الباب: باب ما جاء في الذبح لغير الله. أي من الوعيد وأنه شرك.
والذبح لغير الله تعالى شرك أكبر مخرج من الملة لأنه صرف للعبادة المستحقة لله وحده إلى غيره.
الذبح فيه أمران مهمان:
1- الذبح باسم الله أو الذبح بالإهلال باسم ما غير الله تعالى.
2- الذبح متقرباً لمن يريد أن يتقرب إليه.
أما التسمية فما ذُكر عليه اسم الله تعالى فهو جائز أما ما أهل لغير الله به فحرام.
والتسمية على الذبيحة من جهة المعنى استعانة فإذا سمى الله تعالى فإنه استعان في هذا الذبح بالله عز وجل وأما القصد فهذه جهة عبودية قد يقصد التقرب لله تعالى أو لغيره كما أنه قد يستعين بالله تعالى في الذبح أو بغيره.
فصارت الأحوال أربع:
1- أن يذبح باسم الله متقرباً إلى الله تعالى وهذا هو التوحيد.
2- أن يذبح باسم الله متقرباً لغير الله تعالى وهذا شرك في العبادة.
3- أن يذبح باسم غير الله متقرباً لغير الله تعالى وهذا شرك في الاستعانة والعبادة.
4- أن يذبح باسم غير الله متقرباً لله تعالى وهذا شرك في الاستعانة.
وما سبق يتعلق بمن ذبح تقرباً سواء لله أو لغيره أما من ذبح لا على سبيل التقرب وإنما لأجل الإكرام فهذا ليس شركاً وإنما هو من الأمور العادية التي الأصل فيها الإباحة ما لم يتصل بها ما يجعلها محرمة.
(وقول الله تعالى: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شر يك له) الآية)
النسك في اللغة العبادة وفي الشرع: ذبح القربان.
قوله:( وَمَحۡيَايَ وَمَمَاتِي) أي حياتي وموتي فالتصرف في تدبير أمري حياً وميتاً لله تعالى.
واللام في قوله (لله) الراجعة إلى الصلاة والنسك هي لام الاستحقاق يعني صلاتي ونسكي مستحقة لله تعالى.
واللام الراجعة إلى المحيى والممات هي لام الملك يعني محياي ومماتي لله ملكاً وتدبيراً.
قوله: (لا شريك له) أي في استحقاق العبادة ولا شريك له في ملكه وتدبيره.
وجه الدلالة من الآية للترجمة:
أن الآية قد دلت على أن الصلاة والنسك الذي هو الذبح مستحق لله تعالى وحده فدل ذلك على أن من تعبد بالذبح لغيره فقد جعل مع الله شريكاً في العبادة. وهو ظاهر في قوله:(لا شريك له) فقد نفى أن يكون لله شريك في هذه العبادات.
(وقوله: (فصل لربك وانحر))
المعنى: أي وانحر لربك.
وجه الدلالة من الآية:
أن الله تعالى أمر بالنحر وكل ما أمر الله به فهو محبوب إليه، وما كان محبوبا إلى الله تعالى فهو عبادة، لأن تعريف العبادة هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.
وإذا كان النحر عبادة فصرفه لغير الله شرك أكبر.
(عن علي I قال: حدثني رسول الله ﷺ بأربع كلمات: (لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن ووالديه. لعن الله من آوى محدثاً، لعن الله من غير منار الأرض) رواه مسلم)
الشاهد منه قوله ﷺ: (لعن الله من ذبح لغير الله)
اللعن من الله: الطرد والإبعاد من رحمته. ومن الخلق: السب والدعاء، وعلى هذا فيحتمل أن تكون جملة (لعن الله) جملة خبرية، ويحتمل أن تكون إنشائية بلفظ الخبر أي اللهم العن ....
قوله: (من ذبح لغير الله) يشمل ذبح البعير أو البقرة أو الدجاجة وكل ما يذبح كما يشمل كل من يُذبح له تقرباً كالنبي أو الولي أو الملك أو الصنم أو الجن ....
وجه الدلالة منه: أن هذا الحديث يدل على أن الذبح لغير الله تعالى مما يبغضه الله تعالى؛ لأن فاعله ملعون، ومرتكب لكبيرة من كبائر الذنوب، وإذا كان جل وعلا يبغض الذبح لغيره، ففي مقابل ذلك أن التقرب بالذبح لله تعالى وحده محبوب له، وإذا كان محبوبا فهو عبادة.
وإذا كان عبادة فصرفها لله وحده توحيد، ولغيره شرك أكبر.
(وعن طارق بن شهاب، أن رسول الله ﷺ قال: (دخل الجنة رجل في ذباب، ودخل النار رجل في ذباب) قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله؟! قال: (مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئاً، فقالوا لأحدهما قرب قال: ليس عندي شيء أقرب قالوا له: قرب ولو ذباباً، فقرب ذباباً، فخلوا سبيله، فدخل النار، وقالوا للآخر: قرب، فقال: ما كنت لأقرب لأحد شيئاً دون الله عز وجل، فضربوا عنقه فدخل الجنة) رواه أحمد).
قوله: (دخل الجنة رجل في ذباب) أي من أجله.
قالوا: «وكيف ذلك يا رسول الله» كأنهم تقالُّوا ذلك وتعجبوا منه فبين النبي ﷺ لهم ذلك فقال: «مر رجلان على قوم لهم صنم» والصنم ما كان منحوتاً على صورة بخلاف الوثن فإنه عام لكل ما عبد من دون الله تعالى سواء أكان على هيئة صورة أم لا.
قوله: (لا يجاوزه أحد حتى يقرِّب له شيئاً) أي لا يمر به ولا يتعداه أحد حتى يقرب له شيئاً وإن قل.
قوله: (فقالوا لأحدهما قرب قال ليس عندي شيء أقربه قالوا له قرب ولو ذباباً فقرب ذباباً فخلوا سبيله فدخل النار)
أي أنه ذبح الذباب متقرباً للصنم فدخل النار بسبب الشرك.
قوله: (وقالوا للآخر: قرب. قال ما كنت لأقرب لأحد شيئاً دون الله عز وجل فضربوا عنقه فدخل الجنة). لأنه لم يشرك مع الله تعالى في العبادة.
وجه الدلالة من الحديث للترجمة:
أن من ذبح لغير الله متقرباً فهو في النار. وظاهر الحديث أنه يدخلها خالداً فيها.
وأيضاً فيه أن تقريب الذباب الذي لا قيمة له سبب لدخول النار، فما هو أعظم وأغلى يكون سببا لدخول النار من باب أولى.
وهذا الحديث فيه إشكال:
وهو أن هذا الرجل الذي قرب الذباب الظاهر أنه مكره فكيف دخل النار:
وأجيب عنه: بأن قولهم له: (قرب) يعني اذبح تقرباً، وهم هنا لم يكرهوهم على الفعل، فليس في الحديث أنهم أكرهوهم على الفعل لأن ظاهر قوله (لا يجوزه أحد) أي أنهم لا يأذنون لأحد بمجاوزة هذا الطريق حتى يقرب، وهذا ليس إكراهاً، إذ يمكن أن يقول سأرجع ولا يجوز ذلك الموضع، ويتخلص من ذلك.
وبعض العلماء استظهر من قتلهم لأحد الرجلين لأنه لم يقرب أنهم قد أكرهوهم على التقريب.
والجواب عنه على القول بأنه مكره أن هذا الحديث فيمن كان قبلنا، ورفعُ الإكراه أو جواز قول كلمة الكفر أو عمل الكفر مع اطمئنان القلب بالإيمان هذا خاص بهذه الأمة.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى: «وظاهر القصة أن الرجل ذبح بنية التقرب لأن الأصل أن الفعل المبني على طلب يكون موافقاً لهذا الطلب».
وقال الشيخ الفوزان حفظه الله تعالى: «قال ليس عندي شيء أقربه» اعتذر بالعدم ولم يقل: إن الذبح لغير الله لا يجوز أو هذا منكر - والعياذ بالله - وهذا يدل على أنه لو كان عنده شيء لقربه».
11-(باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله)
(لا يذبح لله) لا: ناهية، وقيل: نافية، وهو نفي بمعنى النهي، وهو أبلغ.
(بمكان) يشمل الذبح في المكان الذي يذبح فيه لغير الله تعالى نفسه، أو المكان المجاور له؛ لأن الجميع فيه اشتراك مع الذين يذبحون لغير الله جل وعلا.
وهذا الباب مناسب إيراده بعد الباب الذي قبله وهو باب ما جاء في الذبح لغير الله أي أنه شرك أكبر لأن نفس الفعل لغير الله. وهذا الباب أراد به سد الذريعة المفضية إلى الشرك بالذبح لغير الله. وذلك أن الذبح لله تعالى في مكان يذبح فيه لغير الله فيه مشابهة للمشركين في ظاهر الحال وموافقة لهم في تعظيم هذا المكان وقد قال ﷺ: «من تشبه بقوم فهو منهم». كما أن فيه وسيلة إلى وجود الشرك وتعظيم ذلك المكان. والشريعة قد جاءت بسد الذرائع الموصلة إلى الشرك.
(وقول الله تعالى: (لا تَـقُم فيه أبداً) الآية)
قال الله تعالى: ﴿لَا تَقُمۡ فِيهِ أَبَدٗاۚ لَّمَسۡجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقۡوَىٰ مِنۡ أَوَّلِ يَوۡمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ﴾[التوبة:108])
(لَا تَقُمۡ فِيهِ أَبَدٗاۚ) لا: ناهية.
والمراد النهي عن الصلاة في مسجد الضرار حيث بناه المنافقون لغرض سيء.
قال الله تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَسۡجِدٗا ضِرَارٗا وَكُفۡرٗا وَتَفۡرِيقَۢا بَيۡنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَإِرۡصَادٗا لِّمَنۡ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ﴾[التوبة:107]
فغرض المنافقين من بناء هذا المسجد:
- مضارة مسجد قباء ولهذا يسمى مسجد الضرار.
- الكفر بالله تعالى لأنه يُقرَّر فيه الكفر من قبل المنافقين.
- التفريق بين المؤمنين لأنه إذا وجد مسجد آخر بجوار المسجد تفرقت الجماعة نصفين والشرع له نظر في اجتماع المؤمنين.
- الإرصاد لمن حارب الله ورسوله ﷺ.
وكان الذين بنوه جاؤوا إلى النبي ﷺ قبل خروجه إلى غزوة تبوك فسألوه أن يصلي فيه وأنهم إنما بنوه للضعفاء وأهل العلة في الليلة الشاتية فقال: «إنا على سفر ولكن إذا رجعنا إن شاء الله» فلما قفل راجعاً إلى المدينة ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعضه نزل الوحي بخبر المسجد فبعث إليه فهدمه قبل قدومه إلى المدينة.
وجه الدلالة من الآية:
أن مسجد الضرار لما أقيم لمعصية الله تعالى نهى الله تعالى رسوله ﷺ والمؤمنين أن يقوموا فيه مع أن صلاته ﷺ وصلاة المسلمين فيه خالصة لله تعالى؛ لما في ذلك من مشاركة ومشابهة لأهل المعاصي.
(عن ثابت بن الضحاك I، قال: نذر رجل أن ينحر إبلاً ببوانة، فسأله النبي ﷺ فقال: (هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد)؟ قالوا: لا. قال: (فهل كان فيها عيد من أعيادهم)؟ قالوا: لا. فقال رسول الله ﷺ: (أوف بنذرك، فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم) رواه أبو داود، وإسناده على شرطهما)
ثابت بن الضحاك بن خليفة الأشهلي صحابي مشهور مات سنة 64 هـ
قوله: (نذر) النذر في الاصطلاح: هو إلزام المكلف نفسه شيئاً تعظيماً للمنذور له.
قوله: (ببوانه) موضع في أسفل مكة دون يلملم.
قوله:(هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد) الوثن: كل ما عبد من دون الله سواء نحت أو لم ينحت.
والصنم ما كان على هيئة صورة. فالوثن على هذا أعم.
قوله: (فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟)
العيد اسم لما يعود ويتكرر أو يعاد إليه فهو قد يكون زمانياً وقد يكون مكانياً فالعيد الزماني عيد الفطر والأضحى وعيد الأسبوع الذي هو يوم الجمعة.
والعيد المكاني كقوله تعالى: «لا تتخذوا قبري عيداً»
فالنبي ﷺ استفصل من السائل لأن المقام يقتضي ذلك، لِمَ خص هذا الرجل بوانه بأن ينحر فيها الإبل لأن الغالب أن التخصيص يكون لغرض.
فسأل النبي ﷺ عن الشرك بقوله: (هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟)
كما سأل عن وسائله بقوله: (هل كان فيها عيد من أعيادهم؟)
فدل على أنه لو كان فيها وثن يعبد لمنع من وفاء النذر فيه ولو كان فيها عيد من أعيادهم لمنع منه أيضاً.
وقوله: (أوف بنذرك) هو أمر إيجاب في الوفاء بالنذر فيما يتعلق بنحر الإبل وبالنسبة للمكان أمر إباحة لأنه لا يتعين أي مكان في الأرض إلا ما تميز بفضل.
قوله: (فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله)
هذا يدل على أن هذا نذر المعصية لا يجوز الوفاء به، وهو محل إجماع العلماء.
قوله: (ولا فيما لا يملك ابن آدم) سواء كان لا يملكه شرعاً كقوله: لله علي أن أتصدق بمال فلان. أو ما لا يملكه قدراً كقوله لله علي أن أطير بيديّ.
12-(باب من الشرك النذر لغير الله)
النذر لغير الله شرك أكبر بالله جل وعلا.
لأن النذر عبادة للمنذور له، لما فيه من التعظيم له، وإذا كان عبادة فصرفها لغير الله شرك أكبر.
فإذا نذر لمخلوق تقربا إليه ليشفع له عند الله، ويكشف ضره ونحو ذلك فقد أشرك مع الله تعالى في عبادته.
والنذر لغير الله تعالى مثل قول: لفلان عليّ نذر. أو لهذا القبر عليّ نذر. يريد بذلك التقرب إليه.
والفرق بين النذر لغير الله ونذر المعصية أن النذر لغير الله ليس لله أصلاً ونذر المعصية لله ولكنه على معصية كقوله نذر لله عليّ أن أشرب الخمر.
(وقول الله تعالى: (يوفون بالنذر))
هذه الآية جاءت في سياق الثناء على الأبرار في قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلۡأَبۡرَارَ يَشۡرَبُونَ مِن كَأۡسٖ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا﴾ [الإنسان:5]
وجه الدلالة: أن الله تعالى مدح الموفين بالنذر والله تعالى لا يمدح إلا على ما هو محبوب إليه، وإذا كان الوفاء بالنذر محبوبا إلى الله تعالى فهو عبادة، لأن العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه . . .، فمن فعل ذلك لغير الله متقرباً إليه فقد أشرك.
ويدل لهذا أيضا قوله تعالى: ﴿وَلۡيُوفُواْ نُذُورَهُمۡ﴾[الحج:29] فهذا أمر بالوفاء بالنذر، فيدل على أنه عبادة لأن العبادة ما أُمر به شرعاً.
(وقوله: (وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه))
قال الله تعالى: ﴿وَمَآ أَنفَقۡتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوۡ نَذَرۡتُم مِّن نَّذۡرٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَعۡلَمُهُۥۗ وَمَا لِلظَّٰلِمِينَ مِنۡ أَنصَارٍ﴾[البقرة:270]
يخبر تعالى بأن ما أنفقناه من نفقة أو نذرناه من نذر فإنه جل وعلا يعلمه، وتعليق الشيء بعلم الله تعالى يدل على أنه محل جزائه وثوابه، وإذا كان محلَّ جزائه وثوابه فهو محبوب إليه، فيكون عبادة، لدخوله في تعريف العبادة المتقدم، وحينئذ يكون صرف النذر لغير الله تعالى شرك أكبر.
(وفي (الصحيح) عن عائشة J، أن رسول الله ﷺ قال: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه))
الصحيح: أي صحيح البخاري.
وجه الدلالة: أن النبي ﷺ أوجب الوفاء بالنذر الذي هو نذر طاعة وإيجاب ذلك يدل على أنه عبادة محبوبة؛ لأن الواجب من أنواع العبادات، وأن ما كان وسيلة إلى الواجب فإنه عبادة لأن الوسيلة للوفاء بالنذر هو النذر.
وإذا نذر لغير الله فإن هذا النذر لا ينعقد ولا تجب فيه كفارة بل هو شرك يجب التوبة منه.
سؤال: هو أنه قد جاء في بعض الأحاديث النهي عن النذر والمنهي عنه غير محبوب إلى الله وما ليس محبوباً إلى الله فإنه لا يكون عبادة وإذا كان كذلك فكيف يكون صرفه لغير الله شركا؟
ومن الأحاديث الواردة في ذلك:
ما في الصحيحين عن ابن عمر L قال: (أولم يُنهوا عن النذر؟) إن النبي ﷺ قال: «إن النذر لا يُقدِّم شيئاً ولا يؤخر وإنما يستخرج به من البخيل»
وفي الصحيحين عن ابن عمر L أنه قال: «نهى رسول اللهﷺ عن النذر وقال إنه لا يرد شيئاً ولكنه يُستخرج من البخيل».
وروى مسلم عن أبي هريرة I أن رسول الله ﷺ: "قال لا تنذروا فإن النذر لا يغني من القدر شيئاً".
فظهر بهذه الأحاديث أن النهي عن النذر إنما هو في النذر المقيد، كقول القائل إن شفى الله مريضي فلله علي أن أتصدق بألف ريال. ونحو ذلك، فالنذر المنهي عنه ما كان يعتقد الناذر فيه أنه سبب لحصول مطلوبه ولهذا قال: "لا يقدم ولا يؤخر".
فالمنهي عنه هو النذر المقيد أما النذر المطلق كأن يقول لله علي أن أصوم ثلاثة أيام. فهو باق على أصل المشروعية، وهو عبادة محبوبة إلى الله تعالى.
أما النذر المقيد فكأن فيه اشتراطاً على الله، كأنه يقول: إن أعطيتني كذا صمت لك أو تصدقت، ففيه مقابلة الفعل بالفعل، وهذا هو الذي وُصف في الحديث بأنه يستخرج به من البخيل.
ومع القول بأن النذر المقيد منهي عنه فإن هذا لا يدل على عدم شرعيته مطلقاً فالمنهي عنه هو التقييد لا أصل النذر.
فالنذر سواء أكان مطلقا أم مقيدا فهو عباده لا يجوز صرفها لغير الله تعالى، والنهي في النذر المقيد راجع إلى التقييد لا إلى أصل النذر
يوضح هذا أن الدعاء مشروع وعبادة في الأصل لكنه إذا اتصف بالاعتداء صار منهياً عنه من هذا الوجه ولا يقال إنه منهي عنه مطلقاً.
والنذر لغير الله تعالى يعد من الشرك الاعتقادي، لأن الناذر لم ينذر هذا النذر لغير الله إلا لاعتقاده في المنذور له أنه يضر وينفع، ومن ذلك قول بعض الناذرين لغير الله تعالى: وقعنا في شدة فنذرنا لفلان فانكشفت شدتنا، ويقول بعضهم: هاجت علينا الأمواج فناديت الشيخ فلان ونذرت له الشيء الفلاني فسلمت سفينتنا، وتراهم إذا هُم لم يَفوا بالنذر وحصلت لهم بعض المصائب قيل للناذر أوف بنذرك وإلا يفعل بك الشيخ كذا وكذا، فيسارع بالوفاء، كل ذلك خوفاً من المنذور له وطلباً لرضاه، نعوذ بالله من الشرك.
13-(باب من الشرك الاستعاذة بغير الله)
قوله: (من الشرك) من هنا تبعيضية. والشرك المراد به الشرك الأكبر.
الاستعاذة: الالتجاء والاعتصام والتحرز، وحقيقتها: الهرب من شيء تخافه إلى من يعصمك منه. ولهذا يسمى المستعاذ به: معاذاً أو ملجأً.
فالعائذ بالله قد هرب مما يخافه إلى ربه، واعتصم به، واستجار به، والتجأ إليه.
والاستعاذة تعظيم للمستعاذ به لأن المستعيذ يشعر بالخوف فيلجأ إلى المستعاذ به حتى ينصره ويحفظه، ويحصل له ذل وخوف، وهذا التعظيم عبادة، لا تصلح إلا لله تعالى.
وفي الاستعاذة طلب دفع الضرر الذي لا يقدر عليه إلا الله، وطلب ما لا يقدر عليه إلا الله من غيره شرك.
والاستعاذة قد أمر الله بها عباده كما في قوله تعالى: ﴿وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ نَزۡغٞ فَٱسۡتَعِذۡ بِٱللَّهِۚ إِنَّهُۥ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾[الأعراف:200]
وقال تعالى: ﴿قُلۡ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلۡفَلَقِ﴾[الفَلَق:1]
وقوله تعالى : ﴿قُلۡ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلنَّاسِ﴾[الناس:1]
وإذا كانت مأموراً بها فهي محبوبة إلى الله تعالى فتكون عبادة فصرفها لغير الله من الشرك الأكبر.
والاستعاذة ومثلها الاستغاثة فيها طلب، والطلب من أنواع الدعاء، فالاستعاذة طلب العياذ وهو الدعاء المشتمل على ذلك، فكل ما فيه طلب فهو دعاء وإذا كان دعاءً فإنه عبادة والعبادة لا يجوز صرفها إلا إلى الله تعالى بالإجماع.
- الفرق بين العياذ واللياذ:
العياذ: هو طلب ما يؤمِّن من الشر. فالعياذ يكون مما يُخاف.
واللياذ هو طلب الخير. فيكون فيما يؤمل.
* الاستعاذة الجائزة:
هي الاستعاذة بالمخلوق الحي الحاضر فيما يقدر عليه.
يدل لذلك ما رواه مسلم عن جابر بن عبد الله L أن امرأة من بني مخزوم سرقت فأُتي بها إلى النبي ﷺ فعاذت بأم سلمة زوج النبي ﷺ فقال عليه الصلاة والسلام: «لو سرقت فاطمة لقطعت يدها»
وما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة I أن رسول الله ﷺ قال: «ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي والماشي خير من الساعي ومن تشرف لها تتشرفه ومن وجد ملجأً أو معاذاً فليعذ به».
* الفرق بين الدعاء والاستعاذة:
الاستعاذة هي نوع من الدعاء إلا أن الاستعاذة تكون لكشف الضر الحاضر كما في صحيح مسلم لقول النبي ﷺ: «أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر» أو منع شر يتوقع وقوعه كقولك: أعوذ بالله من عذاب جهنم».
أما الدعاء فهو أعم فيشمل طلب حصول المنفعة أو دفع مضرة.
* يجوز في الاستعاذة الجائزة أن يقول: «أعوذ بالله ثم بك»
أما إذا قال أعوذ بالله وبك ولو فيما يقدر عليه كان مشركاً شركاً أصغر لأن الواو تفيد أن ما بعدها مساوٍ لما قبلها، عكس ثم فإنها تفيد الترتيب مع التعقيب، وإن كان فيما لا يقدر عليه إلا الله كان مشركاً شركاً أكبر ولو قال أعوذ بالله ثم بك.
(وقول الله تعالى: (وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً))
معنى الآية: أن الجن كانوا يرون لهم فضلاً على الإنس؛ لأنهم كانوا يعوذون بهم. وذلك أن العرب في جاهليتها كانوا إذا نزلوا مكاناً موحشاً قالوا نعوذ بعظيم هذا المكان من الجان. وذلك خوفاً أن يصيبوهم بسوء فلما رأت الجن ذلك من الإنس زادوهم رهقاً، أي خوفاً وذعراً.
وجه الدلالة:
أن الله حكى عن مؤمني الجن أنهم لما تبين لهم دينَ الرسولﷺ فآمنوا به ذكروا أشياء من الشرك كانوا يعتقدونها في الجاهلية، من جملتها الاستعاذة بغير الله؛ لأن هذه الآية جاءت في سياق ذكر إشراك بعض الجن، قال الله تعالى: (يهدي إلى الرشد فآمنا به، ولن نشرك بربنا أحدا).
ففي هذه الآية أن الاستعاذة بالجن مع كونها شركا لا تفيد المستعيذ، بل تزيده رهقاً، فعوقب بنقيض قصده.
ومعنى «فزادوهم رهقا» أي زاد الجنُ الإنسَ خوفا، وقيل: زاد الإنسُ الجنَ رهقاً أي: استكباراً وعتواً.
قال في فتح المجيد: وقد أجمع العلماء على أنه لا تجوز الاستعاذة بغير الله.
(وعن خولة بنت حكيم J قالت: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (من نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك) رواه مسلم)
خولة بنت حكيم السلمية يقال لها أم شريك.
قوله: «من نزل منزلاً» يشمل من نزله على سبيل الإقامة الدائمة أو الطارئة لأن كلمة «منزلاً» نكرة في سياق الشرط فتفيد العموم.
قوله: (أعوذ بكلمات الله التامات) أي أعوذ بكلامه سبحانه، الكوني والشرعي.
وقولة : «التامات» أي صدقاً في الأخبار وعدلاً في الأحكام.
(من شر ما خلق) الله جل وعلا خالق الخير والشر إلا أن الشر الذي خلقه الله تعالى خلقه لحكمة، فعاد بهذه الحكمة خيراً، ولهذا فلا ينسب الشر إلى الله تعالى كما في قوله علية الصلاة والسلام «والشر ليس إليك» فالشر ليس في فعل الله تعالى، وإنما هو في مفعولاته.
وقد يستعيذ الإنسان بكلمات الله تعالى ثم يحصل له الشر وذلك بسبب أنه إنما استعاذ بلسانه فقط دون أن يتفكر بقلبه في معنى استعاذته ولهذا لم تنفعه.
وقوله: «أعوذ بكلمات الله» كلمات الله تعالى صفة من صفاته، غير مخلوقة، ولهذا فإن أهل السنة استدلوا بهذا الحديث على أن كلام الله صفة من صفاته غير مخلوق لأن العلماء قد أجمعوا على عدم جواز الاستعاذة بالمخلوق، والحديث دل على جواز الاستعاذة بكلمات الله تعالى، فدل على أن كلامه سبحانه غير مخلوق.
وجه الدلالة من الحديث للباب:
أن النبي ﷺ بين فضل الاستعاذة بكلمات الله تعالى فدل على أن الاستعاذة محبوبة إلى الله تعالى مرغب فيها فتكون عبادة لا يجوز صرفها إلا لله تعالى.
فائدة: قال النووي في الأذكار: ورويناه في كتاب ابن السني وقال فيه:» أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ثلاثاً لم يضره شيء»[12].
14-(باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره)
الاستغاثة هي طلب الغوث وهو إزالة الشدة.
والاستغاثة بغير الله تعالى من الشرك الأكبر وهذا يقيد بما لا يقدر عليه إلا الله تعالى.
فلو استغاث بميت ليدافع عنه أو بغائب أو بحي حاضر لينزل المطر فهذا كله من الشرك.
أما لو استغاث بحي حاضر فيما يقدر عليه فهو جائز، قال الله تعالى في قصة موسى عليه السلام: ﴿فَٱسۡتَغَٰثَهُ ٱلَّذِي مِن شِيعَتِهِۦ عَلَى ٱلَّذِي مِنۡ عَدُوِّهِۦ فَوَكَزَهُۥ مُوسَىٰ فَقَضَىٰ عَلَيۡهِ﴾[القصص:15]
لكن ينبغي إذا طلبت من أحد الغوث فيما يقدر عليه أن تعتقد أنه مجرد سبب وأنه لا تأثير له بذاته في إزالة الشدة لأنك ربما تعتمد عليه وتنسى خالق السبب وهذا قادح في كمال التوحيد.
قوله: (أو يدعو غيره) الدعاء على قسمين:
دعاء عبادة ودعاء مسألة، كما تقدم.
والفرق بين الاستغاثة والدعاء:
أن الاستغاثة لا تكون إلا من المكروب، والدعاء أعم من الاستغاثة لأنه يكون من المكروب وغيره، فعطْفُ الدعاء على الاستغاثة من عطف العام على الخاص. فكل استغاثة دعاء وليس كل دعاء استغاثه.
وقد ذكر الشيخ سليمان رحمه الله تعالى في التيسير حال عباد القبور أنه إذا كان للإنسان منهم حاجة في شفاء مريض أو غير ذلك نادى صاحب القبر يا سيدي فلان جئتك قاصداً من مكان بعيد لا تخيبني، فيفزعون إلى صاحب القبر وبيكون عنده، فإن جرى قدر الله عز وجل بحصول شيء مما يريدون استبشروا وفرحوا ونسبوا ذلك إلى صاحب القبر، وإن لم يقع ما يريدون اعتذروا عن صاحب القبر بأنه إما غائب في مكان آخر، أو ساخط لبعض أعمالهم، أو أن اعتقادهم في الولي ضعيف، أو أنهم لم يعطوه نذوره ونحو هذه الخرافات، نسأل الله تعالى العافية.
(وقوله تعالى: (ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذاً من الظالمين * وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو) الآية)
في هاتين الآيتين أن الله جل وعلا هو المنفرد بالنفع والضر دون ما سواه، فيلزم من ذلك أن يكون هو المدعو وحده والمعبود وحده.
وجه الدلالة من الآية:
ظاهره من قوله:(ولا تدع) يشمل دعاء العبادة والمسألة فنهى الله أن يتوجه لغيره سواء على سبيل الاستقلال أو معه جل وعلا بالدعاء وهذا يدخل فيه الاستغاثة لأنها نوع من الدعاء، وبيَّن جل وعلا أن من دعا غيره فهو من الظالمين أي المشركين.
وفي الآية الأخرى أنه لا يكشف الضر إلا الله ولا يجلب الخير إلا الله تعالى فدل على أن غيره لا يملك ذلك فيكون سؤاله شركاً أكبر.
(وقوله: (فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه) الآية)
قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَا يَمۡلِكُونَ لَكُمۡ رِزۡقٗا فَٱبۡتَغُواْ عِندَ ٱللَّهِ ٱلرِّزۡقَ وَٱعۡبُدُوهُ وَٱشۡكُرُواْ لَهُۥٓۖ إِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ﴾[العنكبوت:17]
فهم يعبدون هذه الأوثان وهي لا تملك لهم رزقاً أبداً ولهذا أمرهم أن يطلبوا الرزق من الله وحده.
وتقديم الظرف (عند الله) يفيد الاختصاص.
قوله:(واعبدوه) من عطف العام على الخاص فإن ابتغاء الرزق عند الله من العبادة التي أمر بها.
ذكر المؤلف رحمه الله تعالى هذه الآية التي فيها توحيد الله عز وجل بطلب الرزق لأن معظم حال المستغيثين إنما هي في طلب الرزق.
والرزق اسم عام يشمل كل ما يصلح أن يُرزق أي يمنح ويعطي فيدخل في ذلك الصحة والعافية والمال والطعام والبيت وغير ذلك مما يحتاجه المرء.
وجه الدلالة:
دلت الآية أن طلب الرزق مختص بالله جل وعلا وذلك من تقديم ما حقه التأخير أي فلا تبتغوا الرزق عند غيره ولا تستغيثوا بغيره في طلب رزق بل ذلك كله لله جل وعلا.
ومن قوله: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لَا يَمۡلِكُونَ لَكُمۡ رِزۡقٗا﴾[العنكبوت:17]
إذا كانت هذه المعبودات لا تملك الرزق فكيف يستغاث بها وتدعى لجلب الرزق؟
(وقوله: (ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة) الآيتان)
قوله: ﴿وَمَنۡ أَضَلُّ مِمَّن يَدۡعُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَن لَّا يَسۡتَجِيبُ لَهُۥٓ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ وَهُمۡ عَن دُعَآئِهِمۡ غَٰفِلُونَ﴾[الأحقاف:5])
قوله: (وَمَنۡ أَضَلُّ): من: اسم استفهام والمراد بالاستفهام هنا النفي أي لا أحد أضل.
وإذا كان الاستفهام مراداً به النفي كان أبلغ من النفي المجرد لأنه يتضمن معنى التحدي.
قوله: (مِمَّن يَدعُو) يشمل دعاء العبادة والمسألة.
قوله: (مِن دُونِ) يشمل مع الله أو غير الله استقلالاً.
قوله: (مَن لَّا يَسۡتَجِيبُ لَهُۥٓ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ) أي لا أضل ممن يدعو من دون الله أمواتاً، والدليل على أنه أراد الأموات ولم يرد الأصنام والأشجار والأحجار أنه قال: (مَن لَّا يَسۡتَجِيبُ لَهُۥٓ إِلَىٰ يَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ) وهذه في الأموات لأنه جعل غاية الاستجابة إلى يوم القيامة، والميت إذا كان يوم القيامة نشر وأصبح حياً يسمع وربما أجاب طلب من طلبه وقد يكون قادراً.
قوله: (وَهُمۡ عَن دُعَآئِهِمۡ غَٰفِلُونَ) أي المدعوون وهم المعبودون عن دعاء الداعين أي العابدين غافلون.
قوله: ﴿وَإِذَا حُشِرَ ٱلنَّاسُ كَانُواْ لَهُمۡ أَعۡدَآءٗ وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمۡ كَٰفِرِينَ﴾[الأحقاف:6]
أي كان العابدون للمعبودين أعداء ويشمل كذلك أن يكون المعبودون أعداءً للعابدين.
وهذا من بلاغة القرآن.
وجه الدلالة من الآية للباب: أن من يدعو غير الله تعالى موصوف بأنه أضل الناس، كما أن من يُدعَى مع الله تعالى لا يجيب من دعاه إلى يوم القيامة، وهو غافل عن دعائه، ويكون عدوا لمن دعاه ويكفر بعبادته يوم يُحشر الناس، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يدعو المرء غير الله تعالى؟
كما دلت الآية على أن دعاء غير الله تعالى عباده؛ لقوله: (وكانوا بعبادتهم كافرين) فدل على أن الدعاء عبادة، والعبادة لا تصرف إلا لله وحده، وصرفها لغيره شرك أكبر.
(وقوله: (أمن يجيب ا لمضطر إذا دعاه ويكشف السوء))
هذه الآية فيها: أن دعاء المضطر إنما هو لله - جل وعلا - وحده، فقوله: ﴿أَمَّن يُجِيبُ ٱلۡمُضۡطَرَّ إِذَا دَعَاهُ﴾ [النمل: 62] هذا في دعاء المسألة، وكشف السوء في قوله. ﴿وَيَكۡشِفُ ٱلسُّوٓءَ﴾ [النمل: 62] تارة يكون بالاستغاثة، وتارة بغير ذلك؛ ولهذا فإن هذه الآية تدل إفراد الله تعالى بالدعاء والاستغاثة.
ثم قال بعدها: ﴿أَءِلَٰهٞ مَّعَ ٱللَّهِ﴾، وهذا الاستفهام إنكاري، ينكر عليهم أن يتخذوا إلها مع الله، وينكر عليهم أن يدعوا غير الله، أو يتوجهوا في كشف السوء لغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله.
(وروي الطبراني بإسناده أنه كان في زمن النبي ﷺ منافق يؤذي المؤمنين، فقال بعضهم: قوموا بنا نستغيث برسول الله ﷺ من هذا المنافق. فقال النبي ﷺ: (إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله عز وجل).
قوله: (إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله عز وجل) فهذا نفي منه ﷺ أنه لا يستغاث به حماية لجناب التوحيد وسداً لذرائع الشرك وتحذيراً للأمة من وسائله.
وإذا كان هذا في الاستغاثة بسيد الخلق عليه الصلاة والسلام فمن دونه بطريق الأولى.
قال بعض أهل العلم: أراد به النبي ﷺ أن يُطلب منه ما لا يقدر عليه إلا الله، لأن النبي ﷺ كان يعامل المنافقين معاملة المسلمين، بناء على ظاهر حالهم، ولا يمكنه أن يغيثهم من هذا المنافق، لأن المنافقين يستترون، وعلى هذا فلا يستغاث من شر هذا المنافق إلا بالله تعالى.
وقال بعضهم: إن الصحابة M استغاثوا بالنبي ﷺ في أمر يقدر عليه إلا أنه عليه الصلاة والسلام قال ذلك تواضعاً وأدباً مع ربه جل وعلا. وحقيقة الاستغاثة على وجه الكمال إنما تكون بالله جل وعلا.
والحديث قال عنه شيخ الإسلام: وهو صالح للاعتضاد ودل على معناه الكتاب والسنة.[13].
15-(باب قول الله تعالى: (أيشركون مالا يخلق شيئاً وهم يخلقون * ولا يستطيعون لهم نصراً) الآية)
أراد المؤلف رحمه الله تعالى من إيراد هذا الباب بيان الأدلة والبراهين على بطلان عبادة ما سوى الله تعالى.
سواء أكان المعبود من دون الله ملَكاً أم نبياً أم صالحاً أم صنماً أم غير ذلك فهذه كلها لا تنفع من عبدها ولا تضره ولا تخلق شيئاً فدل ذلك على عدم استحقاقها للعبادة.
قوله: (أَيُشرِكُونَ) الاستفهام للإنكار والتوبيخ أي أيشركون معه في العبادة.
قوله: (مَا لَا يَخلُقُ شَيئاً) «شيئاً» نكرة في سياق النفي فتعم، فهذا الذي يُشرك به مع الله تعالى لا يخلق أي شيء.
قوله: (وَهُم يُخلَقُونَ) يعني المعبودات موصوفة بأنها مخلوقة وهذا يدل على عجزها ونقصها والرب لا يمكن أن يكون مخلوقاً.
قوله: ﴿وَلَا يَسۡتَطِيعُونَ لَهُمۡ نَصۡرٗا﴾ أي لا تستطيع الآلهة التي تُعبد من دون الله تعالى أن تنصر من يعبدُها إذا احتاج إلى النصرة.
(وَلَآ أَنفُسَهُم يَنصُرُونَ) أي هذه الآلهة عاجزة أيضاً عن نصر نفسها، فكيف تنصر غيرها؟
وهذه الأوصاف في الآية هي أوصاف لكل مخلوق حتى الملائكة والأنبياء والصالحين، وإذا كانت هذه أوصافها فلا تستحق أن تكون آلهة تعبد من دون الله عز وجل.
(وقوله: (والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير) الآية)
قال الله تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ تَدۡعُونَ مِن دُونِهِۦ مَا يَمۡلِكُونَ مِن قِطۡمِيرٍ 13 إِن تَدۡعُوهُمۡ لَا يَسۡمَعُواْ دُعَآءَكُمۡ وَلَوۡ سَمِعُواْ مَا ٱسۡتَجَابُواْ لَكُمۡۖ وَيَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ يَكۡفُرُونَ بِشِرۡكِكُمۡۚ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثۡلُ خَبِيرٖ 14﴾[فاطر:13-14 ]
قوله: (وَالَّذِينَ تَدعُونَ) يشمل دعاء العبادة ودعاء المسألة.
قوله: (مِن دُونِهِ) يشمل معه ويشمل من دونه استقلالاً.
قوله: (مَا يَملِكُونَ مِن قِطمِيرٍ) أي لا يملكون شيئا.
والقطمير: وهو اللفافة الرقيقة التي على النواة.
﴿إِن تَدۡعُوهُمۡ لَا يَسۡمَعُواْ دُعَآءَكُمۡ وَلَوۡ سَمِعُواْ مَا ٱسۡتَجَابُواْ لَكُمۡۖ وَيَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ يَكۡفُرُونَ بِشِرۡكِكُمۡۚ ﴾ فدل على أن دعوة غير الله شرك.
فهؤلاء المعبودون إن كانوا يبعثون ويحشرون فكفرهم بشركهم ظاهر كمن يعبد المسيح والأنبياء ونحوهم.
وإن كانوا أحجاراً وأشجاراً ونحوها فيحتمل أن يشملها ظاهر الآية وهو أن الله تعالى يأتي بها يوم القيامة فتكفر بشرك من أشرك بها.
قوله: ﴿وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثۡلُ خَبِيرٖ ﴾ وهو الله جل وعلا والخبير هو العالم ببواطن الأمور.
فإذا كان أولئك المعبودون من دون الله تعالى لا يملكون هذا الشيء الحقير الذي لا يحتاجه الناس فكيف يطلبون منهم أشياء لا يملكونها فينبغي إذاً أن يتوجه بالدعاء لمن يملك ذلك وهو الله جل وعلا.
(وفي الصحيح عن أنس قال: شُجَّ النبي ﷺ يوم أحد وكسرت رباعيته، فقال: (كيف يفلح قوم شَجُّوا نبيهم)؟ فنزلت: (ليس لك من الأمر شيء))
قوله: (وفي الصحيح) هو عند البخاري معلقاً وعند مسلم موصولاً.
والشجة: هي الجرح في الرأس والوجه خاصة.
والرباعية: هي السن التي بين الثنية والناب.
فقال: (كيف يفلح قوم شجوا نبيهم) الاستفهام للاستبعاد أي بعيد أن يفلح قوم شجوا نبيهم.
فنزلت: ﴿لَيۡسَ لَكَ مِنَ ٱلۡأَمۡرِ شَيۡءٌ أَوۡ يَتُوبَ عَلَيۡهِمۡ أَوۡ يُعَذِّبَهُمۡ فَإِنَّهُمۡ ظَٰلِمُونَ﴾ [آل عمران:128] أي ليس لك يا محمد ﷺ من شأن الخلق شيء و»شيء» نكرة في سياق النفي فتعم.
وقال بعض العلماء: أي ليس لك من الحكم بشيء في عبادي إلا ما أمرتك به فيهم.
وفي هذا الحديث الدلالة على أن الأنبياء تصيبهم الابتلاءات والأسقام لتعلم الأمة أنهم بشر تصيبهم محن الدنيا ويطرأ على أجسامهم ما يطرأ على أجسام البشر، ويتيقنوا أنهم مخلوقون ولا يفتنوا بما يجري على أيديهم من المعجزات فيجرهم ذلك إلى الغلو فيهم وعبادتهم.
ودل قوله تعالى: (لَيۡسَ لَكَ مِنَ ٱلۡأَمۡرِ شَيۡءٌ) على أن النبي ﷺ رغم منزلته العالية ليس له من أمر الخلق شيء فغيره من المخلوقين من باب أولى ألا يكون له من الأمر شيء كالأصنام والأوثان والملائكة والأنبياء وغيرهم فالأمر كله لله وحده كما أنه الخالق وحده.
(وفيه عن ابن عمر L أنه سمع رسول الله ﷺ يقول إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر: (اللهم العن فلاناً وفلاناً) بعدما يقول: (سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمــد) فأنزل الله تعالى: (ليس لك من الأمر شيء) الآية وفي رواية: يدعو على صفوان بن أمية، وسهيلِ بن عمرو والحارث بن هشام، فنزلت (ليس لك من الأمر شيء))
وفيه: أي في صحيح البخاري.
(أنه سمع النبي ﷺ يقول إذا رفع رأسه ... )
هذا يسمى قنوت النوازل.
(اللهم العن فلاناً وفلاناً) اللعن: الطرد والإبعاد عن رحمة الله.
وفي رواية للبخاري: يدعو على صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام.
وقد أسلم هؤلاء الثلاثة فيما بعد وحسن إسلامهم.
ففي هذا الحديث الدلالة على أن هؤلاء الكفار مع إظهارهم لكفرهم وغزوهم نبيهم وشجهم له وكسر رباعيته وقتل المؤمنين والتمثيل بقتلاهم إلا أن النبي ﷺ لم يقدر على دفعهم عن نفسه ولا عن صحابته كما قال تعالى: ﴿قُلۡ إِنِّي لَآ أَمۡلِكُ لَكُمۡ ضَرّٗا وَلَا رَشَدٗا﴾ [الجن:21]
بل لجأ إلى ربه جل وعلا ودعا عليهم في الصلاة المكتوبة جهراً، وخلفه سادات الأولياء يؤمنون على دعائه، ومع ذلك كله ما استجاب الله له فيهم، وآمنوا، فلو كان عنده من النفع والضر شيء لكان يفعل بهم ما يستحقون على هذه الأفعال العظيمة.
وإذا كان هذا في حقه ﷺ فكيف بغيره؟
(وفيه عن أبي هريرة I قال: قام رسول الله ﷺ حين أنزل عليه: (وأنذر عشيرتك الأقربين) قال: (يا معشر قريش ـ أو كلمة نحوها ـ اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفية عمة رسول الله ﷺ لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئت لا أغني عنك من الله شيئاً)
وفيه: أي صحيح البخاري
قوله: (اشتروا أنفسكم) أي: أنقذوها، لأن المشتري نفسه كأنه أنقذها من هلاك، والمعنى اشتروا أنفسكم بتوحيد الله والإخلاص في العبادة له وحده لا شريك له وطاعته واجتناب ما نهى عنه.
قوله: (لا أغني عنكم من الله شيئاً) هذا هو الشاهد من الحديث.
أي لا أنفعكم بدفع شيء عنكم دون الله ولا أمنعكم من شيء أراده الله لكم.
و(شيئاً) نكرة في سياق النفي فتعم كل شيء.
ثم قال: ( يا عباس ... يا صفية ... يا فاطمة ...)
فدل الحديث على أن النبي ﷺ لا يغني عن أقاربه شيئاً فغير أقاربه من باب أولى ألا يغني عنهم شيئاً.
ودل على أن القرب من النبي ﷺ لا يغني شيئاً.
16-(باب قول الله تعالى: (حتى إذا فُزّع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير)
أراد المصنف رحمه الله تعالى بهذه الترجمة بيانَ حال الملائكة عليهم السلام، الذين هم أقوى وأعظم من عُبد من دون الله، فإذا كان هذا حالهم مع الله تعالى وهيبتُهم منه وخشيتُهم له فكيف يُدعون من دون الله تعالى؟ وإذا كانوا لا يُدعون مع الله تعالى فغيرهم ممن لا يقدر على شيء من الأموات والأصنام أولى أن لا يُدعى ولا يُعبد.
ففيه الرد على جميع فرق المشركين.
قوله: ﴿حَتَّىٰٓ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمۡ﴾ [سبأ:23] أي زال الفزع عنها، والمراد الملائكة.
وذلك أن الملائكة إذا سمعت الوحي إلى جبريل عليه السلام سمعت كجر سلسلة الحديد على الصفوان فتفزع عند ذلك تعظيماً وهيبة كما سيأتي في الحديث.
قوله: (قالوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُم) أي قال بعضهم لبعض.
قوله: (قَالُواْ الحق) أي قالوا قال الله الحق أو قال القول الحق فهو صفة لمصدر محذوف عامله.
قوله: (وَهُوَ ٱلۡعَلِيُّ) علو القدر وعلو القهر وعلو الذات فله العلو الكامل من جميع الوجوه.
وقوله (الكَبِيرُ) أي الذي لا أكبر منه ولا أعظم تبارك وتعالى.
وجه الدلالة من الآية:
أن الملائكة وهم أعظم من عُبد من دون الله يفزعون ويخافون ويخشون ربهم ويهابونه فكيف يكونون آلهة تُعبد وتُدعى.
وإذا كان هذا في حق الملائكة فغيرهم ممن هو دونهم في العظمة من باب أولى.
(وفي الصحيح عن أبي هريرة I عن النبي ﷺ قال: (إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله، كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك. حتى إذا فُزِّع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلي الكبير فيسمعها مسترق السمع ـ ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض ـ وصفه سفيان بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه ـ فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها عن لسان الساحر أو الكاهن فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء))
قوله: في «الصحيح» أي صحيح البخاري.
قوله: (إذا قضى الله الأمر في السماء) إذا تكلم الله بالأمر أي الشأن الذي قضاه في السماء، فيوحي إلى جبريل عليه السلام بما أراده جل وعلا كما صرح به الحديث الآتي.
وقوله (في السماء) دليل على علو الله تعالى على ما يليق بجلاله وعظمته.
قوله: (ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله) ومعنى (خُضْعاناً) بفتحتين من الخضوع، وفي رواية بضم أوله وسكون ثانيه، وهو مصدر بمعنى خاضعين.
قوله: (كأنه سلسلة على صفوان) أي كأن الصوت المسموع في وقعه على قلوبهم سلسلة على صفوان وهو الحجر الأملس الصلب والسلسلة عليه يكون لها صوت عظيم. وليس المراد تشبيه صوت الله تعالى بهذا لأن الله تعالى (ليس كمثله شيء) بل المراد تشبيه ما يحصل لهم من الفزع عندما يسمعون كلامه بفزع من يسمع صوت السلسلة على صفوان.
قوله: (ينفُذُهم ذلك) المعنى أن هذا القول ينفذ إلى الملائكة ويمضي فيهم حتى يفزعوا منه.
قوله: (حتى إذا فزع عن قلوبهم . . .) تقدم معناه.
وبهذا يتبين أن هذا الحديث هو تفسير للآية وهو من تفسير القرآن بالسنة.
قوله: (فيسمعها مسترق السمع) أي يسمع الكلمة التي قضاها الله تعالى في السماء.
قوله: (هكذا بعضه فوق بعض وصفه سفيان بكفه) سفيان هو ابن عيينة أي أن الشياطين يتراكبون واحداً فوق الآخر.
قوله: (فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته) أي يسمع الكلمة من كان أعلى المسترقين ثم يخبر بها من تحته ثم يخبر بها الآخر من تحته ... ولا يصل هؤلاء المسترقون إلا إلى السماء الدنيا لقوله تعالى: ﴿وَجَعَلۡنَا ٱلسَّمَآءَ سَقۡفٗا مَّحۡفُوظٗاۖ وَهُمۡ عَنۡ ءَايَٰتِهَا مُعۡرِضُونَ﴾[الأنبياء:32]
قوله: (حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن) وحينئذٍ يقع الرجم.
قوله: (فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها) الشهاب هو النجم الذي يرمى به.
أي ربما أدرك الشهابُ المسترقَ قبل أن يلقي الكلمة.
قوله: (فيكذب معها مائة كذبة) يعني الكاهن أو الساحر أو يكذب الشيطان مع الكلمة التي استرقها مائة كذبة ويخبر بالجميع وليه من الإنس.
قوله: (فيقال أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا كذا وكذا؟ فيصدَّق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء) فيحصل الافتتان من الإنس بالساحر والكاهن ويفتتن الساحر والكاهن بوليهما من الشياطين ويقبلون ما جاؤوا به من الصدق والكذب لأنه قد أخبره مرة بخبر صدق فوقع كما أخبر فيصدَّق في كل ما يقوله من صدق أو كذب.
والله جل وعلا يمكِّن هؤلاء الجن من الوصول إلى السماء فتنة للناس وابتلاءً لهم لحكمة أرادها جل وعلا.
(وعن النواس بن سمعان I قال: قال رسول الله ﷺ: (إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمـر تكلـم بالوحي أخذت السمـاوات منه رجفة ـ أو قال رعدة ـ شديدة خوفاً من الله عز وجل. فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعقوا وخروا سجداً. فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، ثم يمر جبريل على الملائكة، كلما مر بسماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول جبريل: قال الحق وهو العلي الكبير فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل. فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل))
(إذا أراد الله أن يوحي بالأمر) أي بالشأن.
(تكلم بالوحي) فدل ذلك على أن الله تعالى يتكلم إذا أراد أي متى شاء ففيه رد على الأشاعرة الذين يقولون إنه يتكلم بكلام أزلي.
(أخذت السماء منه رجفة، أو قال رعدة شديدة، خوفاً من الله عز وجل) فدل على أن السماوات تخاف من الله تعالى بما جعل فيها من الإحساس بمعرفة من خلقها.
(صعقوا وخروا لله سجداً) الصعق هو الغشي ومعه السجود وقيل إنهم يصعقون فإذا أفاقوا سجدوا.
(فيكون أول من يرفع رأسه جبريل) ففيه فضيلة جبريل عليه السلام.
(فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل) أي إلى الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام.
وجه الدلالة:
أن الملائكة على عظم خلقها تخاف الله تعالى وتخشاه أشد الخشية فدل على أنها لا تستحق العبادة من دون الله تعالى وإذا كان هذا في حق الملائكة فغيرها ممن هو دونها من باب أولى.
17-(باب الشفاعـة)
سبب إيراد هذا الباب في كتاب التوحيد:
لما كان المشركون في قديم الزمان وحديثه إنما وقعوا في الشرك لتعلقهم بالشفاعة كما قال تعالى: ﴿وَيَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمۡ وَلَا يَنفَعُهُمۡ وَيَقُولُونَ هَٰٓؤُلَآءِ شُفَعَٰٓؤُنَا عِندَ ٱللَّهِۚ قُلۡ أَتُنَبُِّٔونَ ٱللَّهَ بِمَا لَا يَعۡلَمُ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلَا فِي ٱلۡأَرۡضِۚ سُبۡحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يُشۡرِكُونَ﴾ [يونس:18] أراد المصنف رحمه الله تعالى في هذا الباب إقامة الحجة على أن ذلك هو عين الشرك، وأن الشفاعة التي يظنها من دعا غير الله ليشفع له كما يشفع الوزير عند الملك منتفية دنيا وأخرى، وإنما الله تعالى هو الذي يأذن للشافع ابتداءً، لا يشفع الشافع ابتداءً كما يظنه المشركون.
والذين يدْعون النبي ﷺ أو يدعون الأولياء يقولون: إن هؤلاء الأنبياء والأولياء مقربون عند الله عز وجل، فهم يشفعون عند الله تعالى؛ لأن لهم جاهاً عنده ولهذا يقبل شفاعتهم.
وهؤلاء المشركون يظنون أنهم باتخاذ الشفعاء معظمون لله تعالى ولكنهم في الحقيقة منتقصون له لأنه سبحانه عليم بكل شيء وله الحكم التام المطلق والقدرة التامة فلا يحتاج إلى شفعاء، والملوك في الدنيا يحتاجون إلى شفعاء إما لقصور علمهم أو لنقص قدرتهم فيساعدهم الشفعاء في ذلك أو لقصور سلطانهم فيتجرأ عليهم الشفعاء فيشفعون بدون استئذان ولكن الله عز وجل كامل العلم والقدرة والسلطان فلا يحتاج لأحد أن يشفع عنده ولهذا لا تكون الشفاعة عنده إلا بإذنه لكمال سلطانه.
(وقول الله تعالى: (وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع))
الإنذار هو الإعلام المتضمن للتخويف والتحذير. (به) أي بالقرآن.
﴿ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحۡشَرُوٓاْ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ﴾ أي الذين يخافون مما يقع لهم من سوء العذاب في ذلك الحشر، وهم المؤمنون.
﴿لَيۡسَ لَهُم مِّن دُونِهِۦ وَلِيّٞ﴾ أي ناصر ينصرهم.
﴿وَلَا شَفِيعٞ﴾ أي شافع يشفع لهم.
﴿لَعَلَّهُمۡ يَتَّقُونَ﴾ أي فيعملون في هذه الدنيا عملاً ينجيهم الله به من عذاب يوم القيامة.
ففي هذه الآية نفى الله الشفاعة من دونه أي من دون إذنه، ومفهومها أنها ثابتة بإذنه وهذا هو المقصود. الشفاعة من دونه منفية، وبإذنه جائزة وممكنة أما عند ملوك الدنيا ومعظمي الدنيا فجائزة بإذنهم وبغير إذنهم.
(وقوله: (قل لله الشفاعة جميعاً))
قوله: (لِّلَّهِ الشَّفَٰعَةُ) قدم الخبر للحصر والمعنى: لله وحده الشفاعةُ كلها.
وجه الدلالة من الآية: (قُل لِّلَّهِ الشَّفَٰعَةُ جَمِيعا) أي هو مالك الشفاعة جميعاً فلا تطلب إلا منه وبطل أن تطلب من غيره ممن لا يملكها.
(وقوله: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه))
(من) اسم استفهام، والاستفهام بمعنى النفي، أي لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه.
ففي هذه الآية بيان أن الشفاعة إنما تقع في الدار الآخرة بإذنه كما قال تعالى: ﴿يَوۡمَئِذٖ لَّا تَنفَعُ ٱلشَّفَٰعَةُ إِلَّا مَنۡ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحۡمَٰنُ وَرَضِيَ لَهُۥ قَوۡلٗا﴾[طه:109]
فاشتملت هذه الآية على شرطي الشفاعة، وهما الإذن للشافع أن يشفع، والرضى عن المشفوع له.
(وقوله: (وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى))
(كَم) خبرية ومعناها التكثير.
(لَا تُغۡنِي) أي لا تغني بجلب النفع ودفع الضر.
فإذا كانت الملائكة المقربون عند ربهم سبحانه وتعالى لا تغني شفاعتهم إلا بعد إذن الله ورضاه ممن هو أهل للشفاعة فكيف تشفع الأصنام لمن عبدها؟
وإذا كانت الملائكة لا يشفعون إلا بإذن الله عز وجل فكيف يُعبدون من دون الله تعالى؟
(وقوله: (قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض) الآيتين)
(قُلِ ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة) الذرة واحدة الذر وهي صغار النمل ويضرب بها المثل في القلة.
وكذلك ما دون الذرة لا يملكونه. والمقصود بذكر الذرة المبالغة وإذا كان المقصود بالشيء المبالغة فلا مفهوم له.
(وما لهم فيهما مِن شِرۡك) هذه من الزائدة لفظاً لكنها للتوكيد فتفيد المبالغة في النفي وأنه ليس هناك شرك لا قليل ولا كثير. وكذلك قوله: (وما له منهم مِّن ظَهِير).
ففي هذه الآية: قد قطع الله الأسباب التي يتعلق بها المشركون جميعاً، فالمشرك إنما يتخذ معبوده لما يحصل له من النفع، والنفع لا يكون إلا ممن يكون منه خصلة من هذه الأربع:
إما مالك لما يريده عابده منه، فإن لم يكن مالكاً كان شريكاً للمالك، فإن لم يكن شريكاً له كان معيناً له وظهيراً، فإن لم يكن معيناً ولا ظهيراً كان شفيعاً عنده.
فنفى سبحانه المراتب الأربع نفياً مرتباً متنقلاً من الأعلى إلى الأدنى فنفى الملك والشركة والمظاهرة والشفاعة التي يطلبها المشرك وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك وهي الشفاعة بإذنه.
(قال أبو العباس: نفى الله عما سواه كلَّ ما يتعلق به المشركون، فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه، أو يكون عوناً لله، ولم يبق إلا الشفاعة، فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب، كما قال تعالى: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون، هي منتفية يوم القيامة كما نفاها القرآن، وأخبر النبي ﷺ أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده، لا يبدأ بالشفاعة أولاً، ثم يقال له: ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تُعط، واشفع تُشفع.
وقال له أبو هريرة: من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: (من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه) فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله.
وحقيقته: أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع، ليكرمه وينال المقام المحمود. فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك، ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع، وقد بيَّن النبي ﷺ أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص. انتهى كلامه)
قال أبو العباس: أورد المصنف كلام شيخ الإسلام وهو كالشرح لهذا الباب.
وقوله في حديث أبي هريرة I: (خالصاً من قلبه) خرج بذلك المنافق.
قوله: (وحقيقته) أي حقيقة الشفاعة والفائدة منها.
وإكرامه سبحانه للشافع من وجهين:
1- إكرام الشافع بقبول شفاعته.
2- ظهور جاهه وشرفه عند الله تعالى.
(المقام المحمود) أي الذي يُحمد عليه، ومن ذلك قبول الله تعالى لشفاعة رسوله عليه الصلاة والسلام يوم القيامة.
18-(باب قول الله تعالى: (إنك لا تهدي من أحببت) الآية)
أراد المصنف رحمه الله تعالى بهذا الباب الرد على عباد القبور الذين يعتقدون في الأنبياء والصالحين أنهم ينفعون ويضرون فيسألونهم مغفرة الذنوب وتفريج الكروب وهداية القلوب وغير ذلك من المطالب.
فإذا عرف الإنسان معنى هذه الآية ومَن نزلت فيه تبين بطلان ما هم عليه من الشرك لأن رسول الله ﷺ هو أفضلُ الخلق وأقربهم من الله وأعظمُهم جاهاً عنده ومع ذلك حرص واجتهد على هداية عمه أبي طالب في حياة أبي طالب وعند موته فلم يقدر على هدايته، ثم استغفر له بعد موته فلم يغفر له، حتى نهاه الله عن ذلك ففي هذا البيان وأوضح البرهان على أنه ﷺ لا يملك ضراً ولا نفعاً ولا عطاءً ولا منعاً، وأن الأمر كله بيد الله فهو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء ويعطي من يشاء ويمنع من يشاء، ولو كان عنده ﷺ من هداية القلوب ومغفرة الذنوب وتفريج الكروب شيء لكان أحقُّ الناس به وأولاهم من قام معه أتم القيام ونصره.
قال المصنف رحمه الله تعالى: (باب قول الله تعالى: إِنَّكَ لَا تَهۡدِي مَنۡ أَحۡبَبۡتَ ..)
سبب نزولها موت أبي طالب كما سيأتي في حديث الباب.
(إِنَّكَ لَا تَهۡدِي مَنۡ أَحۡبَبۡتَ) أي ليس ذلك إليك وإنما عليك البلاغ والله يهدي من يشاء وله الحكمة البالغة.
(لَا تَهۡدِي) المنفي هنا هداية التوفيق والقبول وخلق القدرة على الطاعة فإن أمر ذلك لله وحده وهو القادر عليه.
والقسم الثاني من الهداية هداية الدلالة والبيان والإرشاد وهي المذكورة في قوله تعالى:
﴿وَإِنَّكَ لَتَهۡدِيٓ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٖ﴾ [الشورى:52] فهو عليه الصلاة والسلام المبين عن الله الدال على شرعه.
(وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهۡدِي مَن يَشَآءُۚ) أي من اقتضت حكمته أن يهديه فإنه يهتدي ومن اقتضت حكمته أن يضله أضله.
وجه الدلالة:
إضافة لما سبق في أول الباب يقال إذا كان النبي ﷺ لم يستطع أن ينفع قرابته وأنه ليس بيده هداية التوفيق فإنه أن ينتفي ذلك وما دونه عن غيره من باب أولى فبطل كل تعلق للمشركين من هذه الأمة بغير الله عز وجل.
(وفي الصحيح عن ابن المسيَّب عن أبيه قال: (لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله ﷺ وعنده عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل، فقال له: (يا عم، قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله) فقالا له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فأعاد عليه النبي ﷺ، فأعادا فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب وأبى أن يقول: لا إله إلا الله. فقال النبي ﷺ: (لأستغفرن لك ما لم أنه عنك) فأنزل الله عز وجل: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين) الآية. وأنزل الله في أبي طالب: (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء)).
قوله: وفي الصحيح: أي في الصحيحين.
عن ابن المسيَّب هو سعيد بن المسيب القرشي المخزومي أحد الفقهاء الكبار السبعة من التابعين.
(عن أبيه) المسيب صحابي بقي إلى خلافة عثمان I.
وجده حَزْن صحابي استشهد باليمامة.
(لما حضرت أبا طالب الوفاة) أي علاماتها ومقدماتها وإلا لو كان انتهى إلى المعاينة لم ينفعه الإيمان لو آمن ويدل على ذلك ما وقع من المراجعة بينه وبينهم.
(جاءه رسول الله ﷺ وعنده عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل) وكان الثلاثة إذ ذاك على الكفر فقتل أبو جهل على كفره وأسلم الآخران.
قوله: (يا عم قل لا إله إلا الله) أمره أن يقولها لعلم أبي طالب بما دلت عليه من نفي الشرك بالله وإخلاص العبادة له وحده.
وقوله: (كلمة أحاج لك بها عند الله) فيه دليل على أن الأعمال بالخواتيم وأنه لو قالها معتقداً ما دلت عليه لنفعته.
(فقالا: أترغب عن ملة عبد المطلب) ذكراه بما يهيج نعرته، وهي ملة عبد المطلب حتى لا يخرج عن ملة آبائه.
وفيه أن أبا جهل ومن معه أعرف بمعنى لا إله إلا الله من كثير من المتأخرين.
(فأعاد عليه النبي ﷺ فأعادا) هذا فيه الصبر على الدعوة إلى الله تعالى.
(فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب) فمات على الشرك عياذا بالله.
وجه الدلالة منه كما تقدم في الآية.
19-(باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركِهم دينهم هو الغلو في الصالحين)
لما ذكر المؤلف رحمه الله تعالى بعض ما فعله عباد القبور مع الأموات من الشرك أراد أن يبين السبب في ذلك ليُحذر وهو الغلو مطلقاً، ولا سيما في الصالحين، فإنه أصل الشرك قديماً وحديثاً، لقرب الشرك بالصالحين من النفوس، فإن الشيطان يظهره في قالب المحبة والتعظيم.
والغلو: هو مجاوزة الحد في مدح الشيء أو ذمه.
وضابطه: تعدي ما أمر الله به، وهو الطغيان الذي نهى الله عنه في قوله: ﴿كُلُواْ مِن طَيِّبَٰتِ مَا رَزَقۡنَٰكُمۡ وَلَا تَطۡغَوۡاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيۡكُمۡ غَضَبِيۖ وَمَن يَحۡلِلۡ عَلَيۡهِ غَضَبِي فَقَدۡ هَوَىٰ﴾[طه:81]
قوله: (الصالحين) الصالح هو الذي قام بحق الله تعالى وحق العباد.
(وقول الله عز وجل: (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ))
ينهى الله تعالى اليهود والنصارى في هذه الآية عن تعدي ما حدده لهم، ونحن كذلك قد نهينا عن الغلو كما قال تعالى: ﴿فَٱسۡتَقِمۡ كَمَآ أُمِرۡتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطۡغَوۡاْۚ إِنَّهُۥ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ﴾[هود:112]
وكلا الطائفتين اليهود والنصارى قد غلو في دينهم فقد غلو في عيسى عليه السلام مدحاً وقدحاً فاليهود قد غلو في قدحه فقالوا إنه ولد زنا والنصارى غلوا في مدحه فقالوا إنه ابن الله تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
والغلو في الدين يتضمن مفاسد منها:
1- أنه يؤدي إلى عبادة المغلو فيه إن كان مدحاً كما هو الواقع.
2- أنه يؤدي إلى أن يُعجَب المغلو فيه بنفسه ويتعاظم إذا كان الغلو مدحاً.
وجه الدلالة: أن قوله تعالى: (لَا تَغۡلُواْ فِي دِينِكُمۡ) يعم جميع أنواع الغلو في الدين ويدخل في ذلك الغلو في الصالحين.
كما أن النصارى لما غلو في مدح عيسى عليه السلام أدى بهم ذلك إلى أن اتخذوه إلهاً فكذلك من غلا في الصالحين من هذه الأمة أدى بهم الغلو إلى أن يعبدوهم من دون الله تعالى.
(وفي الصحيح عن ابن عباس L في قول الله تعالى: (وقالوا لا تذرُنَّ آلهتكم ولا تذرُنَّ وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً) قال: (هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً وسموها بأسمائهم، ففعلوا، ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم، عبدت))
وفي الصحيح: أي البخاري.
﴿وَقَالُواْ لَا تَذَرُنَّ ءَالِهَتَكُمۡ﴾ أي لا تتركوا عبادتها ولا تمكِّنوا أحداً من إهانتها وهذا من التواصي بالباطل.
(وَلَا تَذَرُنَّ وَدّا وَلَا سُوَاعا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسۡرا) هذه الخمسة كأن لها مزية على غيرها من الآلهة لأن قوله: (ءَالِهَتَكُمۡ) يعم جميع الآلهة.
قوله: (هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح)
هذه أصنام في قوم نوح كانوا رجالاً صالحين فطال على قومهم الأمد فعبدوهم.
قوله: (أوحى الشيطان) أي وسوس إليهم.
قوله: (أنصاباً) جمع نُصُب والمراد بها الأصنام المصورة على صور أولئك الصالحين.
قوله: (حتى إذا هلك أولئك) أي الذين صوروا تلك الأصنام ليكون أشوق إليهم إلى العبادة وليتذكروا برؤيتها أفعال أصحابها.
قوله: (ونسي العلم) أي ذهب العلم بذهاب العلماء وعم الجهل حتى صاروا لا يميزون بين التوحيد والشرك وزالت المعرفة بحال هذه الأصنام وما قصده مَنْ صَورها.
قوله: (عبدت من دون الله)
وهذا يفيد الحذر من الغلو ومن وسائل الشرك وإن كان القصد بها حسناً.
فإن الشيطان أدخل أولئك في الشرك من باب الغلو في الصالحين والإفراط في محبتهم.
(وقال ابن القيم: قال غير واحد من السلف: لما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم)
كلامه بمعنى ما تقدم في البخاري إلا أنه ذكر عكوفهم على قبورهم قبل تصويرهم تماثيلهم.
(وعن عمر أن رسول الله ﷺ قال: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله) أخرجاه).
قوله: (لا تطروني) الإطراء مجاوزة الحد في المدح والكذب فيه، والمعنى لا تمدحوني بالباطل ولا تجاوزوا الحد في مدحي فتغلوا في ذلك، كما غلت النصارى في عيسى عليه السلام فادَّعوا فيه الإلهية، وإنما أنا عبد كما وصفني ربي فقولوا عبد الله ورسوله.
فأبى المشركون ذلك وارتكبوا ما نهاهم عنه فغلوا فيه وضاهوا النصارى في غلوهم وشركهم وظنوا أنهم إذا وصفوه بأنه عبد الله ورسوله وأنه لا يدعى ولا يستغاث به ولا ينذر له ولا يطاف بحجرته وأنه ليس له من الأمر شيء ولا يعلم الغيب إلا ما علمه الله أن في ذلك هضماً لجنابه وغضاً من قدره فرفعوه فوق منزلته وادعوا فيه ما ادعت النصارى في عيسى أو قريباً منه فسألوه مغفرة الذنوب وتفريج الكروب.
فأظهر لهم الشيطان هذا الشرك العظيم في قالب محبة النبي ﷺ وتعظيمه وهذا شأن الشيطان لابد وأن يمزج الحق بالباطل ليروج على العوام الذين لم يستضيئوا بنور العلم وإنما يحصل تعظيم النبي ﷺ باتباع أمره واجتناب نهيه والدعوة إلى دينه ونصرته ومحبة أوليائه ومعاداة من خالفه.
(وقال: قال رسول الله ﷺ: (إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو))
ولفظ الحديث عند الإمام أحمد عن ابن عباس L قال: قال لي رسول الله ﷺ غداة جمعٍ: «هلم القط لي» فلقطت له حصيات هن حصى الخَذْف فلما وضعهن في يده قال: «نعَم بأمثال هؤلاء. وإياكم والغلو في الدين».
وهذا الحديث لفظ عام في جميع أنواع الغلو سواء في الاعتقادات أو الأعمال.
ويستفاد من هذا الحديث تحريم الغلو من وجهين:
1- تحذيره ﷺ والتحذير نهي وزيادة.
2- أنه بين أن الغلو سبب لإهلاك الأمم كما هلك من قبلنا وما كان سبباً للهلاك كان محرماً.
(ولمسلم عن ابن مسعود أن رسول الله ﷺ قال: (هلك المتنطعون) قالها ثلاثاً)
المتنطعون: هم أهل الغلو. وفيه النهي عن التنطع؛ لأنه سبب للهلاك.
20-(باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف إذا عبده؟)
(التغليظ) أي التشديد (عَبَدَ الله): أي وعبدَ الله وحده.
(فكيف إذا عبده) أي فكيف إذا عبَدَ القبر أو عبَدَ الرجل الصالح.
فعبادة الله وحده عند قبر الرجل الصالح وسيلة إلى عبادته من دون الله تعالى ووسائل الشرك محرمة لأنه من أعظم الذنوب.
وصورة ما يفعله بعض الناس من العبادة لله تعالى عند القبور أن يأتي إلى قبر الرجل الصالح فيتحرى ذلك المكان ليعبد الله تعالى عنده دون ما سواه رجاء بركة البقعة وهذا يروج على كثيرين من أن ما حول قبور الصالحين مبارك وأن العبادة عندها ليست كالعبادة عند غيرها وأنها تتنزل عندها الرحمات ونحو ذلك.
(في (الصحيح) عن عائشة J أن أم سلمة ذكرت لرسول الله ﷺ كنيسة رأتها في أرض الحبشة وما فيها من الصور. فقال: (أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله) فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين، فتنة القبور، وفتنة التماثيل)
(في الصحيح) أي الصحيحين.
(أم سلمة) J، وكانت قد هاجرت مع أبي سلمة I إلى الحبشة ولما توفي زوجها تزوجها النبي ﷺ ماتت سنة 62 هـ.
(من الصور) الظاهر أنها صور مجسمة وتماثيل منصوبة.
(أولئك) بفتح الكاف وكسرها والمراد نصارى الحبشة أو من فعل فعلهم.
(إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح) هذا والله أعلم شك من الراوي
(بنوا على قبره مسجداً) أي موضعاً للعبادة وإن لم يسم مسجداً كالكنائس والمشاهد.
(وصوروا فيه تلك الصور) أي التي رأت أم سلمة J.
(أولئك شرار الخلق عند الله) وهذا يدل على تحريم هذا الفعل.
وإنما كان مَن فَعَل ذلك موصوفا بشرار الخلق لأنهم فعلوا ما هو وسيلة إلى الشرك الذي هو أعظم الذنوب.
(فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين فتنة القبور وفتنة التماثيل) هذا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى فإن الفتنة بالقبور كالفتنة بالتماثيل أو أشد.
وإنما سمي ذلك فتنة لأنها سبب لصد الناس عن دينهم وكل ما كان كذلك فإنه من الفتنة قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ فَتَنُواْ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ ثُمَّ لَمۡ يَتُوبُواْ فَلَهُمۡ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمۡ عَذَابُ ٱلۡحَرِيقِ﴾[البروج:10] أي فعلوا ما يصدونهم به عن دينهم.
(ولهما عنها قالت: (لما نُزل برسول الله ﷺ طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها، فقال ـ وهو كذلك ـ : ((لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)) يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً، أخرجاه)
(لما نُزل برسول الله ﷺ ) أي نزل به ملك الموت والملائكة الكرام عليهم السلام.
أي أنه في حالة الاحتضار.
(طَفِق) معناه: جعل (يطرح خميصة) كساء له أعلام.
(فإذا اغتم بها كشفها) أي عن وجهه، والمعنى إذا احتبس نَفَسُه عن الخروج كشفها عن وجهه.
(فقال وهو كذلك لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)
فمن فعل فعل اليهود والنصارى من اتخاذ القبور مساجد فهو ملعون.
ومعنى اتخاذ القبور مساجد:
- الصلاة على القبور بمعنى السجود عليها.
- السجود إليها واستقبالها بالصلاة والدعاء.
- بناء المساجد عليها وقصد الصلاة فيها.
(اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) هذه الجملة تعليلية كأن قائلاً يقول: لماذا لعنهم النبي ﷺ فالجواب أنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد.
وكل من اتخذ القبور مكاناً للعبادة فقد اتخذها مسجداً سواء بنى عليها مسجداً أم لا وكذلك كل من بنى على القبور بناءً يتعبد فيه فقد اتخذ القبور مساجد وإن لم يسمِّ هذا البناء مسجداً.
قوله: (يحذر ما صنعوا) الظاهر أن هذا من كلام عائشة J.
فالنبي ﷺ لعن اليهود والنصارى على ذلك تحذيراً لأمته من الوقوع فيما صنعوا وذلك سداً للذريعة الموصلة إلى الشرك.
ومع هذا فقد وقع الكثير من الناس فيما حذرهم منه بل اعتقدوا ذلك قربة من القربات وهو من أعظم المنكرات.
(ولولا ذلك) أي ما كان يُحذر من اتخاذ قبره ﷺ مسجداً.
(لأُبْرِز قبره) من قبور أصحابه M في البقيع.
(غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً) بالفتح أي خشي ﷺ أن يُتخذ قبره مسجداً.
وبالضم يحتمل أن يكون أصحابه M خافوا أن يقع ذلك من بعض الأمة لما رأوا من التحذير منه والنهي عنه.
والعلة الثانية في عدم إبراز قبره قول أبي بكر I أنه سمع النبي ﷺ يقول:»إن الأنبياء يقبرون حيث يقبضون».
وجه الدلالة من الحديث:
أن النبي ﷺ وهو في تلك الشدة والغم لم يغفل عن تحذير أمته من وسائل الشرك ولعن من اتخذ قبور أنبيائهم مساجد.
(ولمسلم عن جندب بن عبد الله قال: سمعت النبي ﷺ قبل أن يموت بخمس وهو يقول: (إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلاً، كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً، لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك))
قوله: (إني أبرأ إلى الله) البراءة هي التخلي.
قوله: (أن يكون لي منكم خليل) الخليل هو المحبوب غاية الحب مشتق من الخلة وهي تخلل المودة في القلب كما قال الشاعر:
قد تخللت مسلك الروح مني
وبذا سمي الخليــــل خليـــــــلاً
وإنما كان ذلك لأن قلبه قد امتلأ من محبة الله وتعظيمه ومعرفته فلا يسع خُلة غيره.
قوله: (فإن الله قد اتخذني خليلاً .....)
قوله: (ولو كنت ....) فيه دليل على أن الصديق أفضل الصحابة I وعنهم. وفيه الرد على الرافضة وعلى الجهمية.
والرافضة هم أول من بنى على القبور مساجد وبسببهم حدث الشرك وعبادة القبور.
وهما شر أهل البدع.
قوله: (ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور انبيائهم مساجد) ...... إلخ
دلالته كالذي قبله.
(فقد نهى عنه في آخر حياته، ثم إنه لعن ـ وهو في السياق ـ من فعله، والصلاة عندها من ذلك، وإن لم يُبْنَ مسجد، وهو معنى قولها: خشي أن يتخذ مسجداً، فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجداً، وكل موضع قصدت الصلاة فيه فقد اتخذ مسجداً، بل كل موضع يصلى فيه يسمى مسجداً، كما قال ﷺ: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً).
قوله: (فقد نهى عنه في آخر حياته) هذا من كلام شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله تعالى.
والمراد كما في حديث جندب I.
قوله: (ثم إنه لعن - وهو في السياق- من فعله) كما في حديث عائشة J
قوله: (والصلاة عندها من ذلك) أي من اتخاذها مساجد الملعون فاعله.
وقد قال عليه الصلاة والسلام: «الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام».
والصحيح أن علة النهي هي مظنة اتخاذها أوثاناً ولئلا تتخذ ذريعة إلى نوع من الشرك بالعكوف عليها وتعلق القلوب بها رغبة ورهبة ولما في ذلك من مشابهة الكفار بالصلاة عند القبور.
وقد بلغ الغلو في قبور الصالحين إلى أن يقول بعضهم: الكعبة في الصلاة قبلة العامة والصلاة إلى قبر الشيخ فلان مع استدبار الكعبة قبلة الخاصة. وهذا الكلام كفر بالإجماع.
حتى إن بعض القبور يُجتمع عندها في يوم من السنة ويُسافر إليها إما في شهر الله المحرم أو رجب أو شعبان أو ذي الحجة بحيث تُقصد في يوم معين كما تقصد عرفة ومنى ومزدلفة في أيام معلومة، ومنهم من يقصد الدعاء والتعبد عندها كما يُقصد بيت الله الحرام لذلك، حتى إن بعضهم يسميه الحج، ويقول نريد الحج إلى قبر فلان، بل بعضهم يكون هذا الحج عنده أعظم من الحج إلى بيت الله الحرام ويسمونه الحج الأكبر.
حتى صنف بعضهم كالشيخ المفيد كتاباً في مناسك المشاهد.
ولبعض الشعراء الرافضة قوله:
هي الطفوف فطف سبعاً بمغناها
فما لمكــــــه معنى مثل معناهــا
والطفوف أرض كربلاء التي قتل فيها الحسين I.
ثم قال المصنف رحمه الله تعالى: «والصلاة عندها من ذلك ... كما قال عليه الصلاة والسلام: جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً « فسمى الأرض مسجداً تجوز الصلاة في كل بقعة منها إلا ما استثني.
كما إذا عرض لمن أراد أن يصلي فأوقع الصلاة في ذلك الموضع الذي حانت الصلاة عنده من غير أن يقصد ذلك الموضع بخصوصه فصار بفعل الصلاة فيه مسجداً.
ودل هذا الحديث على أن من دفن شخصاً في مسجد وجب عليه نبشه وإخراجه من المسجد ومن بنى مسجداً على قبر وجب هدمه. قال ابن تيمية رحمه الله تعالى: «وهذه المساجد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين أو الملوك أو غيرهم تتعين إزالتها بهدم أو بغير هذا مما لا أعلم فيه خلافاً بين العلماء المعروفين».
(ولأحمد بسند جيد عن ابن مسعود I مرفوعاً: (إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد) رواه أبو حاتم في صحيحه).
قوله: (إن من شرار الخلق من تدركهم الساعة وهم أحياء)
وهذا يتعارض في الظاهر مع حديث: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين حتى يأتي أمر الله» متفق عليه وفي رواية لمسلم: «حتى تقوم الساعة ».
والجمع بينهما أن المراد بالحديث الثاني أي إلى قرب قيام الساعة وليس إلى قيامها بالفعل، لأنها لا تقوم إلا على شرار الخلق، فالله يرسل ريحاً تقبض روح كل مؤمن ولا يبقى إلا شرار الخلق وعليهم تقوم الساعة.
قوله: (والذين يتخذون القبور مساجد) أي ومن شرار الخلق من يتخذون .....
21-(باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثاناً تعبد من دون الله)
أراد المصنف رحمه الله تعالى بهذه الترجمة أموراً:
1- التحذير من الغلو في قبور الصالحين.
2- أن الغلو فيها يؤول إلى عبادتها.
3- أنها إذا عبدت سميت أوثاناً ولو كانت قبور الصالحين.
4- التنبيه على العلة في المنع من البناء عليها واتخاذها مساجد.
وزيارة القبور على ثلاثة أقسام:
1- قسم مشروع: ومطلوب لأجل الدعاء للأموات والترحم عليهم وتذكر الموت لقوله عليه الصلاة والسلام: «زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة» رواه أحمد.
وكان النبي ﷺ يزورها وكذلك أصحابه M.
2- قسم بدعي: وهو زيارة القبور للقراءة عندها أو الصلاة عندها أو للذبح لله عز وجل، أي يعتقد الزائر أن عبادة الله تعالى عند القبور لها فضيلة، فهذا بدعة ومن وسائل الشرك.
3- قسم شركي: وهو زيارة القبور لدعاء أهلها والاستغاثة بهم أو الذبح لهم أو النذر لهم ونحو ذلك من الشركيات.
(روى مالك في (الموطأ): أن رسول الله ﷺ قال: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))
دل هذا الحديث على أن قبر النبي ﷺ لو عبد لكان وثناً فما الظن بغيره من القبور التي عبدت من دون الله.
وإنما سأل النبي ﷺ ذلك لأن من كان قبلنا كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد وعبدوا صالحيهم فسأل النبي ﷺ ربه ألا يجعل قبره وثناً يعبد لأن دعوته كلها التوحيد ومحاربة الشرك.
ودل الحديث على أن الوثن هو ما يباشر العابد من القبور والتوابيت التي عليها.
وإن وجد من يعبد الرسول ﷺ بعيداً عن قبره فهذا قد اتخذه وثناً لكن القبر نفسه لم يجعل وثناً.
وفي مغازي ابن اسحاق من طريق أبي العالية قال: لما فتحنا تُستر([14]) وجدنا في بيت مال الهرمزان سريراً عليه رجل ميت عند رأسه مصحف فأخذنا المصحف فحملناه إلى عمر فدعا له كعباً فنسخه بالعربية فأنا أول رجل قرأه من العرب قرأته مثل ما أقرأ القرآن . . .
قال: فما صنعتم بالرجل؟ قال: حفرنا له بالنهار ثلاثة عشر قبراً متفرقاً، فلما كان بالليل دفناه وسوينا القبور كلها؛ لنعميه على الناس لا ينبشونه . . .
قلت: من كنتم تظنون الرجل؟ قال: رجل يقال له دانيال، فقلت: منذ كم وجدتموه مات؟ قال: منذ ثلاثمائة سنة، قلت: ما كان تغير منه شيء؟ قال: لا، إلا شعيرات من قفاه، إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض.
قال ابن كثير في البداية وهذا إسناد صحيح إلى أبي العالية، ولكن إن كان تاريخ وفاته محفوظاً من ثلاثمائة سنة فليس نبياً، بل هو رجل صالح[15].
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: ففي هذه القصة ما فعله المهاجرون والأنصار من تعمية قبره لئلا يُفتتن به ولم يبرزوه للدعاء عنده والتبرك به ولو ظفر به المتأخرون لجالدوا عليه بالسيوف ولعبدوه من دون الله تعالى. ا.هـ.
قوله: (اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد).
فيه الترهيب من اتخاذ قبور الأنبياء مساجد، وأنه من كبائر الذنوب، ووسائل الشرك.
(ولابن جرير بسنده عن سفيان عن منصور عن مجاهد: ( أفرءيتم اللات والعزى ) قال: كان يلت لهم السويق فمات فعكفوا على قبره، وكذلك قال أبو الجوزاء عن ابن عباس: كان يلت السويق للحاج)
مناسبته للترجمة: أنهم غلو فيه لصلاحه حتى عبدوه وصار قبره وثناً من أوثان المشركين.
(وعن ابن عباس L قال: لعن رسول الله ﷺ زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج. رواه أهل السنن).
قوله: «والسرج»: جمع سراج، توقد عليها السرج ليلا ونهارا تعظيما وغلوا فيها.
وهذا الحديث يدل على تحريم زيارة النساء للقبور، بل على أنه من كبائر الذنوب; لأن اللعن لا يكون إلا على كبيرة، ويدل على تحريم اتخاذ المساجد والسرج عليها، وهو كبيرة من كبائر الذنوب للعن فاعله.
وجه الدلالة منه: أن اتخاذ المساجد عليها وإسراجها غلو فيها، فيؤدي بعد ذلك إلى عبادتها.
22-(باب ما جاء في حماية المصطفى ﷺ جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك)
جناب التوحيد: أي جانب التوحيد، والمراد حماية جانب التوحيد من الشرك وأسبابه.
وسده كل طريق يوصل إلى الشرك: ولو من بعيد، فقطع الذرائع الموصلة إليه.
قال الشيخ سليمان بن عبد الله رحمه الله تعالى في التيسير: (واعلم أن في الأبواب المتقدمة شيئًا من حمايته ﷺ لجناب التوحيد، ولكن أراد المصنف هنا بيان حمايته الخاصة. ولقد بالغ ﷺ وحذر وأنذر، وأبدأ وأعاد، وخص وعم في حماية الحنيفية السمحة التي بعثه الله بها، فهي حنيفية في التوحيد، سمحة في العمل).
(وقول الله تعالى: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم) الآية)
قول الله تعالى: ﴿لَقَدۡ جَآءَكُمۡ رَسُولٞ مِّنۡ أَنفُسِكُمۡ عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ حَرِيصٌ عَلَيۡكُم بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٞ رَّحِيمٞ﴾[التوبة:128]
الجملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات: (القَسَم - اللام - وقد) وهي مؤكدة لجميع مدخولها بأنه رسول وأنه من أنفسهم وأنه عزيز عليه ما يشق عليهم وأنه بالمؤمنين رؤوف رحيم.
والخطاب للعرب في قول الجمهور قال تعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلۡأُمِّيِّۧنَ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ﴾[الجمعة:2]
فعلى هذا يكون معنى قوله تعالى: (من أنفسكم) أي من جنسكم أي العرب أي ترجعون أنتم وإياه إلى نفس واحدة.
وإنما خوطب العرب بذلك دون غيرهم مع كونه قد بُعث إلى الناس كافة لأن منَّة الله به عليهم أعظم من غيرهم لكونه منهم وهذا تشريف لهم.
قوله: (عَزِيزٌ عَلَيۡهِ مَا عَنِتُّمۡ) أي يصعب عليه ما يشق عليكم، والعنت بمعنى المشقة.
قوله: (حَرِيصٌ عَلَيۡكُم) أي باذل غاية الجهد في مصلحتكم.
قوله: (بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوف رَّحِيم) [التوبة:128] الرأفة أشد الرحمة وأرقها.
وقوله بالمؤمنين أي لا بغيرهم كما يفيده تقديم الجار والمجرور.
وجه الدلالة: أن هذه الآية تضمنت وصف النبي ﷺ بهذه الأوصاف التي تقتضي النصح لأمته، وأن يُبلِّغ البلاغ المبين، وأعظم ما يبلِّغه هو التوحيد، وحماية جنابه، والتحذير من الشرك، وسد الطرق الموصلة إليه، وأعظم ذلك الفتنة بالقبور، فإن الغلو فيها هو الذي جر الناس في قديم الزمان وحديثه إلى الشرك، ولذا حذر النبي ﷺ من الغلو في القبور حتى في قبره ﷺ الذي هو أشرف القبور، فنهى عن اتخاذه عيدًا، ودعا الله أن لا يجعله وثنًا يعبد.
(عن أبي هريرة I قال: قال رسول الله ﷺ: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا عليّ، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم) رواه أبو داود بإسناد حسن، ورواته ثقات)
(لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ...) أي لا تعطلوها من الصلاة فيها فتكون كالقبور، ويدل له حديث ابن عمر L عن النبي ﷺ، قال: «اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، ولا تتخذوها قبورا» رواه البخاري 432، ومسلم 777.
وهذا يدل على أن المتقرر عندهم أن المقابر لا يصلى فيها.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة I: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة».
وكل هذا إبعاد للأمة عن الشرك.
وقيل المراد بقوله: «لا تجعلوا بيوتكم قبوراً» أي لا تدفنوا فيها. وهذا هو ظاهر اللفظ، لكن أُورد عليه دفنه ﷺ في بيته، وأجيب أن ذلك من خصائصه عليه الصلاة والسلام حيث دفن في بيته لسببين:
1- ما جاء في الحديث أن الأنبياء عليهم السلام يدفنون حيث يقبضون.
2- ما ذكرته عائشة J من أنه خُشي أن يتخذ مسجداً.
وكلا المعنيين صحيح فلا يجوز أن يُدفن الإنسان في بيته بل يدفن في مقابر المسلمين لأن هذه هي العادة المتبعة منذ عهد النبي ﷺ إلى اليوم ولأن دفنه في بيته قد يكون وسيلة إلى الشرك فربما يعظم هذا المكان.
وجه الدلالة من الحديث: أنه نهى عن ترك الصلاة في البيوت لئلا تشبَّه بالمقابر فدل على أن المقابر ليست محلاً للصلاة، لأن الصلاة فيها ذريعة إلى الشرك، وهذا من حمايته ﷺ جناب التوحيد، وسده طرق الشرك.
ويستثنى من ذلك الصلاة على الميت في المقبرة، سواء أصلي عليه قبل دفنه، أم صلي على قبره إلى شهر من دفنه.
والحديث يدل على أن الأفضل للمرء أن يجعل من صلاته في بيته وذلك جميع النوافل لقوله ﷺ: «أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة». متفق عليه.
إلا ما ورد في الشرع أن يفعل في المسجد من النوافل.
قوله: «ولا تجعلوا قبري عيداً».
العيد اسم لما يعتاد فعله أو التردد عليه.
أي لا تترددوا على قبري وتعتادوا ذلك سواء قيد ذلك بالسنة أو الشهر أو الأسبوع وإنما يزار قبره عليه الصلاة والسلام لسبب كما لو قدم من السفر فذهب إلى قبره فزاره أو زاره ليتذكر الآخرة كغيره من القبور.
قال في التيسير: «وذلك يدل على المنع في جميع القبور لأن قبر النبي ﷺ أفضل قبر على وجه الأرض وقد نهى عن اتخاذه عيداً فقبر غيره أولى بالنهي كائناً من كان».
قوله: (وصلوا علي فإن صلاتكم ...)
صلوا: هذا أمر وقد أمر الله بذلك في قوله: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَٰٓئِكَتَهُۥ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِيِّۚ يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيۡهِ وَسَلِّمُواْ تَسۡلِيمًا﴾[الأحزاب:56]
ومعنى الصلاة من الله تعالى على رسوله ﷺ ثناؤه عليه في الملأ الأعلى.
قوله: (فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم)
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود I قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ لِلَّهِ مَلَائِكَةً سَيَّاحِينَ فِي الْأَرْضِ يُبَلِّغُونِي مِنْ أُمَّتِي السَّلَامَ» رواه النسائي 1282، وصححه الألباني.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: وهذا إسناد صحيح[16].
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ I أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إِلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ» رواه أبو داود 2041، وحسنه الألباني.
قال شيخ الإسلام إسناد جيد.[17] وصححه النووي في الأذكار ورياض الصالحين.
وقال النبي ﷺ: (إنَّ من أفضل أيامكم يوم الجمعة ...، فأكثروا عليَّ من الصّلاة فيه؛ فإنَّ صلاتكم معروضة عليَّ)[18].
(وعن علي بن الحسين: أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي ﷺ، فيدخل فيها فيدعو، فنهاه، وقال: ألا أحدثكم حديثاً سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله ﷺ قال: (لا تتخذوا قبري عيداً، ولا بيوتكم قبوراً، وصلوا عليّ فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم) رواه في المختارة)
قوله: (وعن علي ابن الحسين) بن علي بن أبي طالب M الملقب بزين العابدين.
(أنه رأى رجلاً يجيء إلى فرجة [19] كانت عند قبر النبي ﷺ فيدخل فيها فيدعو)
هذا الرجل لم يتكرر منه المجيء إلى هذه الفرجة إلا لاعتقاده أن فيها فضلاً وكونه يظن أن الدعاء عند القبر له مزية فتح باب ووسيلة إلى الشرك.
(فنهاه) أي طلب منه الكف عن ذلك.
(سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله ﷺ) أبوه الحسين وجده علي L.
(لا تتخذوا قبري عيداً) تقدم الكلام عليه.
(ولا بيوتكم قبوراً) كذلك.
(وصلوا علي فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم)
أي صلوا علي في أي مكان كنتم، فإن تسليمكم يصلني مهما بعدتم. ولا حاجة إلى المجيء إلى القبر للسلام والصلاة علي عنده.
23-باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان
(بعض هذه الأمة) أي لا كلها لأن في هذه الأمة طائفة لا تزال منصورة على الحق حتى قيام الساعة.
(الأوثان) جمع وثن والوثن يطلق على كل ما قصد بنوع من أنواع العبادة من دون الله من القبور والمشاهد والأصنام وغيرها.
مناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد:
قال الشيخ سليمان رحمه الله تعالى في التيسير: «أراد المصنف رحمه الله تعالى بهذه الترجمة الرد على عباد القبور الذين يفعلون الشرك ويقولون: إنه لا يقع في هذه الأمة المحمدية وهم يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فبين في هذا الباب من كلام الله وكلام رسول الله ﷺ ما يدل على تنوع الشرك في هذه الأمة ورجوع كثير منها إلى عبادة الأوثان وإن كانت طائفة منها لا تزال على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى».
واحتج هؤلاء القبوريون على أن الشرك لا يقع في هذه الأمة بما رواه مسلم أن النبي ﷺ قال: «إن الشيطان أيس من أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم».
والجواب عنه من وجهين:
أن الشيطان أيس بنفسه ولم يؤيِّسه الله تعالى فلا يدل ذلك على عدم وقوع الشرك لأن الشيطان لا يعلم الغيب والنبي ﷺ قد أخبر بوقوع المخالفة في ذلك كما في قوله عليه الصلاة والسلام: «لتركبن سنن من كان قبلكم ....»
ولكن الشيطان لما رأى عز الإسلام وظهور التوحيد على الكفر في جزيرة العرب أيس أن يعبده المصلون في هذه الجزيرة وإلا فهو حريص على إغواء بني آدم.
2- أن قوله ﷺ: «أيس أن يعبده المصلون» إشارة إلى أنه أيس من عبادة المصلين له والمراد بهم من أقام الصلاة على حقيقتها فإنها تنهاه عن الفحشاء والمنكر وأعظم المنكر الذي سينكره المصلي هو الشرك بالله جل وعلا فإن الشيطان ييئس أن يعبده من أقام الصلاة على حقيقتها.
(وقول الله تعالى: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت))
قال الله تعالى: ﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبٗا مِّنَ ٱلۡكِتَٰبِ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡجِبۡتِ وَٱلطَّٰغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَٰٓؤُلَآءِ أَهۡدَىٰ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ سَبِيلًا﴾[النساء:51]
الاستفهام في هذه الآية للتقرير والتعجب.
(أُوتُواْ نَصِيبًا) أُعطو حظاً.
(مِّنَ الْكِتَابِ) أي المنزل والمراد به التوراة والإنجيل.
قوله: (يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) أي يصدقون بهما.
وعن عمر بن الخطاب I: الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان. علقه البخاري في صحيحه. وقال الحافظ في الفتح: إسناده قوي.
وقيل: الجبت: الكاهن، وقيل الجبت: الشرك وقيل الأصنام.
والطاغوت: مأخوذ من الطغيان وهو مجاوزة الحد ولهذا يعرف ابن القيم رحمه الله تعالى الطاغوت: كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع.
وجه مناسبة الآية للباب:
أن الإيمان بالجبت والطاغوت وقع من الذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى والنبي ﷺ أخبر أن ما وقع في الأمم قبلنا سيقع في هذه الأمة كما قال في حديث أبي سعيد I: «لتتبعن سنن من كان قبلكم ...» فدل ذلك على أن من هذه الأمة من سيقع في الشرك.
(وقوله تعالى: (قل هل أُنبئُكُم بشرٍ من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت))
(قُلۡ) الخطاب للنبي ﷺ (هَلۡ أُنَبِّئُكُم) أي أخبركم، والاستفهام للتقرير والتشويق أي سأقرر عليكم هذا الخبر.
(بِشَرّ مِّن ذَٰلِكَ) المشار إليه ما يزعمه اليهود من أنهم على الحق وأن النبي ﷺ وأصحابه M ليسوا على الحق.
(مَثُوبَةً) أي جزاءً، فالمعنى: بشر من ذلك جزاء عند الله.
(مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ) هذا جواب الاستفهام في قوله تعالى: (قُلۡ هَلۡ أُنَبِّئُكُم بِشَرّ مِّن ذَٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِۚ) الجواب تقديره هو من لعنه الله.
ولعنه أي طرده وأبعده عن رحمته.
(وَغَضِبَ عَلَيۡه، وَجَعَلَ مِنۡهُمُ ٱلۡقِرَدَةَ وَٱلۡخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ٱلطَّٰغُوتَۚ) والإشارة هنا إلى اليهود فهم قد لعنهم الله تعالى، وجُعلوا قردة بقوله تعالى: ﴿كُونُواْ قِرَدَةً خَٰسِِٔينَ﴾[البقرة:65] وغضب عليهم بقوله: ﴿فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٖ﴾[البقرة:90]
قوله: (وَعَبَدَ ٱلطَّٰغُوتَۚ) عبد: فعل ماض معطوف على قوله: (لَّعَنَهُ ٱللَّهُ) أي ومن عبد الطاغوت.
وجه الدلالة: أن عبادة الطاغوت وقعت في الأمم السابقة وما وقع فيها سيقع في هذه الأمة بخبر النبي ﷺ فإننا نعلم أن من هذه الأمة من سيعبد الطاغوت، وعبادة الطاغوت عامة يدخل فيها عبادة الأوثان والقبور.
(وقوله تعالى: (قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدًا)
كان أصحاب الكهف في بلاد شرك فخرجوا منها فيسر الله لهم كهفاً فدخلوا فيه فناموا نومة طويلة (﴿ثَلَٰثَ مِاْئَةٖ سِنِينَ وَٱزۡدَادُواْ تِسۡعٗا﴾[الكهف:25]) ولما خرجوا بعد ذلك بَعثوا أحدَهم ليشتري لهم طعاماً. فاطَّلع الناس على أمرهم فلما ماتوا اختلفوا في أمرهم.
(قَالَ ٱلَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَىٰٓ أَمۡرِهِمۡ) اختلف في المراد بهم على أقوال:
رجح ابن كثير رحمه الله تعالى وغيره من أهل العلم أنهم الكبراء والأمراء وأصحاب النفوذ فيهم يعني الذين كانت لهم الغلبة في الأمر من ملوك وأمراء في ذلك الزمان.
وجه الدلالة:
أن هذا الأمر وهو البناء على القبور ما دام أنه حصل في تلك الأمة فإنه سيحصل في هذه الأمة وقد حصل والله المستعان.
(عن أبي سعيد I، أن رسول الله ﷺ قال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذّة بالقذّة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه) قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: (فمن)؟ أخرجاه)
(عن أبي سعيد I أن رسول الله ﷺ قال: «لتتبعن سنن من كان قبلكم ...»
(لتتبعن): اللام موطئة للقسم والنون للتوكيد فالكلام مؤكد بثلاث مؤكدات القسم المقدر واللام والنون والتقدير: والله لتتبعن.
(سَنن - سُنن) فيها روايتان بالضم للسين وفتحها فبالضم جمع سُنَّة وهي الطريقة.
وأما بالفتح فهي مفرد بمعنى الطريق.
(لتتبعن سنن من كان قبلكم) أي من هذه الأمة من سيتبع سنن من كان قبلنا، لا جميع الأمة.
(حذو القذة بالقذة) أي حال كونكم محاذين لهم حذو القذة بالقذة. والقذة هي ريشة السهم والسهم له ريش لا بد أن تكون متساوية تماماً وإلا صار الرمي بها مختلاً.
(حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)
هذه الجملة تأكيد منه ﷺ للمتابعة لأنه إذا تبعناهم في الدخول لجحر الضب الصغير الذي لا يمكن أن يُدخل معه فغيره من باب أولى.
(قالوا: اليهود والنصارى قال: فمن؟) هذا استفهام يُراد به التقرير أي مَن أعني غير هؤلاء؟
وجه الدلالة من الحديث ظاهرة حيث إن من اليهود والنصارى من عبد غير الله تعالى فسيكون من هذه الأمة من يتبعهم ويعبد غير الله تعالى.
(ولمسلم عن ثوبان I أن رسول الله ﷺ قال: (إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة، وأن لا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد إذا قضيت قضاءً فإنه لا يرد وإني أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة بعامة وألا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضهم بعضًا)، ورواه البرقاني في صحيحه)
(زوى لي الأرض) جمع وضم.
(فرأيت) أي رؤية عينية ويحتمل أن تكون منامية.
(مشارقها ومغاربها) وهذا ليس على الله بعزيز لأنه على كل شيء قدير فمن قدرته أن يجمع مشارق الأرض ومغاربها لنبيه ﷺ ليشاهد ما سيبلغ ملك أمته منها.
(وإن ملك أمتي) أي أمة الإجابة.
(وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض) أي الذهب والفضة وهما كنوز كسرى وقيصر فالغالب على كنوز كسرى الفضة وعلى كنوز قيصر الذهب.
وقال: أعطيت. على الرغم من أن فتح بلاد الروم وفارس كان بعد موته عليه الصلاة والسلام لكن ما أعطيت أمته فكأنما أُعطاه حقيقة عليه الصلاة والسلام.
(وإني سألت ربي ألا يهلكها بسَنَة عامة) أي بمهلكة عامة.
السَّنة: الجدب والقحط.
(وألا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم)
يعني عدواً من الكفار لقوله: (من سوى أنفسهم) والبيضة ما يجعل على الرأس وقاية من السهام والمراد يظهر عليهم ويغلبهم.
(وإن ربي قال يا محمد إني إذا قضيت قضاءً فإنه لا يُردّ....)
المراد بالقضاء هنا القضاء الكوني. وفيه أن من الأشياء التي سألها النبي ﷺ ربه لم يعطها.
(وإني أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة، وألا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً ويسبي بعضهم بعضاً)
فهذه الإجابة مقيدة بهذا القيد فإذا وقع منهم فقد يسلط عليهم عدواً من الكفار يستبيح بيضتهم.
ففي هذا الحديث بشارة أن هذه الأمة لن تهلك بسنة عامة وإن هلك قوم من جهة فلا بد أن يبقى آخرون في جهة أخرى.
(وزاد: (وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئة من أمتي الأوثان، وإنه سيكون في أمتي كذَّابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين، لا نبي بعدي. ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى).
(وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين)
الإمام قد يكون في الخير وقد يكون في الشر، والمراد بالحديث أئمة الشر كمثل أئمة المعتزلة والجهمية الذين يُضلون الناس باسم الشرع وكذلك الأئمة الذين يأخذون الناس بالقهر والسلطان.
فيشمل الحديث العلماء المضلين والحكام الفاسدين الذين يدعون أنهم على شرع الله وهم من أشد الناس مخالفة له.
(وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة)
وهذا من آيات الله تعالى وقد وقع كما قال عليه الصلاة والسلام، فما زال القتال في الأمة منذ قتل عثمان I، وصارت الأمة يقاتل بعضها بعضاً.
(ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين)
الحي بمعنى القبيلة وهل المراد باللحوق البدني بمعنى أن يذهب هذا الحي إلى المشركين ويدخلون فيهم أو اللحوق الحكمي بمعنى أن يعملوا بعمل المشركين أو الأمران معاً؟
الظاهر الأخير.
(وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان) الفئام الجماعات، وهذا قد وقع.
ففي الصحيحين عن أبي هريرة I مرفوعاً: «لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس على ذي الخلصة « وذو الخلصة طاغية دوس التي كانوا يعبدونها في الجاهلية.
وفي صحيح مسلم عن عائشة J مرفوعاً: «لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى».
(وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون) لأن النبي ﷺ هو خاتم الأنبياء ظهر بعضهم وبعضهم يُنتظر.
(كلهم يزعم أنه نبي وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي)
فإن قيل ما الجواب عما ثبت من نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان مع أنه نبي ويضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام فالجواب:
إن نبوته سابقة لنبوة محمد ﷺ وأما كونه يضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام فليس تشريعاً جديداً ينسخ ما قبله بل تشريع من محمد ﷺ لأنه أخبر به مقرراً له.
(ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة)
(لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم) خذلهم أي لم ينصرهم ويوافقهم على ما ذهبوا إليه وهذا دليل على وجود المخالف والخاذل لهم لكنه لا يضرهم.
(حتى يأتي أمر الله) الكوني وهو قرب قيام الساعة عندما يأتي أمر الله تعالى بقبض أرواح كل مؤمن حتى لا يبقى إلا شرار الخلق فعليهم تقوم الساعة.
24- باب ما جاء في السحر
سبب إيراد هذا الباب في كتاب التوحيد:
لما كان السحر من أنواع الشرك إذ لا يكون السحر بدونه أدخله المصنف في كتاب التوحيد ليبين ذلك تحذيراً منه.
والسحر: لغة ما خفي ولطف سببه.
وفي الاصطلاح: ينقسم إلى قسمين:
1- قراءات وطلاسم وعزائم وعقد يَتوصل بها الساحر إلى استخدام الشياطين فيما يريد، فيؤثر في القلوب والأبدان، فيمرض ويقتل ويفرق بين المرء وزوجه. كما قال سبحانه: ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنۡهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِۦ بَيۡنَ ٱلۡمَرۡءِ وَزَوۡجِهِۦ﴾[البقرة:102]
وقال تعالى: ﴿وَمِن شَرِّ ٱلنَّفَّٰثَٰتِ فِي ٱلۡعُقَدِ﴾[الفَلَق:4] يعني السواحر اللاتي يعقدن في سحرهن وينفثن في عقدهن.
2- أدوية وعقاقير وتدخين يتوصل بها الساحر إلى غرضه إلا أنه لا يصل إلى حد الشرك واستخدام الشياطين.
وبعض أهل العلم لا يسميه سحراً أو يقول هو سحر مجازي كتسمية القول البليغ سحراً كما في الحديث: «إن من البيان لسحراً» متفق عليه.
وهذان القسمان كلاهما محرم لأن القسم الأول شرك بالله تعالى فإن الشيطان لا يخدم الساحر إلا بعد أن يعبده الساحر ويتقرب إليه بأنواع العبادات وكلما كان الساحر أشد كفراً كان سحره أقوى وإعانة الشياطين له أكثر لأن غرض الشياطين إضلال هذا الساحر وإخراجه من دينه وأذية الناس بالسحر قال جل وعلا: (وَلَٰكِنَّ ٱلشَّيَٰطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحۡر ..... وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنۡ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَآ إِنَّمَا نَحۡنُ فِتۡنَة فَلَا تَكۡفُرۡۖ )
أما القسم الثاني فإنه وإن لم يصل إلى درجة الشرك إلا أنه محرم لما فيه من أذية الناس وكذلك فيه إفساد لعقائد الناس لأن العامي إذا شاهد ما يفعله الساحر من أمور غريبة لا يعرف سببها ربما اعتقد في الساحر شيئاً من صفات الربوبية فيهلك بذلك.
والسحر الذي فيه استعانة بالشياطين من نواقض الإسلام ومنه الصرف والعطف لأنه لا يمكن لأحد أن يصل إلى روح وقلب من يراد صرفه أو العطف إليه إلا بالشرك لأن الشيطان هو الذي يؤثر على النفس ولن يخدم الشيطان الإنسي الساحر إلا بعد أن يشرك بالله جل وعلا.
(وقول الله تعالى: (ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق))
(وَلَقَدۡ عَلِمُواْ) الضمير يعود على متعلمي السحر وهذه الجملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات القسم المقدر واللام وقد.
(لَمَنِ ٱشۡتَرَىٰهُ) أي تعلمه. يعني السحر والاشتراء فيه دفع شيء وأخذ عوض والساحر اشترى السحر وبذل توحيده.
(مَا لَهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنۡ خَلَٰق) أي من نصيب. ومقتضاه أن عمله حابط باطل، لكن انتفاء النصيب إما أن يكون انتفاءً كلياً فيكون العمل كفراً، أو ينتفي كمال النصيب فيكون فسقاً.
وجه الدلالة: أن الساحر ليس له في الآخرة من نصيب والمراد أن عمله يكون حابطاً لدلالة الآية على كفره فليس له في الآخرة من نصيب.
(وقوله: ( يؤمنون بالجبت والطاغوت ))
هذه الآية تقدم الكلام عليها في الباب السابق (ألم تر إلى الذين أتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت . . .) وقد عرفنا أن الجبت يشمل عدة أشياء ومن أبرزها السحر، وهذا هو تفسير عمر بن الخطاب I حيث قال الجبت: السحر، والطاغوت: الشيطان.
وجه الدلالة: أن عمر I فسر الجبت بالسحر وهذا التفسير منه تفسير بالمثال وكذلك تفسيره الطاغوت بالشيطان فهذا تفسير بالمثال.
(وقال جابر: الطواغيت: كهان كان ينزل عليهم الشيطان في كل حي واحد)
هذا أيضاً من التفسير بالمثال.
والكاهن هو الذي يخبر عما في الضمير. وقيل الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل.
وكان أهل الجاهلية يتحاكمون إلى الكهان الذين يستعينون بالشياطين التي تسترق لهم السمع وكان في كل حي من أحياء العرب كاهن يرجعون إليه.
وجه الدلالة: أن الساحر طاغوت من الطواغيت وإذا كان هذا الاسم (الطاغوت) يطلق على الكاهن فالساحر أولى بأن يطلق عليه طاغوت لأنه أشر وأخبث.
مسألة: الفرق بين الكاهن والساحر:
الكاهن يستعين بالشياطين في معرفة الأمور ولا يؤثر على الغير بمرض ونحوه من الأذى.
أما الساحر فإنه يستعين بالشياطين في تنفيذ ما يريد من القتل أو المرض أو الصرف والعطف ونحو ذلك.
وقد يجتمع في شخص واحد أنه ساحر وكاهن.
لكن يجتمع في الساحر والكاهن أن كل واحد منهما يستعين بالشياطين عن طريق الشرك والكفر بالله جل وعلا.
(وعن أبي هريرة I أن رسول الله ﷺ قال: (اجتنبوا السبع الموبقات) قالوا: يا رسول الله: وما هن؟ قال: (الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات))
قوله: (اجتنبوا) أبلغ من قوله اتركوا لأن الاجتناب أن تكون في جانب وهي في جانب وهذا يستلزم البعد.
(السبع الموبقات) أي المهلكات لأنها تهلك فاعلها في الدنيا بما يترتب عليها من العقوبات وفي الآخرة بالعذاب.
وقوله: (السبع) هذا لا يقتضي الحصر فإن هناك موبقات أخرى وهذا مثل حديث: «سبعة يظلهم الله في ظله ...» مع وجود غيرهم وحديث «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة» ونحو ذلك.
(قالوا يا رسول الله ما هن؟ قال الشرك بالله) وهو أعظم الموبقات.
(والسحر) وهذا هو الشاهد من هذا الحديث للباب فالسحر من الموبقات.
وعطف السحر على الشرك بالله تعالى ليس عطفاً بين متغايرين في الحقيقة وإنما هو من باب عطف خاص وعام، فالشرك بالله تعالى يكون بالسحر ويكون بغيره.
(وعن جندب مرفوعاً: (حد الساحر ضربه بالسيف) رواه الترمذي، وقال: الصحيح أنه موقوف)
جندب هو جندب الخير المعروف بقاتل الساحر صحابي I وهذا الأثر موقوف عليه كما ذكره الترمذي رحمه الله تعالى.
(وفي صحيح البخاري عن بجالة بن عبدة قال: كتب عمر بن الخطاب: أن اقتلوا كل ساحر وساحرة. قال: فقتلنا ثلاث سواحر)
بجالة: هو بفتح الموحدة بعدها جيم ابن عبدة بفتحتين التيمي العنبري بصري ثقة.
هذا الحديث رواه البخاري[20] لكن ليس فيه ذكر قتل السحرة كما نبه عليه في التيسير وقال يحتمل أنه أراد أصله لا لفظه ثم قال: ورواه القطيعي في الجزء الثاني من فوائده بزيادة فقال حدثنا ... عن بجالة بن عبدة قال: كتب إلينا عمر بن الخطاب أن اعرضوا على من كان قبلكم من المجوس أن يدعوا نكاح أمهاتهم وبناتهم وأخواتهم ويأكلوا جميعاً كيما نلحقهم بأهل الكتاب ثم اقتلوا كل كاهن وساحر. قلت وإسناده حسن.
(وصح عن حفصة J: أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها، فقتلت، وكذلك صح عن جندب. قال أحمد: عن ثلاثة من أصحاب النبي ﷺ)
أثر حفصة رواه مالك في الموطأ.
أما أثر جندب فرواه البخاري في تاريخه عن أبي عثمان النهدي قال كان عند الوليد رجل يلعب فذبح إنساناً وأبان رأسه فعجبنا فعاد رأسه فقال الناس سبحان الله يحيي الموتى ورآه رجل صالح من المهاجرين فنظر إليه فلما كان من الغد اشتمل على سيفه فذهب يلعب لعبه ذلك فاخترط الرجل سيفه فضرب عنقه وقال: إن كان صادقاً فليحيي نفسه فأمر به الوليد فسجن. وذكر القصة بتمامها ولها طرق.
قال المصنف: (قال أحمد عن ثلاثة من أصحاب النبي ﷺ)
أحمد هو الإمام أحمد بن محمد بن حنبل. وقوله: عن ثلاثة أي: صح قتل الساحر عن ثلاثة أو جاء قتل الساحر عن ثلاثة من أصحاب النبي ﷺ يعني: عمر، وحفصة، وجندبًا.
25-باب بيان شيء من أنواع السحر
مناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد:
لما ذكر المصنف ما جاء في السحر أراد هنا أن يبين شيئاً من أنواعه لكثرة وقوعها وخفائها على الناس حتى اعتقد كثير من الناس أن من صدرت عنه هذه الأمور فهو من الأولياء وعدوها من كرامات الأولياء وآل الأمر إلى أن عُبد أصحابها ورجي منهم النفع والضر، بل اعتقد كثير من الناس في بعض هؤلاء أن لهم التصرف التام في الكون.
وليس كل مَن جرى على يده شيء من الخوارق للعادة يكون ولياً لله تعالى لأن العادة تنخرق بفعل الساحر والمشعوذ وخبر المنجم والكاهن بشيء من الغيب مما يخبره به الشياطين المسترقون للسمع.
وتنخرق العادة بفعل الشياطين ببعض الناس ممن عندهم مخالفة للشريعة فيطيرون بهم في الهواء ويمشون بهم على الماء ويأتون بالطعام والشراب لهم.
وقد فرق الله تعالى بين أوليائه وأعدائه في كتابه فقال تعالى: ﴿أَلَآ إِنَّ أَوۡلِيَآءَ ٱللَّهِ لَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ 62 ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ 63﴾[يونس:62]
فذكر سبحانه أن أولياءه هم المؤمنون المتقون ولم يشترط أن يجري على أيديهم شيء من الخوارق للعادة فدل على أن الشخص قد يكون ولياً لله تعالى وإن لم يجر على يديه شيء من الخوارق إذا كان مؤمناً تقياً.
وأولياء الله هم المتبعون للرسول ﷺ باطناً وظاهراً ومن كان بخلاف ذلك فليس بمؤمن فضلاً على أن يكون ولياً لله تعالى.
ولو كانت الخوارق دليلاً على وَلاية الله تعالى للزم من ذلك أن يكون الساحر والكاهن والمنجم ورهبان اليهود والنصارى وعباد الأصنام وغيرهم أولياء لله تعالى فإنهم يجري لهم كثير من الخوارق، ولكنها من قبل الشياطين.
ثم قال الشيخ سليمان بن عبد الله D: «بل قد اتفق أولياء الله على أن الرجل لو طار في الهواء ومشى على الماء لم يغتر به حتى ينظر متابعته لرسول الله ﷺ وموافقته لأمره ونهيه».
الفرق بين السحر والمعجزة والكرامة:
1- أن السحر علم مكتسب يحصل بالتعليم والصناعة قال تعالى: ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنۡهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِۦ بَيۡنَ ٱلۡمَرۡءِ وَزَوۡجِهِۦۚ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِۦ مِنۡ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِ﴾ [البقرة:102]
أما الكرامة فهي هبة من الله لا تحتاج إلى شيء من العمل أو القول, والمعجزة كذلك تعطى للأنبياء والرسل عليهم السلام.
2- أن المعجزة والكرامة لا تظهر على فاسق والسحر لا يظهر إلا من فاسق أو كافر.
3- أن المعجزة لا يمكن إبطالها أما السحر فيمكن إبطاله إما أن يبطله ساحر مثله أو أعلم منه وإما أن يبطله أهل التقى والإيمان بما أعطاهم الله تعالى من اليقين وبما يتلون من آيات الله القرآنية والأدعية والأذكار.
قوله: (باب بيان شيء من أنواع السحر)
قد سبق أن السحر ينقسم في كلام بعض أهل العلم إلى قسمين: كفر وفسق فأراد رحمه الله تعالى في هذا الباب أن يبين شيئاً من أنواع السحر.
وقد تقدم أن السحر في اللغة يطلق على كل ما كان خفي السبب دقيقاً في إدراكه.
(قال أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا عوف عن حيان بن العلاء، حدثنا قطن بن قبيصة عن أبيه أنه سمع النبي ﷺ قال: (إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت) قال عوف: العيافة: زجر الطير، والطرق: الخط يخط بالأرض والجبت، قال: الحسن: رنة الشيطان. إسناده جيد ولأبي داود والنسائي وابن حبان في صحيحه، المسند منه)
العيافة: زجر الطير والتفاؤل بأسمائها وأصواتها، وهو من عادة العرب.
فزجر الطير عند العرب أن يزجرها للتشاؤم أو التفاؤل فإذا زجر الطير وذهب شمالاً تشاءم وإن ذهب يميناً تفاءل.
والطرق الخط يخط في الأرض. هكذا فسره عوف وهو تفسير صحيح.
- قال أبو السعادات: هو الضرب بالحصى الذي يفعله النساء. قال في التيسير: وأيَّاً ما كان فهو من الجبت.
والطيرة من الجبت: الطيرة هي التشاؤم بمرئي أو مسموع أو معلوم فيشمل التشاؤم بالمرئيات والمسموعات والمعلومات كالأزمنة والأمكنة.
والطيرة من الشرك كما سيأتي إن شاء الله تعالى مفصلاً.
قوله: (من الجبت) من للتبعيض أي العيافة والطرق والطيرة من جملة الجبت وقيل من ابتدائية أي هذه الأمور ناشئة من الجبت.
والجبت هو كل ما كان فيه مخالفة لأمر الله جل وعلا وأمر رسوله ﷺ في الاعتقاد فيكون الجبت السحر ويكون الكهانة ويكون غير ذلك.
قوله: قال الحسن: رنة الشيطان. يعني في معنى الجبت.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى: الظاهر أن رنة الشيطان أي وحي الشيطان فهذه من وحي الشيطان وإملائه ولا شك أن الذي يتلقى أمره من وحي الشيطان أنه أتى نوعاً من الكفر.
ووجه كون هذه الأمور الثلاثة من السحر أنها تستند إلى أمر خفي لا يصح الاعتماد عليه.
(وعن ابن عباس L قال: قال رسول الله ﷺ (من اقتبس شعبة من النجوم، فقد اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد) رواه أبو داود وإسناده صحيح)
اقتبس: تعلم.
شُعبة: طائفة.
من النجوم: أي من علم النجوم الذي يُستدل به على الحوادث الأرضية.
«فقد اقتبس شعبة من السحر» لأن هذا من الاستدلال بالأمور الخفية التي لا حقيقة لها كما أن السحر لا حقيقة له ولا يقلب الأشياء لكنه يموه.
(زاد ما زاد) أي كلما تعلم شعبة من تعلم النجوم ازداد شعبة من السحر.
وسوف يأتي الكلام مفصلاً إن شاء الله تعالى على التنجيم في باب لاحق.
(وللنسائي من حديث أبي هريرة I: (من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر، ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئاً وكل إليه).
(من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر) السحرة إذا أرادوا عمل السحر عقدوا الخيوط ونفثوا على كل عقدة حتى ينعقد ما يريدونه من السحر ولهذا أمر الله تعالى بالاستعاذة من شر النفاثات في العقد يعني السواحر اللاتي يفعلن ذلك.
والنفث هو النفخ مع ريق خفيف، وهو دون التفل وهو مرتبة بينهما.
(ومن سحر فقد أشرك) نصٌ في أن الساحر مشرك إذ لا يأتي السحر إلا عن طريق الشرك.
(ومن تعلق شيئاً وكل إليه) أي من تعلق قلبه شيئاً بحيث يتوكل عليه ويرجوه وكله الله إلى ذلك الشيء.
فمن تعلق قلبه بربه جل وعلا كفاه ووقاه وحفظه. ومن تعلق على السحر والشياطين وكله الله إليهم فأهلكوه في الدنيا والآخرة.
(وعن ابن مسعود I أن رسول الله ﷺ قال: (ألا هل أنبئكم ما العَضْه؟ هي النميمة، القالة بين الناس) رواه مسلم)
ألا أنبئكم: أي ألا أخبركم.
العَضْه: على وزن الحَبْل بمعنى القطع وأما على رواية العِضَه على وزن عِدة فهي بمعنى التفريق. وعلى كلا الروايتين فإنها تتضمن قطعاً وتفريقاً.
(هي النميمة) وهي نقل الكلام بين الناس على وجه الإفساد بينهم.
وهي محرمة بالإجماع.
قال تعالى: ﴿وَلَا تُطِعۡ كُلَّ حَلَّافٖ مَّهِينٍ 10 هَمَّازٖ مَّشَّآءِۢ بِنَمِيمٖ 11﴾[القلم:10،11] الهماز أي كثير العيب للناس والطعن فيهم بالغيبة والاستهزاء وغير ذلك.
وفي الحديث: (لا يدخل الجنة نمام) متفق عليه.
وقال الحسن: من نقل إليك حديثاً فأعلم أنه ينقل إلى غيرك حديثك.
وقال يحيى بن أبي كثير: يفسد النمام في ساعة ما يفسده الساحر في شهر.
من السحر السعي بالنميمة والإفساد بين الناس لأنه يقصد الأذى بكلامه وعمله على وجه المكر والحيلة أشبه السحر وهذا يعرف بالعادة والعرف أنه يعمل ويؤثر ما يعمله الساحر وأكثر فيعطى حكمه.
(ولهما عن ابن عمر L، ان رسول الله ﷺ قال: (إن من البيان لسحراً))
إن من البيان: أي البلاغة والفصاحة.
لسحراً: فالرجل يكون عليه الحق وهو ألحن بالحجج من صاحب الحق فيسحر القوم ببيانه فيذهب بالحق.
وهذا الحديث خرج مخرج الذم لبعض البيان لا كله وهو الذي فيه تصويب الباطل وتحسينه حتى يتوهم السامع أنه حق فسماه سحراً لأنه يستميل القلوب كالسحر.
وأما البيان في الحق فهو محمود، كالبيان في الدعوة إلى الله تعالى.
26- باب ما جاء في الكهان ونحوهم
مناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد:
أن الكهانة استخدام للجن، واستخدام الجن كفر وشرك أكبر بالله تعالى لأنه لا يمكن أن يستخدم الجن إلا بأن يتقرب إليهم بشيء من العبادات إما بالذبح وإما بالاستغاثة أو بالكفر بالله جل وعلا بإهانة المصحف أو بسب الله تعالى أو نحو ذلك.
فالكهانة فيها مضادة لأصل التوحيد والكاهن مشرك بالله جل وعلا.
قوله: الكهان: جمع كاهن، وهو الذي يأخذ عن مسترقي السمع.
وذلك أن الجن تصل إلى الأمور الغيبية التي تصدق فيها عن طريق استراق السمع من السماء، ثم يخبرون الكاهن بذلك، فيكذب معها الكاهن مائة كذبه، كما تقدم معنا في باب قول الله تعالى: (حتى إذا فزع عن قلوبهم . .)
وبهذا تعظم الفتنة بالكهان، وتعظم عبادة الإنس للجن.
والكاهن يطلق على العراف والذي يضرب الحصى والمنجم.
وقيل: الكاهن هو من يدعي معرفة الغيب.
وقيده بعضهم بالغيب المستقبل فقال الكاهن هو من يدعي معرفة الغيب المستقبل ويتنبأ بما سيحصل. وهذا كله يكون باستخدام الجن.
قوله: (ونحوهم) أي من العرافين ...
وليس من الكهانة في شيء من يخبر عن أمور تدرك بالحساب كما لو أُخبر عن كسوف الشمس أو خسوف القمر لأن هذا يدرك بالحساب وكما لو أُخبر أن وقت غروب الشمس في يوم كذا من العام هو كذا وكذا، ونحو ذلك مما يدرك بالحساب.
ومن ذلك أيضاً الإخبار عن أحوال الطقس المتوقعة فليس هذا من علم الغيب لأنه يُعرف بأمور حسية عند المختصين في هذا العلم، وإن كان لا يُجزم بذلك، بل يقال المتوقع أن يكون كذا بمشيئة الله تعالى.
(روى مسلم في صحيحه، عن بعض أزواج النبي ﷺ عن النبي ﷺ قال: «من أتى عرَّافاً فسأله عن شيء فصدقه، لم تقبل له صلاة أربعين يوماً»)
هذا الحديث رواه مسلم كما ذكره المصنف رحمه الله تعالى وليس فيه عنده زيادة: (فصدقه بما يقول) وفيه «ليلة» بدل «يوماً».
ويعتذر للمصنف رحمه الله تعالى عن ذلك أنه لعله أراد أن أصل الحديث في مسلم أو أن النسخة التي نقل منها فيها هذه الزيادة والله أعلم.
(مَنْ) في الحديث شرطية تفيد العموم.
والعراف قيل هو الكاهن وهو الذي يخبر عن المستقبل.
وقيل هو اسم عام للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم ممن يستدل على معرفة الغيب بمقدمات يستعملها.
قوله: (لم تقبل له صلاة أربعين يوماً).
قال النووي رحمه الله تعالى في شرح مسلم[21]: «وأما عدم قبول صلاته فمعناه أنه لا ثواب له فيها وإن كانت مجزئة في سقوط الفرض عنه ولا يحتاج معها إلى إعادة .... ولابد من هذا التأويل في هذا الحديث فإن العلماء متفقون على أنه لا يلزم على من أتى العراف إعادة صلوات أربعين ليلة فوجب تأويله».
فتقع الصلاة مجزئة لا يجب عليه قضاؤها ولكن لا ثواب له فيها لأن الذنب والإثم الذي حصله حين أتى العراف فسأله عن شيء يقابل ثواب الصلاة أربعين يوماً فأسقط هذا هذا.
وهذا في حق من أتى العراف فسأله عن شيء رغبة في الاطلاع، ولم يصدقه.
(وعن أبي هريرة I، عن النبي ﷺ قال: «من أتى كاهناً فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد ﷺ» رواه أبو داود)
إذا أتى الكاهن أو العراف فسأله عن شيء فإذا أخبره صدقه بما يقول فهو كافر؛ لأنه صدقه في علم الغيب، وهذا تكذيب للقرآن حيث قال تعالى: ﴿قُل لَّا يَعۡلَمُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ ٱلۡغَيۡبَ إِلَّا ٱللَّهُۚ وَمَا يَشۡعُرُونَ أَيَّانَ يُبۡعَثُونَ﴾[النمل:65] وبهذا قال الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين D.
قوله: (فقد كفر بما أنزل على محمدﷺ) أي بالذي أنزل وهو القرآن.
سؤال العراف والكاهن ونحوهما على أقسام:
1- أن يسأله سؤالاً مجرداً رغبة في الاطلاع فهذا حرام لقول النبي ﷺ: «من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة». فلما أثبت العقوبة على سؤاله دل على تحريمه إذ لا عقوبة إلا على محرم.
2- أن يسأله فيصدقه ويعتبر قوله فهذا كفر أكبر عند جمع من أهل العلم.
3- أن يسأله ليختبره هل هو صادق أم كاذب لا لأجل أن يأخذ بقوله فهذا لا بأس به ولا يدخل في الحديث وقد اختبر النبي ﷺ ابن صياد فقال: «ماذا خبأت لك؟ قال: الدخ فقال: اخسأ فلن تعدو قدرك» متفق عليه.
4- أن يسأله ليظهر عجزه وكذبه فيمتحنه في أمور يتبين بها كذبه وعجزه وهذا مطلوب قد يكون واجباً.
(وللأربعة، والحاكم وقال: صحيح على شرطهما، عن أبي هريرة: من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد ﷺ»)
وهذا كالذي قبله.
(ولأبي يعلى بسند جيد عن ابن مسعود موقوفاً)
هذا الأثر رواه البزار ولفظه موقوفاً على ابن مسعود I: «من أتى عرافاً أو ساحراً أو كاهناً فسأله فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد ﷺ»
قال الشيخ ابن قاسم رحمه الله تعالى في حاشية كتاب التوحيد: «ومثل هذا له حكم الرفع».
(وعن عمران بن حصين I مرفوعاً: «ليس منا من تَطير أو تُطير له أو تَكهن أو تُكهن له أو سَحر أو سُحر له، ومن أتى كاهناً فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد ﷺ) رواه البراز بإسناد جيد، ورواه الطبراني في الأوسط بإسناد حسن من حديث ابن عباس دون قوله: «ومن أتى..» الخ)
«ليس منا» يدل على أن الفعل محرم وبعضهم يقول يدل على أنه من الكبائر.
وهي لا تدل على خروج الفاعل من الإسلام بل بحسب الأحوال.
«من تطير» هو لنفسه أو تطير لغيره.
«تُطير له» أي أمر من يتطير له كأن يقول لغيره أزجر طيرك لأنظر.
«أو تكهن» هو «أو تكهن له» أي طلب من الكاهن أن يتكهن له.
ينبه على قول البعض: تكهنت أن فلاناً سيأتي. يريد: توقعت. فاللفظ يدل على عمل محرم فلا يطلق على عمل مباح.
«أو سحر أو سحر له» أي سحر هو أو طلب من غيره أن يسحر له ومنها النشرة عن طريق السحر، فهي داخلة فيه.
(قال البغوي: العراف: الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك وقيل: هو الكاهن والكاهن هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل وقيل: الذي يخبر عما في الضمير)
تقدم الكلام على تعريف الكاهن والعراف أول الباب.
(وقال أبو العباس ابن تيمية: العراف: اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق)
الكاهن تقدم الكلام عليه.
والمنجم: هو الذي يستخدم علم التأثير وهو الاستدلال على الحوادث الأرضية عن طريق النظر في النجوم وتحركاتها ونحو ذلك.
والرمال أو الطَّرْق أو الخط بالرمل أو الضرب بالحصى: كل هذا شيء واحد قائم على وضع خط أو خطوط على الأرض ثم يحذف منها ويُبقي وتأتيه الشياطين فتقول له إذا بقي واحد فيدل على كذا وإذا بقي اثنان فيدل على كذا فهو ضرب من الكهانة لأن فيه ادعاء علم الغيب.
ومن ذلك أيضاً ما يسمى بــــــ «قراءة الفنجان» وهو فنجان القهوة حيث يعتمد الكاهن على ما يتبقى من القهوة فيه فيرسم به على جوانب الفنجان خطوطاً ثم يتنبأ بما يحصل.
ومن ذلك ما يسمى بــــــ «قراءة الكف» حيث يعتمد مدعي الغيب على خطوط الكف وما فيها من تقاطعات وتعرجات وانقطاعات واتصالات ثم يزعم أنه يكون كذا وكذا.
ومن ذلك أيضاً الذين يكتبون في بعض الصحف والمجلات ما يسمى بالبروج وما يحصل في ذلك البرج فهذا كله من أنواع الكهانة.
(وقال ابن عباس –في قوم يكتبون (أبا جاد) وينظرون في النجوم -: ما أرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق)
قوله: (أبا جاد) هي أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت ثخذ ضظغ.
وتعلم أبا جاد على قسمين:
1- تعلم مباح لحساب الجمَّل بها، فهذا لا بأس به وقد كان العلماء يستعملونها في التأريخ ونحوه وطريقة ذلك كما يلي: أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت ثخذ ضظغ.
|
أ |
ب |
ج |
د |
هـ |
و |
ز |
|
1 |
2 |
3 |
4 |
5 |
6 |
7 |
|
ح |
ط |
ي |
ك |
ل |
م |
ن |
|
8 |
9 |
10 |
20 |
30 |
40 |
50 |
|
س |
ع |
ف |
ص |
ق |
ر |
ش |
|
60 |
70 |
80 |
90 |
100 |
200 |
300 |
|
ت |
ث |
خ |
ذ |
ض |
ظ |
غ |
|
400 |
500 |
600 |
700 |
800 |
900 |
1000 |
2- محرم وهو كتابة أبا جاد كتابة مربوطة بسير النجوم وحركتها وطلوعها وغروبها وينظرون في النجوم ليستدلوا بالموافقة أو المخالفة على ما سيحدث في الأرض إما عاماً وإما خاصاً.
(ما أُرى) بالفتح بمعنى أعلم وبالضم بمعنى أظن.
(من فعل ذلك له عند الله من خلاق) أي نصيب.
ظاهر كلام ابن عباس L أنه يرى كفرهم لأن الذي ليس له نصيب عند الله هو الكافر، إذ لا يُنفى النصيب على أحد من المؤمنين.
27-باب ما جاء في النشرة
النُشرة: بالضم نوع من الرقية والعلاج يعالج به من كان يُظن أن به مسَّاً من الجن، سُميت نُشرة لأنه يُنشَّر بها عنه ما أصابه من الداء: أي يُكشف ويزال.
والنُشرة أصلها من النشر وهو قيام المريض صحيحاً.
وفي البخاري عن عائشة J أنها قالت حينما سحر النبي ﷺ: «هل تنشرت».
والنشرة اسم لعلاج المسحور وسميت بذلك لأنه ينتشر بها أي يقوم بها ويرجع إلى حاله المعتادة.
مناسبة الباب لكتاب التوحيد:
أن السحر كما أنه شرك بالله جل وعلا يقدح في أصل التوحيد وأن الساحر مشرك شركاً أكبر بالله جل وعلا فالنشرة التي هي حل السحر قد يكون من ساحر وقد يكون من غير ساحر بالأدوية المأذون بها أو بالأدعية ونحو ذلك، فإذا كانت من ساحر فإنها مناقضة لأصل التوحيد.
قوله: (باب ما جاء في النشرة) أي من التفصيل، وهل النشرة جميعاً مذمومة أو أن منها ما هو مذموم ومنها ما هو مأذون فيه؟
وحل السحر عن المسحور على قسمين:
1- عن طريق الرقى والتعوذات والدعوات المشروعة وقراءة القرآن أو عن طريق الأدوية من الأطباء العضويين فهذا جائز لأن السحر يمرض حقيقة فإذا أُزيل سبب المرض فإنه يبطل السحر.
2- عن طريق السحر، فيُحَل السحر الأول بسحر آخر وهذه من حيث العقد والابتداء لا تكون إلا بالشرك بالله جل وعلا. وهذه محرمة وهي نشرة شركية. وهذه الطريقة لها عدة أحوال:
1- أن يقوم الساحر عن طريق الاستعانة بالجن بإخبار المسحور عن مكان السحر الذي قد عمل له، فيقوم المسحور بعد ذلك باستخراج السحر من المكان الذي وصفه له الساحر ويُتلفه فينحل عنه السحر ويبرأ.
2- أن يقوم الساحر بعد الاستعانة بالشياطين بإحضار السحر من موضعه وإخراجه للمسحور وهو في مجلسه الذي أتاه فيه.
وفي كلتا الطريقتين ربما يقوم الساحر بالنفث على المسحور وقراءة شيء من القرآن أو الأدعية تمويهاً وتلبيساً عليه ليطمئن المسحور ويسكن إليه.
ج- أن يأمر الساحر المسحور بأمور مختلفة كي ينحل عنه السحر كأن يأمره بذبح شاة أو بقرة أو نحو ذلك وأن يذكر اسم الساحر أو الجني عليها، أو غير ذلك من الأقوال والأعمال الشركية تقرباً إلى السحرة والشياطين.
د- أن يكتب الساحر للمسحور بعض العزائم والتعاويذ التي لا يعرف معناها كالطلاسم ونحوها وربما حوت الشرك الأكبر ثم يعطيه إياها في شكل تمائم ليعلقها على بدنه أو دابته أو في داره أو يضعها في فراشه أو غير ذلك أو في شكل رقى مكتوبة وربما كتبت بسائل نجس كالبول والدم.
وقد يحصل الشفاء للمسحور بإحدى تلك الطرق وقد لا يحصل لأن الشفاء من الله تعالى.
وحل السحر بسحر مثله لا يجوز مطلقاً سواء كان للضرورة أو لعدمها. وهذا اختيار الشيخ محمد بن عبد الوهاب وتبعه على ذلك تلامذته كالشيخ عبد الرحمن بن حسن والشيخ سليمان بن عبد الله وهو قول الشيخ محمد بن إبراهيم والشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ محمد بن عثيمين وغيرهم من العلماء غفر الله لهم أجمعين، وبه تفتي اللجنة الدائمة للإفتاء.
ومن الأدلة على ذلك:
1- أنه لا يجوز إتيان السحرة والكهان ونحوهم ممن يدعون معرفة الغيب ويستعينون بالشياطين لقوله عليه الصلاة والسلام: فلا تأتوا الكهان» رواه مسلم، ولحديث: من أتى عرفاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة» رواه مسلم، أما من صدقهم فوعيده أشد لحديث: «من أتى كاهناً أو عرافاً فسأله عن شيء فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد ﷺ» رواه الإمام أحمد، وقوله (شيء) نكرة في سياق لشرط فتفيد العموم فيعم السؤال عن الأمور الغيبية أو سؤال حل السحر ونحو ذلك. وتصديق المسحور للساحر يكون فيما يخبره من أجل حل السحر عنه فيقع في النهي.
2- أن في إتيان السحرة والكهان ونحوهم والسكوت عنهم ودفع الأموال لهم إقراراً لهم على ما هم عليه من الكفر والضلال وإعانة لهم على بث شرورهم ونشر فسادهم وإغراء غيره باتباع طريقتهم وبذلك يكثر أتباعهم ويعظم خطرهم وتشيع فتنتهم، وقد نهانا الله عن التعاون على الإثم والعدوان بقوله: ﴿وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ﴾ [المائدة:2] كما نهى النبي ﷺ عن حلوان الكاهن، وهو ما يأخذه على كهانته أو الساحر على سحره وهو حرام بالإجماع.
3- عن جابر I أن رسول الله ﷺ سئل عن النشرة قال: «هي من عمل الشيطان» الألف واللام في قوله (النشرة) للعهد الذهني أي النشرة المعهودة التي كان أهل الجاهلية يفعلونها لمرضاهم المسحورين ونحوهم لا النشرة المشروعة. وقد كان شائعاً عند أهل الجاهلية قبل مبعثه ﷺ تعاطي أنواعاً من النُّشَر التي لا تخلو من عمل محرم أو محذور، فبين عليه الصلاة والسلام أن هذه النشرة من عمل الشيطان.
وما يفعله سحرة هذا الزمان أشد خطراً وأعظم بلاءً على الأمة من سحرة أهل الكتاب لخلطهم بين ما يصنعون من الشرك والضلال وبين شيء من الآيات والأذكار والأدعية المشروعة تلبيساً على الجهال وتغريراً بهم.
4- أن سحر هؤلاء السحرة إن كان برقى ونشر ونحوها من الأدوية التي تحوي شيئاً من أنواع الشرك أو عملاً شيطانياً سحرياً أو طلاسم وخزعبلات مجهولة فهي داخلة في عموم ما نهى عنه النبي ﷺ بقوله: «ولا تداووا بحرام» رواه أبو داود، ولنهي النبي ﷺ عن الدواء الخبيث. رواه الإمام أحمد، ولحديث: «إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم» رواه الإمام أحمد.
(عن جابر I أن رسول الله ﷺ سئل عن النشرة فقال: «هي من عمل الشيطان» رواه أحمد بسند جيد. وأبو داود، وقال: سئل أحمد عنها فقال: ابن مسعود يكره هذا كله)
قوله: (من عمل الشيطان) أي يأمر به ويوحي به لأنه يأمر بالفحشاء والمنكر وهذا أشد من قولهم إنها حرام لأن نسبتها للشيطان أبلغ في التنفير منها.
قوله: (فقال ابن مسعود يكره ذلك كله) هذا قول الإمام أحمد.
المراد بها النشرة التي من عمل الشيطان وهي النشرة بالسحر والنشرة بالتمائم.
لأن النشرة التي بالقرآن والأدعية المشروعة لم يقل أحد بكراهتها.
وقوله: (يكره) يراد به التحريم عند المتقدمين غالباً كما في قوله تعالى: ﴿كُلُّ ذَٰلِكَ كَانَ سَيِّئُهُۥ عِندَ رَبِّكَ مَكۡرُوهٗا﴾ [الإسراء:38]
(وفي «البخاري» عن قتادة: قلت لابن المسيب: رجل به طب أو يؤخذ عن امرأته، أيحل عنه أو ينشر؟ قال: لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع فلم ينه عنه. أ.هـ)
قوله: (رجل به طب أو يُؤخَّذ عن امرأته .....)
أي يحبس عن امرأته فلا يتمكن من جماعها وهو ليس به بأس وهذا نوع من السحر
وقد اشتهر عند بعض الناس أنه عند العقد لا ينبغي أن يعقد أحد عقدة وبالغ بعضهم فمنع أن يشبك بين أصابعه ظناً منه أن ذلك سبب لحبس الزوج عن زوجته.
قوله: (أيُحَلُّ عنه أو يُنَشَّر؟) أو هنا للشك لأن لحل هنا هو النشرة.
(قال: لا بأس به...) حمل بعضهم كلامه على نوع من النشرة لا محذور فيه.
(وروى عن الحسن أنه قال: لا يحل السحر إلا ساحر.
قال ابن القيم: النشرة: حل السحر عن المسحور، وهي نوعان:
إحداهما: حل بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان، وعليه يحمل قول الحسن، فيتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب، ويبطل عمله عن المسحور.
والثاني: النشرة بالرقية والتعوذات والأدوية والدعوات المباحة، فهذا جائز)
وقد تقدم الكلام على ذلك.
28-باب ما جاء في التطير
مناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد:
أن التطير من الشرك المنافي لأصل التوحيد أو كماله، فإذا اعتقد أن هذا الشيء المتشاءم به هو الذي يحدث الشر بنفسه دون الله تعالى فهذا شرك أكبر ينافي أصل التوحيد لأنه قد جعل مع الله شريكاً في الخلق والإيجاد.
وإن اعتقد أن هذا الشيء المتشاءم به إنما هو سبب لحصول الشر فقط مع اعتقاده أن ذلك بتقدير الله تعالى فهو من الشرك الأصغر المنافي لكمال التوحيد.
لأن من اعتقد في شيء أنه سبب ولم يجعله الله سبباً شرعياً ولا كونياً كان شركاً أصغر.
تعريف التطير:
وأصل التطير عند العرب مأخوذ من الطير، وكانوا إذا أرادوا فعل أمر أو تركَه زجروا الطير حتى يطير فإن طار يميناً كان له حكم وإن طار شمالاً كان له حكم وإن طار أماماً كان له حكم وإن طار من فوق رأسه كان له حكم.
فالطيرة في الاصطلاح: التشاؤم بمرئي أو مسموع أو معلوم.
فالمرئي كمن رأى شيئاً موحشاً.
والمسموع كمن سمع من يقول مثلاً يا خسران يا خائب.
والمعلوم كالتشاؤم ببعض الأيام أو الشهور أو السنين.
* التطير ينافي التوحيد من وجهين:
1- أن المتطير قطع توكله على الله واعتمد على غيره سبحانه تعالى. والله جل وعلا يقول: ﴿فَٱعۡبُدۡهُ وَتَوَكَّلۡ عَلَيۡهِ﴾ [هود:123].
2- أنه تعلق بأمر لا حقيقة له بل هو وهم وتخييل فإنه لا رابطة بين هذا الأمر وبين ما يحصل له، وهذا يخل بالتوحيد لأن التوحيد عبادة واستعانة قال جل وعلا ﴿إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ﴾[الفاتحة:5]
(وقول الله تعالى: (ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون)).
قال الله تعالى: ﴿فَإِذَا جَآءَتۡهُمُ ٱلۡحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَٰذِهِۦۖ وَإِن تُصِبۡهُمۡ سَيِّئَةٞ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُۥٓۗ أَلَآ إِنَّمَا طَٰٓئِرُهُمۡ عِندَ ٱللَّهِ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ﴾ [الأعراف:131])
هذه الآية نزلت في موسى عليه السلام قال تعالى: ﴿وَإِن تُصِبۡهُمۡ سَيِّئَةٞ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُۥٓ﴾ أي إذا جاءهم البلاء والجدب والقحط قالوا هذا من موسى وأصحابه أي أصابنا بشؤمهم فأبطل الله تعالى ذلك بقوله ﴿أَلَآ إِنَّمَا طَٰٓئِرُهُمۡ عِندَ ٱللَّهِ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ﴾
والمعنى أن ما يصيبهم من الجدب والقحط ليس من موسى عليه السلام وقومه ولكنه من الله جل وعلا فهو الذي قدره، بل إن موسى عليه السلام وقومه سبب للبركة والخير ولكن هؤلاء يلبسون على العوام خلاف الواقع ولهذا قال: ﴿وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ﴾
وجه الدلالة من الآية: أن هذه الخصلة من صفات من صفات المشركين فدل على أن التطير مذموم لأنه من صفات أهل الجاهلية لا من صفات أهل الإسلام.
(وقوله: (قالوا طائركم معكم))
وقوله: ﴿قَالُواْ طَٰٓئِرُكُم مَّعَكُمۡ أَئِن ذُكِّرۡتُمۚ بَلۡ أَنتُمۡ قَوۡمٞ مُّسۡرِفُونَ﴾[يس:19]
أي قال الذين أُرسلوا إلى القرية في قوله تعالى: ﴿وَٱضۡرِبۡ لَهُم مَّثَلًا أَصۡحَٰبَ ٱلۡقَرۡيَةِ إِذۡ جَآءَهَا ٱلۡمُرۡسَلُونَ 13 إِذۡ أَرۡسَلۡنَآ إِلَيۡهِمُ ٱثۡنَيۡنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزۡنَا بِثَالِثٖ فَقَالُوٓاْ إِنَّآ إِلَيۡكُم مُّرۡسَلُونَ 14 قَالُواْ مَآ أَنتُمۡ إِلَّا بَشَرٞ مِّثۡلُنَا وَمَآ أَنزَلَ ٱلرَّحۡمَٰنُ مِن شَيۡءٍ إِنۡ أَنتُمۡ إِلَّا تَكۡذِبُونَ 15 قَالُواْ رَبُّنَا يَعۡلَمُ إِنَّآ إِلَيۡكُمۡ لَمُرۡسَلُونَ 16 وَمَا عَلَيۡنَآ إِلَّا ٱلۡبَلَٰغُ ٱلۡمُبِينُ 17 قَالُوٓاْ إِنَّا تَطَيَّرۡنَا بِكُمۡۖ لَئِن لَّمۡ تَنتَهُواْ لَنَرۡجُمَنَّكُمۡ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٞ 18﴾[يس:13 إلى 18]
أي تشاءمنا بكم لأنكم تدلونا على الشر الذي فيه هلاكنا فأجابهم الرسل بقولهم: ﴿قَالُواْ طَٰٓئِرُكُم مَّعَكُمۡ﴾ أي حظكم وما نابكم من شر معكم بسبب أفعالكم وكفركم ومخالفتكم للناصحين.
قوله: (أَئِن ذُكِّرۡتُمۚ) ينبغي الوقوف على قوله (ذُكِّرۡتُمۚ) لأنها جملة شرطية وجواب الشرط محذوف تقديره أإن ذكرتم تطيرتم، وعلى هذا فلا تصلها بما بعدها.
قوله: (بَلۡ أَنتُمۡ قَوۡم مُّسۡرِفُونَ) أي ما أصابكم ليس منهم بل هو من إسرافكم وهو تجاوزكم للحد.
ووجه الدلالة من هذه الآية كالتي قبلها:
ولا منافاة بين هاتين الآيتين اللتين ذكرهما المؤلف رحمه الله تعالى لأن الأولى تدل على أن المقدِّر لهذا الشيء هو الله تعالى والثانية تبين سببه وهو أنه منهم فهم في الحقيقة طائرهم معهم (أي الشؤم) الحاصل عليهم معهم ملازم لهم لأن أعمالهم تستلزمه كما قال تعالى: ﴿ظَهَرَ ٱلۡفَسَادُ فِي ٱلۡبَرِّ وَٱلۡبَحۡرِ بِمَا كَسَبَتۡ أَيۡدِي ٱلنَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعۡضَ ٱلَّذِي عَمِلُواْ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ﴾ [الروم:41]
ويستفاد من الآيتين أن التطير كان معروفاً من قبل في العرب وفي غير العرب.
قال بان القيم في مفتاح دار السعادة 2/230، 231: (واعلم أن من كان معتنيا بها قائلا بها كانت إليه أسرع من السيل الى منحدره وفَتحت له أبواب الوساوس فيما يسمعه ويراه ويعطاه ويفتح له الشيطان فيها من المناسبات البعيدة والقريبة في اللفظ والمعنى ما يفسد عليه دينه وينكد عليه عيشه ...)
(عن أبي هريرة I، أن الرسول ﷺ قال: (لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة، ولا صفر) أخرجاه. زاد مسلم: (ولا نوء، ولا غول).
(لا عدوى) نفي لما كان يعتقده أهل الجاهلية من أن هذه الأمراض تعدي بطبعها من غير اعتقاد لتقدير الله تعالى ويدل لذلك ما رواه أبو هريرة I أن رسول الله ﷺ قال: « لا عدوى ولا صفر ولا هامة» فقال أعرابي يا رسول الله فما بال إبلي تكون في الرمل كأنها الظباء فيأتي البعير الأجرب فيدخل بينها يجربها؟ فقال: «فمن أعدى الأول؟» متفق عليه.
فالأول إنما أصابه الجرب بقضاء الله وقدره ولم تصبه العدوى من غيره فكذلك الإبل الأخرى إنما أصابها المرض بقدر الله تعالى.
ولم ينف الحديث وجود العدوى وكونها سبباً للمرض وإنما نفى أن تكون هي المؤثرة بذاتها في حصول المرض بدون تقدير الله تعالى.
ولهذا فإنه في بعض الأحيان يوجد سبب المرض ولا يحصل المرض لأن الله تعالى لم يقدر حصوله كما هو الحال في الإبل فقد يخالطها الأجرب فيصاب بعضها بقدر الله تعالى ويسلم بعضها بقدر الله تعالى.
إلا أن الله عز وجل قد جعل هناك أسباباً لحصول المرض ونحوه من الشرور فينبغي للمسلم تجنبها كما جاء في الحديث: «فر من المجذوم كما تفر من الأسد».
وفي الحديث الآخر: «لا يورد ممرض على مصح». ونحوها من الأحاديث الدالة على البعد عن أسباب الهلاك كما قال تعالى: ﴿وَلَا تُلۡقُواْ بِأَيۡدِيكُمۡ إِلَى ٱلتَّهۡلُكَةِ﴾ [البقرة:195]
قوله: (ولا طيرة) نفي لتأثير الطيرة. وقد تقدم بيانها.
قوله: (ولا هامة) الهامة طير، قيل هي البومة كان أهل الجاهلية يتشاءمون بها إذا وقعت على بيت أحدهم قال: نَعَتْ إليَّ نفسي أو أحداً من أهل داري فجاء الحديث بنفي ذلك وإبطاله.
قوله: (ولا صفر) المراد به شهر صفر كان أهل الجاهلية يتشاءمون به فأبطل النبي ﷺ ذلك ونفى أن يكون شهراً مشؤوماً فهو كغيره من الشهور يُقدر فيها الخير والشر.
قوله: (ولا نوء) واحد الأنواء وسيأتي الكلام عليها في باب مستقل إن شاء الله تعالى.
قوله: (ولا غول) جمع غُوله أو غَوله وذلك أن العرب كانوا إذا سافروا تلونت لهم الشياطين بألوان مفزعة مخيفة فتدخل في قلوبهم الرعب فيمنعهم ذلك من المضي إلى ما أرادوا فنفى النبي ﷺ تأثيرها وليس المقصود نفي وجودها.
(ولهما عن أنس I قال: قال رسول الله ﷺ: (لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل) قالوا: وما الفأل؟ قال: (الكلمة الطيبة))
فقوله: «لا عدوى» كما تقدم المنفي ليس وجودها لأن العدوى موجودة وإنما المنفي هو تأثيرها بنفسها.
وكذلك قوله «لا طيرة» فالتقدير لا طيرة مؤثرة بنفسها.
قوله: (الكلمة الطيبة) هذا تفسير للفأل[22]، والفأل يعجب النبي ﷺ لما فيه من إدخال السرور على النفس والمضي قدماً لما يسعى إليه لأنه يستبشر أنه سيحصل له كذا وكذا من الخيرات ففيها حسن ظن بالله تعالى وهذا بخلاف الطيرة ففيها سوء ظن بالله تعالى ولهذا صار الفأل ممدوحاً بخلاف الطيرة.
(ولأبي داود بسند صحيح عن عقبة بن عامر I قال: ذكرت الطيرة عند رسول الله ﷺ فقال: (أحسنها الفأل، ولا ترد مسلماً فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك))
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى: الفأل ليس من الطيرة لكنه شبيه بها من جهة الإقدام فإنه يزيد الإنسان إقداماً فيما توجه إليه فهو يشبه الطيرة من هذا الوجه ...»
قوله: (ولا ترد مسلماً) هذا خبر متضمن للنهي ففيه النهي أن ترد الطيرة مسلماً عن حاجته فمن ردته عن حاجته فقد حصل له الشرك.
قوله: (فإذا رأى أحدكم ما يكره) فحينئذ قد ترد على قلبه الطيرة ويكف عما يريد فذكر النبي ﷺ دواءً لذلك وهو أن يقول:
(اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت) أي لا يقدرها ولا يوجدها إلا الله وحده لا شريك له وهذا لا ينافي أن الحسنات تكون بأسباب من العبد لأن الله جل وعلا موجد هذه الأسباب.
والمراد بالحسنات ما يستحسن المرء وقوعه ويشمل ذلك الحسنات الشرعية كالصلاة والحسنات الدنيوية كالمال والولد ونحوهما.
قوله: (ولا يدفع السيئات إلا أنت) السيئات هي ما يسوء المرء وقوعه فهذه لا يدفعها إلا الله تعالى.
قوله: (ولا حول ولا قوة إلا بك) المعنى أنه لا يوجد لنا حول ولا قوة إلا بالله فالباء للاستعانة أو السببية فلا نتحول من حال إلى حال ولا نقوى على ذلك إلا بسبب من الله تعالى والاستعانة به جل وعلا، ففي هذه الجملة كمال التفويض إلى الله وأن الإنسان يبرأ من حوله وقوته إلا بما أعطاه الله تعالى
(وعن ابن مسعود I مرفوعاً: «الطيرة شرك، الطيرة شرك، وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل» رواه أبو داود، والترمذي وصححه، وجعل آخره من قول ابن مسعود)
تقدم بيان متى تكون الطيرة شركاً أكبر، ومتى تكون شركاً أصغر.
(وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل)
أي وما منا إلا وقد أتى لقلبه بعض التطير لأن هذا من الشيطان والشيطان يأتي القلوب فيغيرها بما يفسدها ومن ذلك التطير، ولكن المؤمن لا يلتفت إلى ذلك، ويعظم توكله على الله عز وجل.
(ولأحمد من حديث ابن عمرو: (من ردته الطيرة عن حاجة فقد أشرك) قالوا: فما كفارة ذلك؟ قال: (أن تقول: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك))
هذا فيه ضابط الطيرة وهي ما أمضاك أو ردك.
«لا خير إلا خيرك « فالخير كله من الله، سواء كان بسبب معلوم أو بغيره.
وقوله: «لا طير إلا طيرك» أي: الطيور كلها ملكك؛ فهي لا تفعل شيئا، وإنما هي مسخرة، قال تعالى: ﴿أَوَلَمۡ يَرَوۡاْ إِلَى ٱلطَّيۡرِ فَوۡقَهُمۡ صَٰٓفَّٰتٖ وَيَقۡبِضۡنَۚ مَا يُمۡسِكُهُنَّ إِلَّا ٱلرَّحۡمَٰنُۚ إِنَّهُۥ بِكُلِّ شَيۡءِۢ بَصِيرٌ﴾.
والمتطير لا يخلو من حالين:
1- أن يحجم ويستجيب لهذه الطيرة ويدع العمل فهذا قد وقع في الطيرة المنهي عنها.
2- أن يمضي لكن في قلبه قلق وهم وغم يخشى من تأثير هذا المتطير به فهذا أهون من الأول. لكن ينبغي له أن يعظم التوكل على الله تعالى.
(وله من حديث الفضل بن عباس L: إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك)
في الشيخ سليمان في التيسير: (هذا حد للطيرة المنهي عنها بأنها ما أوجب للإنسان أن يمضي لما يريده ولو من الفأل، فإن الفأل إنما يستحب لما فيه من البشارة والملاءمة للنفس، فأما أن يعتمد عليه ويمضي لأجله مع نسيان التوكل على الله، فإن ذلك من الطيرة. وكذلك إذا رأى أو سمع ما يكره فتشاءم به ورده عن حاجته، فإن ذلك أيضًا من الطيرة).
29-باب ما جاء في التنجيم
التنجيم في اللغة مصدر نجَّم بتشديد الجيم، مأخوذ من النجم، أي تعلم علم النجوم أو اعتقد تأثير النجوم.
وفي الاصطلاح: هو الاستدلال على الحوادث الأرضية بالأحوال الفلكية.
وعلم النجوم ينقسم إلى قسمين: علم التأثير وعلم التسيير.
أما علم التأثير فعلى ثلاثة أقسام:
1- أن يعتقد أن هذه النجوم مؤثرة فاعلة، بمعنى أنها هي التي تخلق الحوادث والشرور فهذا شرك أكبر لأن من ادعى أن مع الله خالقاً فهو مشرك شركاً أكبر.
2- أن يجعل النجوم والكواكب سبباً يُدَّعى به علم الغيب فيستدل بحركاتها على أنه سيكون كذا وكذا، مثل أن يقول: هذا الإنسان ستكون حياته شقاءً لأنه ولد في النجم الفلاني، وهذا حياته ستكون سعيدة لأنه ولد في النجم الفلاني، فهذا اتخذ علم النجوم وسيلة لادعاء علم الغيب ودعوى علم الغيب كفر مخرج من الملة؛ لقوله تعالى: ﱩ 7 8 9 : ; < = > ? @A B C D E F ﱨ [النمل:65] فإذا ادعى علم الغيب فقد كذب القرآن.
3- أن يعتقد في النجوم أنها سبب لحدوث الخير والشر أي أنه إذا وقع شيء نسبه إلى النجوم ولا ينسب شيئاً إلى النجوم إلا بعد وقوعه فهذا شرك أصغر.
الثاني: علم التسيير: وهذا على قسمين:
1- أن يستدل بسيرها على المصالح الدينية فهذا مطلوب، كما في الاستدلال بالنجوم على جهة القبلة، فهذا قد يكون واجبا إذا لم يكن له طريق لمعرفة القبلة إلا بذلك.
2- أن يستدل بسيرها على المصالح الدنيوية فهذا لا بأس به. كالاستدلال بها على الجهات، كمعرفة أن القطب يقع شمالاً، فهذا جائز، قال تعالى: ﱩ-. / 0 1 2 ﱨ [النحل:16] وكالاستدلال بها على الفصول الأربعة، وأوقات الزرع ونحو ذلك.
وإنما رخص العلماء فيه لأنه يجعل الاستدلال بالنجوم وقتاً وزمناً لا يجعله سبباً، فيجعل هذه النجوم علامة على زمن يصلح فيه كذا وكذا، والله جل وعلا جعل النجوم علامات، فهي علامة على أمور كثيرة كأن يعلم أنه بطلوع النجم الفلاني يدخل وقت الشتاء مثلاً، فدخول وقت الشتاء ليس بسبب طلوع النجم، ولكن حين طلع استدللنا بطلوعه على دخول الوقت.
قوله: (باب ما جاء في التنجيم) يعني في حكم التنجيم وأنه ينقسم إلى جائز ومحرم كما تقدم.
ولما كان من أنواع التنجيم ما هو شرك أورد المؤلف رحمه الله تعالى هذا الباب في كتاب التوحيد.
(قال البخاري في «صحيحه»: قال قتادة: خلق الله هذه النجوم لثلاث: زينة للسماء ورجوماً للشياطين، وعلامات يهتدى بها. فمن تأول فيها غير ذلك اخطأ، وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به. أ.هـ)
قوله: (خلق الله هذه النجوم لثلاث ....) هذا مأخوذ من قوله تعالى: ﱩX Y Z [ \ ] ^ _` a b c dﱨ [المُلك:5] وقوله تعالى: ﱩ -. / 0 1 2 ﱨ وظاهر الآية الأولى أن النجوم في السماء الدنيا.
والثلاث هي:
1- زينة للسماء.
2- رجوماً للشياطين.
3- علامات يهتدى بها.
قوله: (فمن تأول فيها غير ذلك) أي زعم فيها غير ما ذكر الله تعالى في هذه الثلاث، فادعى بها علم الغيب فقد (أخطأ) أي تكلم رجماً بالغيب (وأضاع نصيبه) أي حظه من عمره؛ لأنه اشتغل بما لا فائدة فيه، بل مضرة محضة (وتكلف ما لا علم له به) أي تعاطى شيئاً لا يُتصور علمه، لأن أخبار السماء والأمور الغيبية لا تُعلم إلا عن طريق الكتاب والسنة.
(وكره قتادة تعلم منازل القمر، ولم يرخص ابن عيينة فيه، ذكره حرب عنهما، ورخص في تعلم المنازل أحمد وإسحاق)
هذا القسم من تعلم التنجيم المراد به تعلم منازل القمر والشمس للاستدلال بذلك على القبلة والفصول ونحو ذلك وهو كما ترى مختلف فيه بين السلف، فما الظن بغيره مما تقدم بيان تحريمه وأنه شرك.
والقمر له ثمانية وعشرون منزلاً كما قال تعالى: ﱩ ¾ ¿ À Á Â Ã Ä Å ﱨ [يس:39] في كل يوم للقمر منزلة منها.
ومما يدل على جواز تعلم هذه المنازل قوله تعالى ﱩ § ¨ © ª « ¬ ® ¯ ° ± ² ³ ´µ ¶ ¸ ¹ º » ¼½ ¾ ¿ À Á Â ﱨ [يونس:5] وظاهر الآية أن حصول المنة به في تعلمه وذلك دليل الجواز.
(وعن أبي موسى قال: قال رسول الله ﷺ: (ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن الخمر، وقاطع الرحم، ومصدق بالسحر) رواه أحمد وابن حبان في صحيحه)
قوله: (ثلاثة لا يدخلون الجنة) هذا لا يفيد الحصر لأن هناك من لا يدخلون الجنة سوى هؤلاء.
قوله: (مدمن الخمر) هو شارب الخمر المداوم على شربها.
قوله: (وقاطع الرحم) الرحم هم القرابة.
قوله: (ومصدق بالسحر) هذا هو الشاهد للباب.
ووجه الدلالة منه: أن علم التنجيم نوع من السحر فمن صدق به فقد صدق بنوع من السحر لحديث: «من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر». رواه أبو داود.
فمن صدق بما يخبر به المنجمون من الأمور المستقبلة فإنه لا يدخل الجنة لأنه صدق بأن هناك من يعلم الغيب غير الله تعالى، وقد قال الله عز وجل: ﱩ7 8 9 : ; < = > ? @A B C D Eﱨ [النمل:65].
فإن قيل إن هؤلاء المنجمون قد يَصْدقون.
فيقال إن صدقهم كصدق الكاهن يصدق في كلمة ويكذب في مائة وصدقه ليس عن علم بل قد يوافق قدراً فيكون فتنة في حق من صدقه.
ومن صور التنجيم في العصر الحاضر:
ما يكثر في المجلات والمواقع الإلكترونية ونحوها مما يسمونه البروج، كبرج الأسد والعقرب والثور إلى آخره، ويجعلون أمام كل برج ما سيحصل فيه، فإذا كان الرجل أو المرأة مولوداً في ذلك البرج يقال: سيحصل لك كذا وكذا في هذا الشهر، وفي الغالب يأتون بعبارات فيها التمويه والكلام المجمل، وهذا هو التنجيم الذي هو التأثير والاستدلال بالنجوم والبروج على ما سيحصل في الأرض، وهو نوع من الكهانة، ووجوده في هذ المجلات والمواقع وجود للكهانة فيها.
والواجب على المسلم أن ينكر ذلك، وألا يطلع على هذه الأبراج، لأن مجرد الاطلاع عليها وقراءتها يدخل في إتيان الكهان، المنهي عنه.
فإذا قرأ هذه البروج، وقرأ ما يقال في برجه الذي ولد فيه، فكأنه سأل كاهناً، وعقوبة من سأل الكاهن من غير تصديق له أنه لا تقبل له صلاة أربعين يوماً، فإن صدق بما في تلك البروج فقد كفر بما أنزل على محمد ﷺ.
ومع الأسف تجد كثيرا من الناس يطَّلعون على هذه البروج، ولا يبالون بشناعة فعلهم، ولا يعرفون أن هذا خلل عظيم في توحيدهم، وهذا يؤكد العناية والاهتمام بدراسة التوحيد ومعرفة مسائله، ومعرفة ما يضاد أصل التوحيد وكماله.
30-باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء
الاستسقاء طلب السقيا كالاستغفار طلب المغفرة.
لأن مادة استفعل في الغالب تدل على الطلب.
والأنواء جمع نوء وهي منازل القمر، وبعضهم يقول: الأنواء هي النجوم.
ومنازل القمر: ثمانية وعشرون منزلة، ينزل القمر كل ليلة منزلة منها، ومنه قوله تعالى: ﱩ ¾ ¿ À Á Â Ã Ä Å ﱨ [يس:39]
فقوله: باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء. أي من الوعيد.
الاستسقاء بالأنواء على قسمين:
1- شرك أكبر وله صورتان:
أ- أن يدعو الأنواء بالسقيا، كأن يقول: يا نوءُ كذا اسقنا أو أغثنا. فهذا شرك أكبر لأنه دعاء غير الله تعالى كما قال سبحانه: ﱩ ¶ ¸ ¹ º » ¼ ½ ¾ ¿ À Á Â Ã ÄÅ Æ Ç È É Ê ﱨ [المؤمنون:117] فهذا شرك في العبادة وهو يتضمن الشرك في الربوبية.
ب- أن ينسب حصول الأمطار إلى هذه الأنواء على أنها هي الفاعلة بنفسها دون الله تعالى ولو لم يدعها فهذا شرك أكبر في الربوبية.
2- شرك أصغر: وهو أن يجعل هذه الأنواء سبباً، مع اعتقاد أن الله هو الخالق الفاعل، لأن كل من جعل سبباً لم يجعله الله سبباً لا شرعا ولا قدرا فهو مشرك الشرك الأصغر.
وبهذا تظهر مناسبة الباب لكتاب التوحيد لأن نسبة المطر إلى الأنواء إما أن يكون شركاً أكبر أو أصغر.
(وقول الله تعالى: ﱩ 8 9 : ; < ﱨ )
ذكر ابن كثير في التفسير 7/547 عن ابن عباس L موقوفا أنه قال: (ما مطر قوم قط إلا أصبح بعضهم كافراً، يقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا، وقرأ ابن عباس: ﱩ 8 9 : ; < ﱨ وعزاه لابن جرير، ثم قال ابن كثير رحمه الله تعالى: وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباسI.
فهذا أولى ما فسرت به الآية وبه يظهر وجه استدلال المصنف بهذه الآية في هذا الباب.
فالمعنى: وتجعلون شكركم لله على ما أنزل إليكم من المطر والرحمة أنكم تكذبون أي تنسبونه إلى غيره.
(عن أبي مالك الأشعري I أن رسول الله ﷺ قال: (أربعة في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركوهن: الفخر بالأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة) وقال: (النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب). رواه مسلم)
قوله: (أربع) لا يراد به الحصر لوجود غيرها مما يشركها في الحكم وإنما المراد تيسير العلم وتسهيل حفظه.
من أمر الجاهلية: أي من شأن الجاهلية، وأضافها إلى الجاهلية لغرض التنفير منها والجاهلية هنا هي ما قبل بعثة النبي ﷺ.
لا يتركونهن: أي لا بد من بقاء هذه الخصال في بعض الأمة.
وخصال الجاهلية مذمومة كما في صحيح البخاري مرفوعاً : «أبغض الرجال إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم، ومطلب دم امرئ بغير حق، ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية».
(الفخر بالأحساب) أي التعالي والتعاظم أي يفخر بسبب الحسب الذي هو عليه من شرف آبائه ومآثرهم وفضائلهم.
(والطعن في الأنساب) أي العيب فيها.
(والاستسقاء بالنجوم) وهذا هو الشاهد من الباب.
والمراد بالاستسقاء ليس هو نسبة المطر إلى النجم؛ لأن هذا كفر، وإنما المراد جعله سبباً لنزول المطر، وكفار قريش هذا هو اعتقادهم، كما قال تعالى: ﱩ ¿ À Á Â Ã Ä Å Æ Ç È É Ê Ë Ì ÍÎ Ï Ð ÑÒ Ó Ô Õ Ö × ﱨ [العنكبوت:63]
والنياحة على الميت وهي رفع الصوت بالبكاء على الميت قصداً على سبيل النوح.
وقال: «النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب».
والغالب في النياحة تكون من النساء ولهذا قال النائحة.
والظاهر أن هذا الذنب لا تكفره إلا التوبة وأن الحسنات لا تمحوه لأنه من الكبائر والكبائر لا تمحوها إلا التوبة.
(تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران) أي تبعث من قبرها يوم القيامة والسربال الثوب السابغ كالدرع أو القميص، يعني أنها تلطخ بالقطران وهو ما يسمى الزفت فيصير لها كالقميص حتى يكون اشتعال النار بجسدها أعظم ورائحتها أنتن.
(ودرع من جرب) والجرب مرض معروف يصيب الجلد يؤرق الإنسان، وإذا اجتمع قطران وجرب زاد البلاء، لأن الجرب أي شيء يمسه يتأثر به البدن.
(ولهما عن زيد بن خالد I قال: صلى لنا رسول الله ﷺ صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: (هل تدرون ماذا قال ربكم؟) قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: (قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب))
لهما: أي البخاري ومسلم.
(قال: صلى لنا رسول الله ﷺ صلاة الصبح بالحديبية ....)
أي صلى بنا إماماً.
والحديبيَّة فيها لغتان: التخفيف للياء الثانية والتشديد، والتخفيف أكثر.
وهو مكان قريب من مكة، بعضه في الحل وبعضه في الحرم، نزل به النبي ﷺ في السنة السادسة من الهجرة لما قدم معتمراً، فصده كفار قريش، ويسمى الآن الشميسي.
(على إِثْر سماء كانت من الليل) الإثْر يعني العقب، فهو ما يعقب الشيء.
والمراد بالسماء هنا المطر، وأطلق عليه سماء لأنه ينزل من جهة السماء.
(فلما انصرف أقبل على الناس) يعني فلما انصرف من صلاة الصبح أقبل على الناس بوجهه الشريف عليه الصلاة والسلام، (فقال: «هل تدرون ماذا قال ربكم؟»).
هذا استفهام يراد به التنبيه والتشويق لما سيلقى عليهم وإلا فالرسول ﷺ يعلم أنهم لا يعلمون ماذا قال الله عز وجل؛ لأن الوحي لا ينزل عليهم.
وهذا من الأحاديث القدسية.
(قالوا الله ورسوله أعلم) فيه حسن أدب الصحابة M حيث لم يتكلفوا ما لا يعلمون، بل فوضوا العلم لله تعالى ورسوله ﷺ.
(قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر) المراد بقوله: “عبادي” عموم العباد، بدليل التقسيم إلى مؤمن وكافر.
(فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته) أي من نسب المطر إلى الله واعتقد أنه أنزله بفضله ورحمته من غير استحقاق من العبد على ربه وأثنى عليه فقال: (مطرنا بفضل الله ورحمته).
(فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب) لأنه نسب المطر إلى الله تعالى ولم ينسبه إلى الكوكب، ولم يَرَ له تأثيراً في نزوله، بل نزل بفضل الله تعالى.
(وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا) الباء في قوله (بنوء) للسببية وصار كافراً؛ لأنه أنكر نعمة الله تعالى، ونسبها إلى سبب لم يجعله الله تعالى سبباً، فتعلقت نفسه بهذا السبب ونسي نعمة الله تعالى، وهذا كفر أصغر لا يخرج من الملة، لأنه نسب المطر إلى النوء على أنه سبب لا على أنه فاعل، فإنه قال (مطرنا بنوء كذا) ولم يقل: أنزل علينا المطر نوء كذا. لأنه لو قال ذلك لكان نسبة النوء إلى المطر نسبة إيجاد، وهذا شرك أكبر.
ونسبة المطر إلى النوء تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
1- نسبة إيجاد وهذه شرك أكبر.
2- نسبة سبب وهذه شرك أصغر.
3- نسبة وقت وهذه جائزة، كأن يقول: مطرنا في نوء كذا.
(ولهما من حديث ابن عباس بمعناه وفيه قال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا، فأنزل الله هذه الآيات: ﱩ Î Ï Ð Ñ Ò ﱨ إلى قوله: ﱩ8 9 : ; < ﱨ )
قوله: (ولهما) قال الشيخ سليمان في التيسير: (الحديث لمسلم فقط).
ومعنى الحديث أنه لما نزل المطر نسبه بعضهم إلى رحمه الله وبعضهم قال: لقد صدق نوء كذا وكذا. فكأنه جعل النوء هو الذي أنزل المطر أو نزل بسببه.
قال: فأنزل الله: ﱩ Î Ï Ð Ñ Ò ﱨ [الواقعة:75]
(لا) في قوله: ﱩ Î Ï ﱨ للتنبيه، والجملة بعدها مثبتة.
وأقسم جل وعلا بمواقع النجوم لما فيها من الدلالة على كمال قدرته جل وعلا.
والمراد بمواقع النجوم أي مواقع الكواكب، والمراد مساقطها عند غروبها ومطالعها ومشارقها. وقيل غير ذلك.
وجواب القسم ﱩ ! " # $ ﱨ [الواقعة:77]
ﱩ 8 9 : ; < ﱨ [الواقعة:82] تقدم تفسيرها.
31-بــاب قول الله تعالى: ﱩ M N O P Q R S T U V WX ﱨ الآية.
هذا الباب والذي بعده شروع من المؤلف رحمه الله تعالى في العبادات القلبية. وما يجب أن تكون عليه من الإخلاص لله تعالى.
وابتدأها بباب المحبة وأن العبد يجب أن يكون الله جل وعلا أحبَّ إليه من كل شيء حتى من نفسه، وهذه المحبة المراد منها محبة العبادة، وهي التي تكون في القلب، ويكون معها الرغب والرهب والطاعة والسعي في مراضي المحبوب والبعد عما لا يحب.
ومحبة العبادة صرفها لله تعالى توحيد، ولغيره شرك أكبر يخرج من الملة، لذا أورد المؤلف رحمه الله تعالى هذا الباب في كتاب التوحيد.
أقسام المحبة:
1- المحبة الخاصة التي لا تصلح إلا لله تعالى وهي محبة العبودية المستلزمة للذل والخضوع والتعظيم وكمال الطاعة وإيثاره على غيره، فهذه المحبة لا يجوز تعلقها بغير الله تعالى ويجب إفراد الله تعالى بهذه المحبة، ومن أحب مع الله غيره محبة عبادة فهو مشرك الشرك الأكبر[23].
2- المحبة في الله تعالى وهو أن يحب الرسل والأنبياء عليهم الصلاة السلام، ويحب الصالحين في الله تعالى، وهذه المحبة قربة وطاعة لله عز وجل، لأن محبة هؤلاء من محبة الله عز وجل.
3- المحبة الطبيعية التي ليست بعبادة في ذاتها، وذلك مثل محبة الوالد لولده، فهذه محبة إشفاق ورحمة، ومحبة الولد لوالديه، فهي محبة إجلال واحترام لا عبادة.
وهذا النوع من المحبة لا يستلزم التعظيم الذي هو عبادة، فلا تكون شركاً في محبة الله.
(قول الله تعالى: ﱩ M N O P Q R S T U V WX Y Z [ \ ]^ _ ` a b c d e f g h i j k l m n ﱨ )
ﱩ ¯ ﱨ الأنداد جمع ند وهو الشبيه والنظير والكفء.
ﱩ U V WX ﱨ أي يحبونهم كحبهم لله، فالمعنى أن المشركين يحبون هذه الأنداد كما يحبون الله تعالى، فجعلوا هذه الأنداد شركاء لله تعالى فيما يستحق من المحبة وحده.
والكاف في قوله ﱩ U V WX ﱨ كاف المثلية والمساواة، أي يساونهم بالله في المحبة والتعظيم ولهذا يقولون لأندادهم وهم في النار: ﱩm n o p q r s t u v w x ﱨ [الشعراء:98] فهم قد ساووهم بالله عز وجل في المحبة، أما مساواتهم بالله في الخلق والرزق وتدبير الأمور فما كان أحد من المشركين يساوون أصنامهم بالله في ذلك.
فدلت الآية على أن من أحب شيئاً كحب الله فقد اتخذه نداً لله وذلك هو الشرك الأكبر.
ودلت الآية أيضاً على أن المشركين يعرفون الله ويحبونه وإنما الذي أوجب كفرهم مساواتهم به الأنداد في المحبة، فكيف بمن أحب الأنداد أكبر من حب الله، فكيف بمن لم يحب الله أصلاً ولم يحب إلا الند وحده، والله المستعان.
(وقوله: (قل إن كان ءاباؤكم وأبناؤكم) إلى قوله تعالى: (أحب إليكم من الله ورسوله) الآية)
قال الله تعالى: ﱩ K L M N O P Q R S T U V W X Y Z [ \ ] ^ _ ` a b c d e fg h i j k l m ﱨ [التوبة:24]
هذه الآية فيها وعيد لمن أحب هذه المذكورات الثمانية في الآية أو أحدَها أكثر من محبة الله تعالى وجهاد في سبيله وقدمها على ذلك أن ينتظر ما يحل به من العقوبة؛ لقوله: ﱩ b c d e fg ﱨ أي انتظروا عقاب الله تعالى بإهلاك هؤلاء الذين يقدمون محبة غير الله عليه.
وقوله: ﱩ × Ø Ù Ú Û Ü ﱨ تنبيه على أن من فعل ذلك فهو من الفاسقين، وهذا يدل على أنه من الكبائر.
فالمحبة الصادقة تستلزم تقديم مراض الله عز وجل على هذه الأمور الثمانية كلها.
فالواجب لتكميل التوحيد أن يحب العبد ربه جل وعلا فوق كل محبوب، فمن ادعى محبة الله وهو يحب غيره أكثر من محبة الله ورسوله عليه الصلاة والسلام فهو كاذب فيما يدعي من المحبة.
(عن أنس I، أن رسول الله ﷺ قال: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين) أخرجاه)
«لا يؤمن أحدكم»: أي لا يؤمن أحدكم الإيمان الكامل حتى يكون الرسول ﷺ أحب إليه من هذه المذكورات في الحديث.
والمراد نفي الكمال الواجب الذي يذم تاركه.
بل لا يحصل له ذلك حتى يكون الرسول ﷺ أحب إليه من نفسه أيضاً، ففي الصحيح عن عمر I أنه قال للنبي ﷺ: يا رسول الله، لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي. فقال النبي ﷺ: «لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك» فقال له عمر I: فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي. فقال النبي ﷺ: «الآن يا عمر».
وتظهر هذه المحبة بتقديم ما يحبه الله عز وجل ورسوله ﷺ على ما يحبه غيرهما، فمن قدم محبة غيرهما على محبة الله تعالى ورسوله ﷺ فمحبته لهما ناقصة.
وجه الدلالة من الحديث:
أن الإيمان إذا كان لا يكون كاملاً إلا بمحبة الرسول ﷺ أكثر من محبة الإنسان لنفسه والناس أجمعين فمحبة الله تعالى أولى وأعظم.
ولأن محبة الرسول ﷺ من محبة الله تعالى.
(ولهما عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله رسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار)).
ولهما عنه: أي للبخاري ومسلم عن أنس I.
قال: قال رسول الله ﷺ : «ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان ...»
الباء في (بهن) للسببية.
وحلاوة الإيمان هي ما يجده الإنسان في نفسه وقلبه من الطمأنينة والراحة والانشراح الناتجة عن تحصيل كمال الإيمان.
قوله: (أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما) أي من الدنيا كلها.
قوله: (وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله) هذا يشمل الرجل والمرأة لقوله (المرء)
والمعنى أنه يحبه من أجل الله لأنه قائم بطاعة الله تعالى.
قوله: (وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار)
هذه الصورة في كافر أسلم فهو يكره أن يعود إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار.
وإنما ذكر هذه الصورة لأن الكافر قد تدعوه نفسه إلى الرجوع إلى الكفر بخلاف المسلم الأصلي.
(وفي رواية: (لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى .. ) إلى آخره)
هذه الرواية أخرجها البخاري (6041) ولفظه: (لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى يحب المرء لا يحبه إلا لله، وحتى أن يُقذف في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، وحتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)
أورد المصنف رحمه الله تعالى هذه الرواية لأن انتفاء وجدان حلاوة الإيمان بالنسبة للرواية الأولى عن طريق المفهوم وهذه عن طريق المنطوق ودلالة المنطوق أقوى من دلالة المفهوم.
(وعن ابن عباس L قال: من أحب في الله، وأبغض في الله، ووالى في الله، وعادى في الله، فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك. وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئا. رواه بن جرير)
(من أحب في الله وأبغض في الله) المعنى أحب المسلمين لأجل الله تعالى وأبغض الكفار والفساق في الله لمخالفتهم لربهم جل وعلا ولو كانوا أقرب الناس إليه.
قوله: (ووالى في الله وعادى في الله) هذا فيه بيان لازم المحبة في الله وهي الموالاة، فلا يكفي في ذلك مجرد الحب بل لا بد معه من الموالاة التي هي لازم الحب، وهي النصرة والإكرام والاحترام وأن يكون مع المحبوبين ظاهراً وباطناً.
وكذلك المعاداة في الله هي من لازم البغض في الله تعالى وهي إظهار العداوة بالفعل كالجهاد لأعداء الله والبراء منهم والبعد عنهم ظاهراً وباطناً، إشارة إلى أنه لا يكفي مجرد بغض القلب بل لابد مع ذلك من الإتيان بلازمه وهي المعاداة كما قال تعالى: ﱩ r s t u v w x y z { | } ~ ¡ ¢ £ ¤ ¥ ¦ § ¨ © ª « ¬ ® ¯ ° ± ² ³ ﱨ [الممتحنة:4]
(فإنما تنال وَلاية الله بذلك) الوَلاية بالفتح بمعنى النصرة والمحبة فالمعنى إنما يكون ولياً من أولياء الله تعالى بهذا الفعل.
(ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك).
هذا منتزع من حديث أنس I السابق.
(وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا وذلك لا يجدي على أهله شيئاً)
وهذا قاله I في زمانه فكيف بمن بعده.
(وقال ابن عباس في قوله تعالى: ﱩ x y z { ﱨ قال: المودة)
فجميع الأسباب التي يتعلق بها المشركون لتنجيهم ومنها محبتهم لأصنامهم وتعظيمهم لها فإنها تنقطع بهم يوم ا لقيامة، ولا تنفعهم حيث إنهم يظنون أن محبتهم للآلهة يجعلها تشفع لهم يوم القيامة وليس الأمر كما يظنون.
كما قال تعالى: ﱩ 7 8 9 : ; < = > ? @ A BC D E F G H I J K L M N O P Q R S ﱨ [العنكبوت:25]
32-بــاب قول الله تعالى: (إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه
فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين)
مناسبة الباب لكتاب التوحيد:
هذا الباب في بيان عبادة الخوف من الله تعالى، ومن أقسام الخوف ما يكون شركاً مخرجاً من الملة وهو خوف السر كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
مناسبة الباب لما قبله:
أتى المؤلف رحمه الله تعالى بهذا الباب بعد باب المحبة لأن العبادة ترتكز على شيئين:
المحبة والخوف، أي محبة الله تعالى والخوف من عذابه فبهما يكون امتثال أمر الله تعالى واجتناب نهيه.
أقسام الخوف:
1- خوف السر وهو خوف العبادة والتعظيم والخضوع وهو أن يخاف من غير الله أن يصيبه بضر كالمرض والفقر والقتل ونحو ذلك بقدرته ومشيئته سواء ادعى أن ذلك كرامة للمخوف منه بالشفاعة أو على سبيل الاستقلال فهذا الخوف لا يجوز تعلقه بغير الله أصلاً لأن هذا من لوازم الإلهية.
وهذا من الشرك الأكبر المخرج من الملة.
وهذا الشرك هو الذي كان المشركون يعتقدون في أصنامهم وآلهتهم ولهذا يخوفون بها أولياء الرحمن كما خوفوا إبراهيم عليه الصلاة والسلام فقال لهم: ﱩ ® ¯ ° ± ² ³ ´ µ ¶ ¸¹ º » ¼ ½ ¾¿ À Á  ﱨ [الأنعام:80] الآيات.
قال الشيخ سليمان في التيسير: «وهذا القسم هو الواقع اليوم من عباد القبور، فإنهم يخافون الصالحين بل الطواغيت كما يخافون الله بل أشد. ولهذا إذا توجهت على أحدهم اليمين بالله أعطاك ما شئت من الأيمان كاذباً أو صادقاً فإن كان اليمين بصاحب التربة لم يقدم على اليمين إن كان كاذباً وما ذاك إلا لأن المدفون في التراب أخوف عنده من الله»
2- أن يترك الإنسان ما يجب عليه من الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحو ذلك من الطاعات بغير عذر إلا لخوف من الناس، كمن يترك الصلاة أو لا يحضر الجماعة أو لا يتبع السنة في ملبسه وهيئته خوفاً من ذم الناس له واستنقاصهم وازدرائهم، أو ترك مدحهم له، وكذلك من يفعل المنكر خوفاً من الناس فهذا كله محرم وهو منافٍ لكمال التوحيد الواجب.
عن أبي سعيد الخدري I أن رسول الله ﷺ قام خطيباً فكان فيما قال: «ألا لا يمنعن رجلاً هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه» قال: فبكى أبو سعيد وقال: قد والله رأينا أشياء فهبنا. رواه ابن ماجه.
وعن أبي سعيد I قال: سمعت رسول الله يقول: «إن الله ليسأل العبد يوم القيامة حتى يقول: ما منعك إذ رأيت المنكر أن تنكره؟ فإذا لقن الله عبداً حجته قال: يا رب رجوتك وفرِقت من الناس» رواه ابن ماجه.
3- خوف وعيد الله الذي توعد به العصاة وهو الذي قال الله فيه: ﱩg h i jk l m n o p qﱨ [إبراهيم:14] وقال: ﱩ 8 9 : ; < = ﱨ [الرحمن:46] وقال: ﱩ! " # $ % & ' ( ﱨ [الإنسان:7] وهذا الخوف من أعلى مراتب الإيمان، وإنما يكون محموداً إذا لم يوقع في القنوط واليأس من روح الله.
4- الخوف الطبيعي والجبلِّي كالخوف من سبع أو عدو أو نحو ذلك فهذا في الأصل مباح لقوله تعالى عن موسى عليه السلام: ﱩ Ú Û Ü ÝÞ ß à á â ã ä å ﱨ [القصص:21] وقوله: ﱩ § ¨ © ª « ¬ ® ¯ ° ± ﱨ [القصص:33] فهذا لا يذم.
قال المصنف رحمه الله تعالى: «باب قول الله تعالى: ﱩ 2 3 4 5 6 7 8 9 : ; < = ﱨ [آل عمران:175]
ﱩ 2 3 ﱨ : صيغة حصر والمشار إليه التخويف من المشركين.
و ﱩ 5 ﱨ تنصب مفعولين الأول محذوف دل عليه السياق تقديره: يخوفكم، والمفعول الثاني ﱩ 6 ﱨ ومعنى أولياءه أي أنصاره الذين ينصرون الشرك والمنكر.
فالمعنى ﱩ 2 3 4 5 6 ﱨ أي يخوفكم أولياءه ويوقع في قلوبكم الخوف منهم ويوهمكم أنهم ذو بأس وشدة. وفاعل ﱩ 5 ﱨ ضمير يعود على الشيطان فالتقدير: يخوف الشيطانُ الناسَ أولياءه.
ﱩ 7 8 9 : ; < = ﱨ وهذا نهي من الله للمؤمنين أن يخافوا غيره وأمرٌ لهم أن يقصروا خوفهم على الله تعالى فلا يخافوا إلا إياه.
وجه الدلالة من الآية:
أن قوله تعالى: ﱩ 9 : ; < = ﱨ هذا أمر منه جل وعلا بالخوف فدل على أن الخوف محبوب إلى الله تعالى ويكون عبادة من العبادات لأن العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه ...
(وقوله: (إنما يعمر مساجد الله من ءامن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وءاتى الزكاة ولم يخش إلا الله) الآية)
الشاهد من الآية قوله تعالى: ﱩ v w x yz ﱨ فمن صفة هؤلاء الذين يعمرون المساجد أنهم لا يخشون إلا الله.
وهذه الجملة من الآية فيها حصر، طريقة النفي والإثبات، فقوله ﱩ v w ﱨ نفي ﱩ ° ± ﱨ إثبات والمعنى أن خشيته انحصرت في الله جل وعلا فلا يخشى غيره.
والخشية نوع من الخوف لكنها أخص منه، والفرق بينهما:
1- أن الخشية تكون مع العلم بالمخشي وحاله، لقوله تعالى: ﱩ ¯ ° ± ² ³ ´µ ﱨ [فاطر:28] والخوف قد يكون من الجاهل.
2- أن الخشية تكون بسبب عظمة المخشي منه، بخلاف الخوف فقد يكون من ضعف الخائف لا من قوة المخوف منه.
وجه الدلالة:
أن الله جل وعلا وصف أهل الإيمان في معرض الثناء عليهم بأنهم لا يخشون إلا الله فهم يحصرون خشيتهم في الله تعالى دون ما سواه، والخشية أخص من الخوف وهي نوع منه فدل ذلك على أن الخشية التي هي نوع من العبادة لا يجوز صرفها لغير الله تعالى.
(وقوله: (ومن الناس من يقول ءامنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله) الآية)
وقوله: ﱩ N O P Q R S T U V W X Y Z [ \] ^ _ ` a b c d e fg h i j k l m n o ﱨ [العنكبوت:10]
وجه الدلالة: أن من جعل فتنة الناس كعذاب الله وذلك بفعل ما حرم الله عليه أو ترك ما أوجب الله عليه موافقة لهم واتباعاً لأمرهم وخشية من كلامهم فيه فهذا من جملة الخوف من غير الله لأنه قد خاف من الناس كخوفه من الله.
(عن أبي سعيد I مرفوعا: (إن من ضعف اليقين: أن ترضى الناس بسخط الله، وأن تحمدهم على رزق الله، وأن تذمهم على مالم يؤتك الله، إن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره))
قوله: (إن من ضعف اليقين) المراد باليقين الإيمانُ كله.
قوله: (أن ترضي الناس بسخط الله) هذا الشاهد للباب، أي أن تُؤْثِر رضاهم على رضى الله تعالى، فتوافقهم على ترك المأمور أو فعل المحظور، الذي يسخط الله تعالى، وهذا من ضعف الإيمان واليقين وإلا فلو قوي إيمانه لعلم أن الله تعالى هو النافع الضار، وأن المعول على رضاه سبحانه دون غيره، فلا يخاف أحدا كائناً من كان.
فوجه الدلالة: أن هذا الذي أرضى الناس بسخط الله تعالى خافهم وخشي منهم أن يضروه وهذا نوع من الخوف من غير الله تعالى.
(وعن عائشة J: أن رسول الله ﷺ قال: (من التمس رضى الله بسخط الناس I وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس) رواه ابن حبان في صحيحه)
الشاهد منه قوله: (ومن التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس)
وجه الدلالة: أن الذي يحمل الإنسان على إرضاء الخلق بسخط الخالق هو الخوف منهم، فلو كان خوفه خالصاً لله لما أرضاهم بسخطه.
33-بــاب قول الله تعالى: (وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين)
مناسبة الباب لكتاب التوحيد:
أن التوكل على الله عبادة أمر الله بها، وإفراد الله جل وعلا به توحيد والتوكل على غير الله تعالى شرك، والتوكل على الله شرط في صحة الإسلام وشرط في صحة الإيمان.
ولهذا لا يقوم بهذه العبادة على وجه الكمال إلا خواص المؤمنين، كما تقدم في حديث السبعة الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب.
تعريف التوكل:
في الاصطلاح: تفويض الأمر إلى الله تعالى في جلب النفع ودفع الضر والاعتماد عليه في ذلك والثقة بكفايته لعبده مع فعل الأسباب المشروعة.
أقسام التوكل:
القسم الأول: التوكل على الله تعالى، ومنه التوكل على الله تعالى في استقامة العبد وهدايته وفعل الطاعة واجتناب المعصية ودعوة الناس إلى الخير ومجاهدة أهل الشر ونحو ذلك، وهذا أعظم أنواع التوكل.
ومنه التوكل على الله تعالى في تحصيل أمر من أمور الدنيا مما يحتاجه العبد، كمن يتوكل على الله تعالى في حصول الرزق أو النصر على العدو ونحو ذلك فهذا تحصل له الكفاية فيما توكل على الله فيه في الدنيا.
القسم الثاني: التوكل على غير الله تعالى، وهذا على ثلاثة أنواع:
1- ما يكون شركاً أكبر مخرجاً من الملة، كمن يتوكل على غير الله تعالى في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله عز وجل، كالذين يتوكلون على الأموات والأولياء في مطالبهم من الرزق والولد والنصر على العدو ونحو ذلك من الحاجات، أو يتوكل على المخلوق في مغفرة الذنب والنجاة من النار، فكل هذا من الشرك الأكبر المخرج من الملة، لأن هذا النوع من التوكل لا يحصل إلا ممن يعتقد أن لهذا المخلوق تصرفاً في الكون وأن بيده النفع والضر.
2- ما يكون شركاً أصغر لا يخرج من الملة، وهو من يعتقد أن الأمر بيد الله عز وجل، ولكنه يتوكل على المخلوق في أمر يقدر عليه، مع غفلته عن المسبب وهو الله جل وعلا، كمن يتوكل على من له سلطان فيما يعطيه من المال أو فيما يدفع عنه من الأذى، ولهذا يجد الإنسانُ في نفسه لهذا السلطان ونحوه محاباة، ويشعر أنه مفتقر إليه، ويميل بقلبه إليه، فهو لم يعتقد أنه مجرد سبب من الأسباب بل جعله فوق السبب.
3- الوكالة الجائزة وهي أن يوكل غيره في البيع والشراء ونحو ذلك فهذه لا حرج فيها وذلك لأن الموكل يرى أنه اعتمد عليه في هذا الأمر وهو يشعر أن المنزلة العليا له فوقه لأنه جعله نائباً عنه وقد وكل النبي ﷺ علي بن أبي طالب I أن يذبح ما بقي من هديه في الحج، ووكل أبي هريرة I على الصدقة، ووكل عروة بن الجعد أن يشتري له أضحية.
ولكنه ليس له أن يتوكل عليه وإن وكله بل يتوكل على الله ويعتمد عليه في تيسير ما وكله فيه.
ومذهب أهل السنة والجماعة وجوب التوكل على الله تعالى وتفويض الأمر إليه، مع القيام بالأسباب المشروعة، كما دل على ذلك نصوص كثيرة من الكتاب والسنة، فمن ذلك:
قوله تعالى: ﱩ f g h i j k l m n o p ﱨ[النساء:71]
وقوله تعالى: ﱩ ¦ § ¨ © ª « ¬ ® ¯ ° ± ² ³ ´ ﱨ [الأنفال:60]
وعن أنس I قال: قال رجل يا رسول الله: أعقلها وأتوكل، أو أطلقها وأتوكل؟ قال: «اعقلها وتوكل. رواه الترمذي.
وفي غزوة أحد ظاهر النبي ﷺ بين درعين.
قوله: (باب قول الله تعالى: ﱩ Ï Ð Ñ Ò Ó Ôﱨ)
أمر جل وعلا في هذه الآية بالتوكل فدل على أنه عبادة، وقدم الجار والمجرور ﱩ * + ﱨ فدل على الحصر؛ لأن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر، فدلت الآية على أنه يجب أن يفرد الله تعالى بالتوكل دون ما سواه.
وقوله: ﱩ w x y z ﱨ أي إن كنتم مؤمنين فأفردوا الله تعالى بالتوكل، فدل على أن التوكل شرط لصحة الإيمان.
وكذلك قوله جل وعلا: ﱩ i j k l m n o p q r ﱨ [يونس:84]
فأمر سبحانه وتعالى بالتوكل وقدم الجار والمجرور لإفادة الحصر والاختصاص بالله جل وعلا، ثم جعل إفراده بالتوكل شرطاً في صحة الإسلام.
فدلت هاتان الآيتان على أن التوكل عبادة وأن إفراد الله تعالى بها واجب وأنه شرط في صحة الإسلام والإيمان، وهذا كله يدل على أن انتفاءه مُذهب لأصل التوحيد إذا توكل على غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله جل جلاله.
(وقوله: (إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) الآية)
وقوله: ﱩ 7 8 9 : ; < = > ? @ A B C D E F G H ﱨ [الأنفال:2]
الشاهد قوله تعالى: ﱩ E F G ﱨ أي يعتمدون على الله تعالى لا على غيره في جميع أمورهم، وتقديم الجار والمجرور يفيد الحصر أيضاً.
(وقوله: (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين))
(حسبك الله) أي الله وحده كافيك وكافي أتباعك فلا تحتاجون معه إلى أحد لأن الحسب هو الكافي.
وجه الدلالة: أخبر الله تعالى أنه حسب رسوله وحسب أتباعه أي كافيهم وناصرهم، وفي ضمن ذلك أمر لهم بإفراده تعالى بالحسب استكفاءً بكفايته تبارك وتعالى وذلك هو التوكل.
(وقوله: (ومن يتوكل على الله فهو حسبه))
أي كافيه ما أهمه.
ومفهوم الآية أن من توكل على غير الله لا يكون حسباً.
وفي الآية فضيلة التوكل على الله تعالى وفضيلة المتوكلين لأنه رتب الحسب على التوكل على الله تعالى.
(عن ابن عباس L قال: ﱩ Õ Ö × Ø Ù ﱨ قالها إبراهيم ﷺ حين ألقي في النار، وقالها محمد ﷺ حين قالوا له: ﱩ Ì Í Î Ï Ð Ñ Ò Ó Ô Õ Ö × Ø ﱨ رواه البخاري والنسائي)
قوله: ﱩ Õ Ö ﱨ أي كافينا فلا نتوكل إلا عليه.
ﱩ × Ø Ù ﱨ أي نعم المتوكل عليه.
قوله: (قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار وقالها محمد ﷺ حين قالوا: ﱩ Ì Í Î Ï Ð Ñ Ò Ó ﱨ [آل عمران:173]) الآية.
وذلك بعدما كان من أمر أحد ما كان، بلغ النبي ﷺ وأصحابه أن أبا سفيان ومن معه قد أجمعوا الكرَّة عليهم، فخرج النبي ﷺ في سبعين من أصحابه M حتى انتهى إلى حمراء الأسد، وهي من المدينة على ثلاثة أميال، ثم ألقى الله الرعب في قلب أبي سفيان فرجع إلى مكة، ومر به ركب من عبد القيس فقال: أين تريدون؟ فقالوا نريد المدينة قال: فهل أنتم مبلغون عني محمداً رسالة أرسلكم بها إليه؟ قالوا: نعم. قال: فإذا وافيتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم. فمر الركب برسول الله ﷺ وهو بحمراء الأسد فأخبروه بالذي قال أبو سفيان، فقال: ﱩ Õ Ö × Ø Ù ﱨ .
وفي هذا الحديث فضل هذه الكلمة وأنها قول إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام في الشدائد.
34-بــاب قول الله تعالى: ﱩ H I JK L M N O P Q R ﱨ
في هذا الباب التنبيه على الجمع بين الخوف والرجاء، وأنه واجب من واجبات الإيمان، ولا يتم التوحيد إلا بذلك، فعدم الجمع بين الخوف والرجاء مناف لكمال التوحيد، فالواجب على العبد أن يجعل خوفه مع الرجاء، وأن يجعل رجاءه مع الخوف، وأن لا يأمن المكر، كما لا يقنط من رحمة الله جل وعلا.
فهذا الباب اشتمل على موضوعين:
1- الأمن من مكر الله تعالى.
2- القنوط من رحمة الله تعالى.
فالمؤلف رحمه الله تعالى أراد أن يبين أن الأمن من مكر الله من أعظم الذنوب المنافية لكمال التوحيد الواجب، وأنه دليل على ضعف الإيمان، فإن من أَمِنَ مكر الله لم يبال بما ترك من الواجبات ولا بما فعل من المحرمات لعدم خوفه من الله تعالى.
(قول الله تعالى: ﱩ H I JK L M N O P Q R S ﱨ)
الضمير في قوله: ﱩ H ﱨ يعود على أهل القرى، لأن الآية التي قبلها هي قوله تعالى: ﱩ4 5 6 7 8 9 : ; < = > ? @ A B C D E F G ﱨ [الأعراف:97-98]
فقوله: ﱩ ; < = ﱨ هذا يدل على كمال الأمن، لأنهم في بلادهم، ولأن الخائف لا ينام.
وقوله: ﱩ D E F G ﱨ يدل أيضاً على كمال الأمن والرخاء، وعدم الضيق في العيش، لأنهم لو كانوا في ضيق من العيش لذهبوا يطلبون الرزق وما صاروا يلعبون في النهار.
والاستفهامات في هذه الآيات كلها للإنكار والتعجب من حال هؤلاء، فهم نائمون وفي رغد من العيش ومع ذلك مقيمون على المعاصي، وفي غفلة عن ربهم، فبين تعالى أن هذا من مكره بهم فقال: ﱩ H I JK L M N O P Q R S ﱨ
فالذي حملهم على المعاصي هو الأمن من عذاب الله وعدم الخوف منه.
ﱩ L M N O P Q R S ﱨ أي الهالكون.
فالذي يمن عليه الله تعالى بالنعم وهو مقيم على المعصية فهذا استدراج، وقد جاء في الحديث عن النبي ﷺ أنه قال: «إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج» رواه الإمام أحمد.
والأمن من مكر الله تعالى ناتج عن عدم الخوف من الله تعالى، بحيث يترك العبد عبادة الخوف وهي عبادة قلبية، والخوف إذا كان في القلب فإنه يجعل العبد يسعى لما يرضي الله ويبتعد عما يبغضه.
وفي الآية إثبات صفة المكر لله تعالى.
والمكر هو التوصل إلى الإيقاع بالخصم من حيث لا يشعر.
وقيل معناه أنه جل وعلا يستدرج العبد ويملي له حتى إذا أخذه لم يفلته، فييسر له الأمور حتى يظن أنه في غاية المأمن فيكون ذلك استدراجاً في حقه.
ومكر الله تعالى صفة من صفاته التي لا تطلق عليه إلا مقيدة أو في مقام تكون فيه مدحاً مثل قوله تعالى: ﱩ k l mn o p qﱨ [الأنفال:30]
ﱩ g h i j k l m n ﱨ [النمل:50] ﱩ + , -. / 0 1 2 ﱨ [آل عمران:54]
وإذا أُطلق المكر على الله تعالى في محله فإنه يكون صفة كمال لأن فيه حينئذٍ إظهارَ العزة والقدرة والقهر.
وليس من صفات الله جل وعلا المكر بإطلاق لأنه يكون صفة نقص.
وليس من أسمائه تعالى الماكر.
وجه الدلالة من الآية:
أن الله جل وعلا وصف الذين يأمنون من مكر الله تعالى بالخسران وهو الهلاك فدل على تحريم الأمن من مكر الله تعالى.
كما أن الجملة جاءت بصيغة الاستفهام الدال على الإنكار والتعجب.
(وقوله: (ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون))
نبه المصنف رحمه الله تعالى بهذه الآية على أنه إذا خاف من الله تعالى فلا يقنط من رحمته بل يرجوها مع العمل الصالح، كما قال تعالى: ﱩ ¡ ¢ £ ¤ ¥ ¦ § ¨ © ª « ¬® ¯ ° ± ² ﱨ [البقرة:218]
فذكر سبحانه وتعالى أنهم يرجون رحمة الله مع الاجتهاد في الأعمال الصالحة فأما الرجاء مع الإصرار على المعاصي فذاك من غرور الشيطان.
قوله: ﱩ E F ﱨ القنوط: أشد اليأس، بحيث يستبعد العبد حصول مطلوبه أو كشف مكروبه.
ﱩ G H I ﱨ أي من رحمة ربه إياه.
ففي الآية أن من صفات الضالين أنهم يقنطون من رحمة الله تعالى، ومفهوم ذلك أن صفة المتقين المهتدين أنهم لا يقنطون من رحمة الله، بل يرجون رحمة الله جل وعلا.
فدلت الآية على أن القنوط من رحمة الله تعالى محرم.
ولأن القنوط من رحمة الله تعالى فيه سوء ظن بالله جل وعلا من وجهين:
1- أنه طعن في قدرته سبحانه فمن علم أن الله على كل شيء قدير لم يستبعد شيئاً على قدرته جل وعلا.
2- أنه طعن في رحمته سبحانه لأن من علم أن الله تعالى رحيم لا يستبعد أن يرحمه الله تعالى.
(عن ابن عباس L، أن رسول الله ﷺ سئل عن الكبائر، فقال: (الشرك بالله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله)).
الشاهد منه قوله ﷺ: «واليأس من روح الله» اليأس: قطع الرجاء من القلب وترك الإتيان بعبادة الرجاء.
والروح بفتح الراء قريب من معنى الرحمة وهو الفرج والتنفيس.
فدل على أن اليأس من روح الله تعالى وهو ترك عبادة الرجاء من الكبائر.
وقوله: «والأمن من مكر الله» فالأمن من مكر الله تعالى فيه ترك لعبادة الخوف وذهاب للخوف من الله من القلب، وقد دل الحديث على أنه من الكبائر.
وإذا اجتمع في القلب اليأس والأمن فهو أشد.
ومن ذهب الخوف والرجاء من قلبه أو انتقص منهما فقد نقص كمال توحيده.
(وعن ابن مسعود I قال: (أكبر الكبائر: الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله) رواه عبد الرزاق)
قوله: (القنوط من رحمه الله)
قال في القول المفيد: «المراد بالقنوط أن يستبعد رحمه الله ويستبعد حصول المطلوب والمراد باليأس هنا أن يستبعد الإنسان زوال المكروه وإنما قلنا ذلك لئلا يحصل تكرار في كلام بن مسعود».
وقال في التمهيد لشرح كتاب التوحيد: «القنوط من رحمه الله واليأس من الروح بمعنى واحد لكن يختلفان من حيث ما يتناوله هذا ويتناوله هذا فالقنوط من رحمه الله عام لأن الرحمة أعم من الروح والرحمة تشمل جلب النعم ودفع النقم وروح الله جل وعلا يطلق في الغالب في الخلاص من المصائب وعليه فيكون قوله «واليأس من روح الله» من عطف الخاص على العام»
35-بــاب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله
الصبر في الاصطلاح: حبس النفس عن الجزع واللسان عن التشكي والسخط والجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب ونحوها.
الصبر ثلاثة أقسام:
1- صبر على طاعة الله: قال الله تعالى ﱩ ¡ ¢ £ ¤ ¥¦ § ¨ ©ª « ¬® ¯ ° ± ﱨ [طه:132]
2- صبر عن معصية الله: قال الله تعالى عن يوسف عليه السلام: ﱩ Y Z [ \ ] ^ _ `a b c d e f g h i jﱨ [يوسف:33] فصبر عليه السلام عن فعل المعصية.
3- صبر على أقدار الله المؤلمة: قال تعالى ﱩ ½ ¾ ¿ À Á Â Ã ﱨ [الأحقاف:35] لأن هذا صبر على تبليغ الرسالة وعلى أذى قومه، ومنه قوله ﷺ لابنته J: «مرها فلتصبر ولتحتسب» متفق عليه.
مناسبة الباب لكتاب التوحيد:
لما كان الصبر على المصائب قليلاً في الناس أفرد له الشيخ رحمه الله تعالى هذا الباب لبيان أنه من كمال التوحيد وأن الواجب على العبد أن يصبر على أقدار الله لأن تسخط العباد وعدم صبرهم كثيراً ما يظهر في حال الابتلاء بالمصائب.
وخص المؤلف رحمه الله تعالى في هذا الباب الصبر على أقدار الله لأنه مما يتعلق بتوحيد الربوبية، لأن تدبير الخلق والتقدير عليهم من مقتضيات ربوبية الله تعالى.
قوله: (باب من الإيمان الصبر ....) أي من خصال الإيمان وشعبه الصبر على أقدار الله تعالى.
وقوله: (على أقدار الله) جمع قدَر، وتطلق على المقدور، وعلى فعل المقدِّر وهو الله عز وجل، وبالنسبة لفعل المقدِّر فيجب على الإنسان الرضا به والصبر، وبالنسبة للمقدور فيجب عليه الصبر ويُستحب له الرضا.
مثال ذلك: قدَّر الله على سيارة شخص أن تحترق، فكون الله قدَّر ذلك هذا قدَر يجب على الإنسان أن يرضى به؛ لأنه من تمام الرضى بالله رباً؛ وتركه محرم، ومناف لكمال التوحيد الواجب.
وأما بالنسبة للمقدور الذي هو احتراق السيارة فالصبر عليه واجب، والرضا به مستحب، وهو رتبة الخاصة من عباد الله عز وجل.
(وقول الله تعالى: ( ومن يؤمن بالله يهد قلبه))
قال الله تعالى: ﱩ . / 0 1 2 3 45 6 7 8 9 :; < = > ? @ ﱨ أي ما أصاب جل وعلا من مصيبة إلا بإذن الله أي بقدره وأمره.
ﱩ Ë Ì Í ﱨ أي يمتثل أمره ويجتنب نهيه ويؤمن بقدره.
ﱩ 9 :; ﱨ للطمأنينة والصبر، ويجازيه الله تعالى بهداية قلبه، أي هداية التوفيق للخير، وقد يخلف عليه أيضاً في الدنيا ما أخذه منه أو خيراً منه.
(قال علقمة: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله، فيرضى ويسلم)
علقمة هو من كبار التابعين وأجلائهم وهو علقمة بن قيس بن عبد الله النخعي الكوفي رحمه الله تعالى.
وهذا التفسير من علقمة رحمه الله تعالى للإيمان تفسير باللازم؛ لأن لازم الإيمان الراسخ في القلب أن يعلم أن التقدير من الله تعالى فيرضى ويُسلِّم.
(وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة I، أن رسول الله ﷺ قال: (اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت))
أي هاتان الخصلتان هما كفر قائم في الناس ولكن ليس من قام به شعبة من شعب الكفر يكون كافراً الكفر المطلق حتى يقوم به حقيقة الكفر.
الشاهد منه قوله: (النياحة على الميت) النياحة: هي البكاء والنَّدب برفع صوت ورنَّة، فيبكي الإنسان على الميت على صفة نوح الحمام.
والنَّدْب: هو تعداد محاسن الميت بحرف النُّدبة، وهو «وا» فيقول: واسيداه، واجبلاه، ونحوه.
وهذا يدل على التسخط على القدر والجزع المنافي للصبر الواجب.
وجه الدلالة: أن النياحة مخالفة للصبر والصبر الواجب فيه حبس الجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب وحبس اللسان عن التشكي والعويل وهذا هو النياحة فهي إذاً محرمة وإذا كانت محرمة فدل ذلك على وجوب الصبر على أقدار الله تعالى.
الناس حال المصيبة على مراتب أربع:
1- التسخط: وهو إما أن يكون بالقلب كأن يسخط على ربه ويغضب على قدر الله وقد يؤدي إلى الكفر.
وقد يكون باللسان كالدعاء بالويل والثبور وما أشبه ذلك، وقد يكون بالجوارح كلطم الخدود ونحو ذلك.
2- الصبر: وهو واجب كما تقدم.
3- الرضا: وهو أعلى من الصبر وهو أن يكون الأمران عنده سواء بالنسبة لقضاء الله وقدره وإن كان قد يحزن من المصيبة فالكل عنده سواء لا لأن قلبه ميت بل لتمام رضاه بربه سبحانه وتعالى وهذا الفرق بين الرضا والصبر.
قال طائفة من السلف: إن الراضي لا يتمنى غير حاله التي هو عليها بخلاف الصابر.
4-الشكر: وهو أعلى المراتب، أن يشكر الله على ما أصابه من مصيبة، وذلك يكون من عباد الله الشاكرين حين يرى أن هناك مصائب أعظم منها، وأن مصائب الدنيا أهون من مصائب الدين، وأن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وأن هذه المصيبة سبب لتكفير سيئاته وربما لزيادة حسناته، فيشكر الله على ذلك، قال النبي ﷺ: «ما يصيب المؤمن من هم ولا غم ولا شيء إلا كفر الله بها حتى الشوكةِ يشاكها» متفق عليه.
(ولهما عن ابن مسعود مرفوعاً: (ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية))
قوله: (ليس منا) هذا من نصوص الوعيد، وهو يدل على أن الفعل من الكبائر.
قوله: (من ضرب الخدود) العموم يراد به الخصوص أي من ضرب الخدود لأجل المصيبة.
وخص الخد بذلك لكونه الغالب وإلا فضرب بقية الوجه مثله.
قال الشيخ سليمان رحمه الله تعالى: «بل لو ضرب غير الوجه كالصدر فكما لو ضرب الخد، فيدخل في معنى ضرب الخد، إذ الكل جزع مناف للصبر فيحرم».
قوله: (وشق الجيوب) الجيب هو فتحة الثوب التي يدخل منها الرأس، فيشقه عند المصيبة تسخطاً، سواء شقه كله أو بعضه.
وليس ذلك خاصاً بالجيب بل شق الكم وغيره داخل في ذلك لحديث أبي موسى I أن رسول الله ﷺ برئ من الصالقة (من ترفع صوتها) والحالقة والشاقة (من تشق ثوبها).
قوله: (ودعا بدعوى الجاهلية) المقصود كل دعوى منشؤها الجهل فيدخل في ذلك ندب الميت كقولهم: واجبلاه وكذا الدعاء بالويل والثبور كقولهم: واويلاه.
وروى ابن ماجة 1585 عن أبي أمامة I: «أن رسول الله ﷺ لعن الخامشة وجهها والشاقة جيبها والداعية بالويل والثبور».
وهذه المذكورات الثلاث في الحديث إنما ذكرت لأنها غالباً ما تكون عند المصيبة وإلا فمثلها هدم البيوت وكسر الأواني وإتلاف الطعام ونحو ذلك مما فيه تسخط وترك للصبر الواجب.
وجه الدلالة من الحديث للباب:
أن ترك الصبر وإظهار التسخط كبيرة من الكبائر، وترك الصبر مناف لكمال التوحيد الواجب.
(وعن أنس I، أن رسول الله ﷺ قال: (إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة))
قوله: (إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا)
الله عز وجل يريد بعبده الخير والشر ولكن الشر الذي يريده الله عز وجل بعبده ليس شراً محضاً لقوله ﷺ فيما رواه مسلم: «والشر ليس إليك» لأن الله عز وجل يريد الشر بالعبد لحكمة وحينئذ لا يكون شراً في الحقيقة وإنما هو خير للعبد وإن كان العبد يراه شراً بالنسبة إليه.
وقوله: (عجل له العقوبة في الدنيا) أي يؤاخذه بذنبه في الدنيا بأن يصاب بالمصائب.
والمصيبة إن كانت بسبب المعصية فهي عقوبة وإن كانت بدون معصية (وهذا نادر) فهي امتحان للعبد أيصبر أم لا؟.
وتعجيل العقوبة في الدنيا يكون بالمصائب التي يقدرها الله تعالى على العبد جزاء ذنوبه التي اقترفها فيخرج من الدنيا وليس عليه ذنب يوافى به يوم القيامة، وهذا لطف من الله تعالى بعبده
فروى البخاري في الأدب المفرد 494 عن أبي هريرة I عن النبي ﷺ قال: «لا يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في جسده وأهله وماله حتى يلقى الله عز وجل وما عليه خطيئة».
قوله: (وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه) أي أخَّر عنه العقوبة على ذنوبه.
قوله: (حتى يوافي به يوم القيامة) أي يجازيه به يوم القيامة.
وجه الدلالة من الحديث للباب:
أن هذا الحديث فيه تسلية الإنسان عند المصائب فإنه إذا استحضر، أنها تكفير لذنوبه وأنها خير له فإنه يَعظُم عنده الصبر ولا يجزع ولا يتسخط على ربه جل وعلا، بل يُسلِّم أمره لله تعالى ويرضى بقضائه.
(وقال النبي ﷺ: (إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضي، ومن سخط فله السخط) حسنه الترمذي)
قوله: (إن عِظَمَ الجزاء مع عظم البلاء) المعنى أن البلاء كلما كان أشد وصبر العبد كان الجزاء أعظم.
ولما كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أعظم الناس جزاء كانوا أشد الناس بلاءً.
قوله: (وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم) أي اختبرهم بأنواع المصائب.
وهذا صريح في حصول الابتلاء لمن يحبه الله تعالى ولهذا ابتلي الأنبياء والصالحون ومن سار على طريقتهم لينالوا بذلك الثواب العظيم وليتأسى بهم الناس في ذلك ويعلموا أن الأنبياء بشر تصيبهم المحن والبلايا فلا يعبدوهم.
قوله: (فمن رضي فله الرضى) أي من رضي بما قضاه الله وقدره عليه من الابتلاء فله الرضى من الله تعالى.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى: والمراد بالرضا الرضا بقضاء الله من حيث إنه قضاء الله وهذا واجب بدليل قوله: «ومن سخط» فقابل الرضى بالسخط وهو عدم الصبر على ما يكون من المصائب القدرية والكونية».
قوله: (ومن سخط فله السخط) أي من سخط أقدار الله تعالى وكرهها ولم يرض بها فله السخط من الله تعالى.
36-بــاب ما جاء في الرياء
أي من الوعيد.
مناسبة الباب لكتاب التوحيد:
لما كان خلوص العمل من الشرك والرياء شرطاً في قبوله لمنافاة الشرك والرياء للتوحيد نبه المصنف رحمه الله تعالى على ذلك تحقيقاً للتوحيد.
الرياء على درجتين: رياء المنافقين بأن يظهر الإسلام ويبطن الكفر لأجل رؤية الخلق وهذا مناف للتوحيد من أصله وكفر أكبر بالله جل وعلا وشرك أكبر.
قال جل وعلا في وصف المنافقين: ﱩ T U V W X Y Zﱨ
الثانية: أن يكون من مسلم يرائي بعمله أو ببعض عمله فهذا شرك أصغر خفي مناف لكمال التوحيد الواجب.
ومن صور الرياء أن يرائي بلباسه فيلبس لباس الصالحين ليظهر أمام الناس أنه منهم، وقد يحرص البعض على إبراز أثر السجود على جبهته.
وقد يكون رياؤه بالنطق بالحكمة وإقامة الحجة عند المجادلة، وحفظ الحديث وبيان الحجة والفهم، وإظهار العلم، والذكر لله عز وجل باللسان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وحسن الصوت بالقراءة وإظهار التسخط على أهل الدنيا.
وقد يرائي بعمله بأن يطول الصلاة ويزيد في الركوع والسجود أو يرائي في الصوم وبذل المال وطول الصمت.
وقد يرائي بصحبة العلماء فيحرص على مصاحبة العالم الفلاني ليقال إنه يصاحب العلماء.
مسألة: ترك العمل خوفا من الرياء:
بعض الناس إذا أراد فعل الطاعة عرض له الشيطان بأنه ما عمل هذه الطاعة إلا رياء فيخشى من الرياء فيُعرض عن الطاعة خشيةً من الرياء وهذا هرب من شر فوقع فيما هو شر منه وهو من مكائد الشيطان الخفية.
فمن عرض له مثل هذه الوساوس فلا يلتفت إليها وإنما يمضي في الطاعة إغاظة للشيطان ولو أن الإنسان استسلم للشيطان في هذا الأمر لاعترض الشيطان له بذلك عند كل عمل بالخطرات بالرياء فيدع كل طاعة.
(وقول الله تعالى: ﱩ Ö × Ø Ù Ú Û Ü Ý Þ ß àá ﱨ الآية)
الشاهد في قوله: ﱩ â ã ä å æ ﱨ المراد من كان يؤمل أن يلقى ربه والمراد اللقيا الخاصة بالمؤمنين، وهو لقاء الرضا والنعيم.
وقوله: ﱩ ç è é ﱨ أي من كان يرجو لقاء الله تعالى على الوجه الذي يرضاه فليعمل العمل الصالح.
والعمل الصالح يشترط فيه شرطان: أن يكون خالصاً صواباً.
فالخالص هو المراد به وجه الله تعالى ويقابله الرياء والعجب والسمعة.
والصواب ما كان على وفق الشريعة.
وقوله: ﱩ ê ë ì í î ï ﱨ أي كائناً من كان لأن (أحدا) نكرة في سياق النهي فتعم.
والرياء من الشرك الأصغر والآية عامة في الشرك كبيره وصغيره.
وبعض أهل العلم يسمي الرياء بالشرك الخفي لأنه ليس بظاهر وإنما هو باطن خفي في قلب العبد وبعضهم يسميه شركا أصغر لأنه غير مخرج من الملة وكلا الإطلاقين صواب.
(عن أبي هريرة مرفوعاً: (قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه). رواه مسلم)
هذا الحديث حديث قدسي.
قوله: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك)
المرائي يقصد بعمله الله تعالى وغيره فيكون قد جعل لله تعالى شريكاً في العبادة، فلا يليق بغناه التام وكرمه أن يقبل العمل الذي جُعل له فيه شريك. لأنه سبحانه وتعالى لا يقبل من العمل إلا الخالص لوجهه سبحانه.
وقوله: (من عمل عملاً) نكرة في سياق الشرط فتعم أي عمل.
وقوله: (تركته وشركه) أي لم أثبه على عمله الذي أشرك فيه.
وقد يصل هذا الشرك إلى حد الكفر فيترك الله جميع أعماله لأن الشرك يحبط الأعمال إذا مات عليه.
(وعن أبي سعيد مرفوعاً: (ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟) قالوا: بلى يا رسول الله! قال: (الشرك الخفي، يقوم الرجل فيصلي، فيزيّن صلاته، لما يرى من نظر رجل). رواه أحمد)
قوله: (ألا أخبركم) ألا: أداة عرض والغرض منها تنبيه المخاطب.
قوله: (بما هو) ما هنا اسم موصول بمعنى الذي.
قوله: (أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قالوا: بلى قال: الشرك الخفي ..)
فتنة المسيح الدجال من أعظم الفتن ومع ذلك خاف النبي ﷺ الشرك الخفي على الأمة أكثر من خوفه عليهم من المسيح الدجال وذلك لأن أمر الدجال ظاهر بيَّن والنبي ﷺ بيَّن ما في شأنه وبين صفته وحذر الأمة منه وأمر بالاستعاذة منه في آخر كل صلاة.
أما الرياء فإنه يصعب التخلص منه، وذلك لخفائه وقوة الداعي إليه وعسر التخلص منه لما يزينه الشيطان للعبد من حب المحمدة عند الناس.
ولهذا قال بعض السلف: ما جاهدت نفسي مجاهدتها على الإخلاص.
وقوله: (الشرك الخفي) الشرك قسمان خفي وجلي.
أما الجلي فيكون ظاهراً بالقول أو العمل كالحلف بغير الله تعالى والذبح لغير الله تعالى ونحو ذلك.
أما الخفي فهو الذي في القلب لا يطلع عليه أحد إلا الله تعالى فصاحب الشرك الخفي يُظهر عمله لله تعالى ويخفي في قلبه أنه لغيره.
وقوله: (يقوم الرجل فيزين صلاته ...) وهذا يعم الرجل والمرأة.
وفي هذا الحديث الحذر من الرياء؛ لأن النبي ﷺ إذا كان يخاف الرياء على أصحابه مع علمهم وفضلهم فغيرهم أولى بالخوف.
37- باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا
قوله: (من الشرك) أي بعض الشرك، والمراد به الشرك الأصغر، أي أن يعمل الإنسان العمل الصالح ولا يريد به ثواب الآخرة، وإنما يريد به ثواب الدنيا.
وعلى هذا يكون هذا الباب أعم من الباب قبله (باب الرياء) لأن الرياء حالة واحدة من أحوال إرادة الإنسان بعمله الدنيا، فالمرائي يصلي أو يزين صلاته لأجل رؤية الناس له ومدحهم إياه، وهناك أحوال أخرى لإرادة الناس بعملهم الصالح الدنيا، كإرادة المال أو الوظيفة أو الصحة في بدنه وأهله ونحو ذلك، وإنما جاءت النصوص بتخصيص الرياء والتحذير منه لأن وقوعه في الأمة أكثر، والخوف منه ينبغي أن يكون أعظم.
ومن الأمثلة على إرادة الإنسان بعمله الدنيا:
1- أن يريد المال كمن أذَّن أو أمَّ الناس ليحصل على الراتب أو يدرس القرآن أو العلم الشرعي لأجل الراتب ونحو ذلك.
2- أن يريد الوظيفة كمن يطلب العلم ليعين في إحدى الوظائف الشرعية.
3- أن يريد دفع الأذى عنه وعن أهله كمن يتصدق لأجل ذلك أو يساعد المحتاج لأجل ذلك.
والمقصود أنه يريد بعمله الصالح ثواب الدنيا، بمعنى أن الذي بعثه على العمل الصالح هو الدنيا مع غفلته عن ثواب الآخرة فهذا من الشرك الأصغر.
وبناءً على ذلك فيمن يدرس في المعاهد والكليات الشرعية وليس له غرض سوى الدنيا، من حصول وظيفة ونحوها فهذا يدخل في هذا الباب ويكون عمله شركا أصغر.
أما من دخل هذه المعاهد والكليات الشرعية ونوى بذلك نية صالحة، كمن ينوي أن يتخذ الشهادة وسيلة لنشر العلم والدعوة وغيرها من المجالات النافعة، فهذا مثاب إن شاء الله تعالى، خاصة أن حصول النفع من طالب العلم قد لا يتأتى على الوجه المطلوب في هذا العصر إلا بهذه الشهادات.
وقول الله تعالى: ﱩ G H I J K L M N O P Q R S T U V W X Y Z [ \ ]^ _ ` a b c d e f ﱨ الآيتين)
قوله تعالى: ﱩ G H I J K L M N O P Q R S T U ﱨ [هود: ١٥]
الحياة الدنيا: المراد من كان يريد بعمله ثواب الحياة الدنيا.
وزينتها: من المال والبنون والنساء.
نوفِّ إليهم أعمالهم فيها: أي يعطون ما يريدون من الدنيا ثواباً على أعمالهم من الصحة والمال والولد ...
وهم فيها لا يبخسون: لا ينقصون فيعطون ما أرادوا من الدنيا.
لكن هذه الآية مخصوصة بقوله تعالى في سورة الإسراء: ﱩ ! " # $ % & ' ( ) * + , - . / 0 1 2 3 ﱨ [الإسراء: ١٨]
وهذه الآية نزلت في الكفار فهم الذين يريدون بأعمالهم أصلاً الدنيا أي بجميع أعمالهم ولهذا قال عز وجل بعد هذه الآية: ﱩ V W X Y Z [ \ ]^ _ ` a b c d e f g ﱨ [هود: ١٦]
لكن هذه الآية يدخل في لفظها كل من أراد الحياة الدنيا بعمله الصالح؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالمسلم الذي يشارك الكافرين في هذه الخصلة يحبط عمله الذي عمله للدنيا أما أصل الإيمان الذي معه والذي أراد به وجه الله تعالى فإنه لا يكون حابطاً.
والأعمال التي يعملها العبد ويستحضر فيها ثواب الدنيا على قسمين:
1- أن يكون العمل مما لم يرغب الشرع فيه بذكر ثواب الدنيا مثل الصلاة والصيام ونحو ذلك فهذا لا يجوز أن يريد به الدنيا مطلقاً ولو أراد به الدنيا فإنه مشرك شركا أصغر.
2- أن يكون العمل مما رتب عليه الشارع ثواباً في الدنيا مثل صلة الرحم ففي الحديث: «من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه».
فهذا إذا أراد بعمله (صلة الرحم) الثواب الدنيوي فقط، ولم يُرِد الثواب الأخروي فهو داخل في الوعيد وهو من أنواع الشرك الأصغر، وإن أراد الثواب الدنيوي والأخروي معاً فهذا لا بأس به، لأن الشرع ما رغب فيه بذكر الثواب في الدنيا إلا للحض عليه كما قال ﷺ: «من قتل قتيلاً فله سلبه». فمن قتله يريد بذلك الجهاد في سبيل الله مع إرادة السلب فلا بأس بذلك، ولا يدخل فيما ذكره السلف في هذه الآية.
والأكمل ألا يريد بعمله إلا الثواب الأخروي فقط.
(وفي الصحيح عن أبي هريرة I قال: قال رسول الله ﷺ: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع ).
قوله: (في الصحيح) أي صحيح البخاري.
«تعس»: أي هلك، وقيل: شقي.
«عبد الدينار»: سماه عبد الدينار لأنه تعلق به تعلقا عظيما، فكان أكبرَ همه وقدَّمه على طاعة الله، وكذلك يقال في: «تعس عبد الدرهم».
أراد النبي ﷺ أن يبين أن من الناس من يعبد المال ويتذلل له ولا يريد بعمله إلا الدنيا.
فكيف بمن أراد بالعمل الصالح شيئاً من الدنيا فجعل الدين وسيلة للدنيا فهذا أعظم.
«تعس عبد الخميصة»: هي ثوب خز أو صوف معلم.
والخميلة: القطيفة وهي ثوب له خمل من أي شيء كان.
فهذا فيمن يُعنى بلباسه ومظهره، ولا هم له إلا هذا الأمر، فهو عابد له.
(إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط).
أي إن أعطي من المال رضي، وإن لم يعط شيئا من المال سخط، لأنه عبد للمال يرضى ويسخط لأجله.
قوله: (تعس، وانتَكَس) أي انتكست عليه الأمور بحيث لا تتيسر له.
قوله: (وإذا شِيك فلا انتَقَش) أي أصابته شوكة فلا يستطيع أن يزيل ما يؤذيه عن نفسه.
وهذه الجمل الثلاث الأخيرة يحتمل أن تكون خبراً عن حال هذا الرجل وأنه في تعاسة وانتكاس وعدم خلاص من الأذى ويحتمل أن تكون من باب الدعاء على من هذه حاله.
قوله: (طوبى لعبدٍ آخذ بعنان فرسه في سبيل الله)
قيل طوبى شجرة في الجنة وقيل المعنى: أطيب حال تكون لهذا الرجل.
(آخذٍ بعِنان فرسه) أي ممسك بمقود فرسه في الجهاد.
(في سبيل الله) إشارة إلى الإخلاص.
(أشعثَ رأسه مغبرةٍ قدماه) أي هو مغبر الرأس والقدمين نتيجة السير في سبيل الله تعالى.
فهو لا يهتم بحاله وإنما أهم شيء عنده هو الجهاد في سبيل الله تعالى.
(إن كان في الحراسة كان في الحراسة وإن كان في الساقة كان في الساقة)
الحراسة هي حماية الجيش من أن يهجم عليه عدو.
والساقة هي مؤخر الجيش.
فهو ممتثل بما يؤمر به ويقوم به أحسن قيام.
(إن استأذن لم يؤذن له) بحيث إذا استأذن على الأمراء ونحوهم لم يأذنوا له لأنه ليس بذى جاه عندهم.
(وإن شفَع لم يُشفَّع) أي إن شفع لم تقبل شفاعته لعدم مكانته وشرفه.
وفي هذا إشارة إلى عدم التفاته إلى الدنيا وأربابها بحيث لا يبتغي مالاً ولا جاهاً عند الناس بل يكون عند الله وجيهاً، وفي صحيح مسلم أن النبي ﷺ قال: «رب أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره».
وفي هذا الحديث ترك حب الرياسة والشهرة وفضل الخمول والتواضع.
38-باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله فقد اتخذهم أرباباً من دون الله
مناسبة الباب لكتاب التوحيد:
أن الطاعة هي العبادة، فإنها طاعة الله بامتثال ما أمر به، لذا نبه المصنف رحمه الله تعالى بهذه الترجمة على وجوب اختصاص الخالق تبارك وتعالى بها، وأنه لا يطاع أحد من الخلق إلا حيث كانت طاعته مندرجة تحت طاعة الله وإلا فلا تجب طاعة أحد من الخلق استقلالاً.
قوله: (من أطاع): المقصود هنا الطاعة الخاصة في تحريم الحلال أو تحليل الحرام فمن أطاع مخلوقاً في ذلك غير رسول الله ﷺ فهو مشرك كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
قوله: (في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله) وهذا لا يجوز؛ لقوله تعالى: ﱩ { | } ~ ¡ ¢ £ ¤ ¥ ¦ § ¨ ©ª « ¬ ® ¯ ° ± ² ³ ´ ﱨ [النحل: ١١٦]
قوله: ﱩ O ﱨ: جمع رب وهو المتصرف المالك.
فمن اتخذ العلماء والأمراء أرباباً من دون الله من جهة كونهم مشرعين فهو مشرك الشرك الأكبر، لأن التشريع مختص بالله تعالى لا يشاركه فيه أحد من الخلق، فمن جعل لأحد من الخلق حق التشريع وتحليل الحرام وتحريم الحلال فإنه يكون مشركاً في الطاعة لأن الطاعة عبادة كما تقدم.
حتى طاعة الرسول ﷺ فإنما هي تابعة لطاعة الله جل وعلا لأن الله جل وعلا الذي أمر بطاعته كما قال سبحانه: ﱩ ! " # $ % &' ﱨ [النساء: 80]
وقوله: (في تحريم ما أحل الله) يعني أن ما أحل الله جل وعلا يجعلونه حراما فيعتقد الناس أنه حرام، كما لو كان الله تعالى هو الذي حرمه، فلو قال العلماء أو الأمراء إن الخبز أكله حرام فيطيعونهم ويعتقدون حرمته مع علمهم أن الله تعالى أحله، فهذا شرك في الطاعة، وهو شرك أكبر مخرج من الملة، وبالعكس لو أحلوا الحرام فقالوا إن الخمر حلال فاعتقد الناس إباحتها مع علمهم أن الله تعالى حرمها فيكون شركا في الطاعة.
(وقال ابن عباس: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله ﷺ، وتقولون: قال أبو بكر وعمر؟!)
هذا الأثر رواه الإمام أحمد 3120 ولفظه: «أراهم سيهلكون أقول قال النبي ﷺ ويقول: نهى أبو بكر وعمر»
قوله: (يوشك) أي يقرُب، وهذا الكلام قاله ابن عباس L فيمن ناظره في متعة الحج، وكان ابن عباس يأمر بها، فاحتج عليه المناظر بنهي أبي بكر وعمر L، أي كأنه يقول له: هما أعلم منك وأحق بالاتباع، فقال له هذا الكلام الصادر عن إيمان ومتابعة للرسول ﷺ وإن خالفه من خالفه كائناً من كان.
فإذا كان هذا كلام ابن عباس L لمن عارضه بأبي بكر وعمر L وهما أفضل هذه الأمة بعد نبيها عليه أفضل الصلاة والسلام، فما تظنه يقول لمن يعارض سنن الرسول ﷺ بإمامه وصاحب مذهبه الذي ينتسب إليه؟ ويجعل قوله هو الحاكم على الكتاب والسنة، فإذا وافق الكتابُ والسنة قولَ إمامه أو مذهبه قبله، وإن لم يوافقه تأوله.
فلا يجوز معارضة الكتاب والسنة بعد فهم معناها بأقوال العلماء المخالفة لهما، أما العالم المخالف لهما فإن عُلم منه محبة الخير وأنه مريد للحق لكنه لم يوفق له فهذا يدعى له بالمغفرة ويلتمس له العذر لأنه مأجور على اجتهاده، وأما من عُرف تعصبه لمذهبه المخالف للدليل الواضح عنده بلا معارض فهذا آثم.
(وقال الإمام أحمد: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته، يذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك)
قوله: (عجبت): هذا عجب إنكار.
(عرفوا الإسناد وصحته) أي عرفوا رجال الإسناد للحديث وأنه صحيح.
(سفيان) هو ابن سعيد الثوري أحد الأئمة وكان له مذهب مشهور وأصحاب وأتباع لكنهم انقرضوا، فهؤلاء يأخذون برأي سفيان ويتركون الحديث الصحيح.
لأن سفياناً رحمه الله تعالى وإن كان عالماً صالحاً إلا أنه ليس بمعصوم فقد يخالف الدليل لعذر فلا يحل اتِّباعه فيما أخطأ فيه لمن عرف الحق.
(والله تعالى يقول: ﱩ ] ^ _ ` a ﱨ )
الضمير في قوله (أمره) أي أمر النبي ﷺ.
ﱩ b c d e f g h i ﱨ والفتنة الشرك كما فسرها الإمام أحمد بقوله: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك.
إذا رد بعض قول النبي ﷺ لقول أحد يُخشى عليه أن يعاقب، فيقع في قلبه زيغ، كما قال الله عز وجل عن اليهود: ﱩ º » ¼ ½ ¾¿ ﱨ [الصف: 5]
فهم زاغوا بمحض إرادتهم واختيارهم مع بيان الحجج وظهور الدلائل والبراهين، فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم عقوبة منه لهم على ذلك، وهذا معنى قوله: ﱩ ] ^ _ ` a b c d ﱨ .
(عن عدي بن حاتم: أنه سمع النبي ﷺ يقرأ هذه الآية: ﱩ ¨ © ª « ¬ ® ¯ ﱨ الآية. فقلت له: إنا لسنا نعبدهم قال: (أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلّون ما حرم الله، فتحلونه؟) فقلت: بلى. قال فتلك: عبادتهم) رواه أحمد، والترمذي وحسنه)
قوله: ﱩ ° ﱨ أي النصارى وقيل المراد اليهود والنصارى ويختص النصارى باتخاذ المسيح عليه السلام وهذا هو المتبادر من السياق مع الآية التي قبلها.
ﱩ © ﱨ الأحبار جمع حَبْر وهو العالم الواسع العلم، والرهبان جمع راهب وهو العابد الزاهد.
قوله: ﱩ O ﱨ يعني آلهة معبودين، وذلك لأن عدياً I فهم من قوله: ﱩ O ﱨ أنهم معبودون فقال: (إنا لسنا نعبدهم) أي لا نعبد الأحبار والرهبان فلا نسجد لهم ولا ننذر لهم ولا نذبح لهم .... إلخ.
فقال له النبي ﷺ: «أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلون ما حرم الله فتحلونه» فقلت: بلى قال: «فتلك عبادتهم».
وطاعة العلماء والأمراء في التحليل والتحريم على درجتين:
1- أن يطيعهم في تبديل الدين يعني جعل الحلال حراماً والحرام حلالاً وهو يعلم حكم الله تعالى في ذلك، لكن أطاعهم تعظيما لهم فحلل ما حللوه وهو يعلم أن الله تعالى حرمه، يعني اعتقد أنه حلال وهو حرام في نفسه، أو حرم حلالا تبعا لتحريمهم وهو يعلم أنه حلال في الشرع، فهذا يكون قد تبع العلماء والأمراء في تبديل أصل الدين، فهذا هو الذي اتخذهم أربابا من دون الله، وهو كفر وشرك أكبر حيث صرف عبادة الطاعة لغير الله تعالى.
2- أن يطيع العالم أو الأمير ونحوهما في تحريم الحلال أو تحليل الحرام من جهة العمل، فيطيعهم في تحليل الحرام وهو يعلم أنه عاص لكن تبعهم في فعل الحرام أو تحريم الحلال وقلبه لم يجعل الحرام في الشرع حلالا ولم يجعل الحلال في الشرع حراما، ولكنه أطاعهم في ذلك حبا للمعصية أو حبا في مجاراة أولئك الأمراء أو العلماء، فهو لم يبدل الدين، فهذا له حكم أمثاله من أهل الذنوب وليس شركا أكبر.
39-بــــاب قول الله تعالى: (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم ءامنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضللاً بعيدا ) الآيات.
مناسبة الباب لكتاب التوحيد:
أن توحيد الله تعالى في الطاعة وتحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله لا يكون إلا بأن يكون العباد محكمين لما أنزل الله تعالى على رسوله ﷺ.
فكما أنه جل وعلا لا حُكم إلا حُكمه في ملكوته فكذلك يجب أن يكون لا حكم إلا حكمه فيما يتخاصم فيه الناس وفي الفصل بينهم.
وترك التحاكم إلى شرع الله والتحاكم إلى غيره من القوانين الوضعية وسواليف البادية وأمور الجاهلية قدح في أصل التوحيد وشرك وكفر أكبر مخرج من الملة لأنه مناف لشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فإن من مقتضيات شهادة أن محمداً رسول الله ﷺ أن يطاع فيما أمر وأن يصدق فيما أخبر وأن يجتنب ما نهى عنه وزجر وأن لا يعبد الله إلا بما شرع.
وقوله: ﱩ j k l m ﱨ هذا استفهام للتقرير والتعجب، والخطاب للنبي ﷺ.
ﱩ % ﱨ هذه الكلمة إنما تقال غالباً لمن ادعى دعوى هو فيها كاذب أو منزل منزلة الكاذب لمخالفته لموجبها وعمله بما ينافيها.
فهؤلاء الذين يدّعون أنهم آمنوا بما أُنزل إلى الرسول ﷺ وما أنزل على الأنبياء عليهم السلام دعواهم كاذبة لا يجتمع الإيمان مع إرادة الحكم والتحاكم إلى الطاغوت.
وقوله: ﱩ / 0 1 2 3 ﱨ هذا ضابط مهم وشرط في نفي أصل الإيمان عمن تحاكم إلى الطاغوت، فإن الذي يتحاكم إلى الطاغوت إن كان بإرادته واختياره فقد انتفى عنه الإيمان وإن كان بغير اختياره كالمكره فلا ينتفي عنه الإيمان.
والمراد بالطاغوت هنا الحكم بغير شرع الله تعالى، أما الطاغوت بالمعنى الأعم فقد حده ابن القيم رحمه الله تعالى بأنه: كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع.
ﱩ 4 5 6 7 89 ﱨ أي يكفروا بالطاغوت.
وقوله: ﱩ : ; < = > ? @ ﱨ دل على أن التحاكم إلى غير شرع الله تعالى من طاعة الشيطان وتسويله.
(وقوله: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ))
يدخل في الإفساد في الأرض المعاصي بأنواعها، وأعظم المعاصي الإشراك بالله تعالى ومن ذلك تحكيم غير شرع الله تعالى، فالأرض إصلاحها بالشريعة والتوحيد، ومنه التحاكم إلى شرع الله، ولا يُتحاكم إلى غيره، وإفسادها بالشرك بأنواعه الذي منه الشرك في الطاعة، ومنه التحاكم إلى غير الشريعة.
(وقوله: ﱩ ¤ ¥ ¦ § ¨ © ﱨ الآية)
هذه الآية يقال فيها ما قيل في الآية السابقة وهو أن التحاكم إلى ما أنزل الله تعالى هو الإصلاح والتحاكم إلى غيره إفساد في الأرض.
(وقوله: ﱩ Ð Ñ ÒÓ ﱨ الآية)
الاستفهام هنا للتوبيخ (حكم) مفعول به مقدم للفعل (يبغون) وقُدِّم لإفادة الحصر.
والمعنى: أفلا يبغون إلا حكم الجاهلية، والإضافة إلى الجاهلية تقتضي التقبيح.
ﱩ Ô Õ Ö × Ø Ù Ú Û ﱨ هذا استفهام بمعنى النفي، أي لا أحد أحسن من الله حكماً وهذا النفي مشرب معنى التحدي فهو أبلغ من صيغة النفي.
وحكم الجاهلية في هذه الآية هو أن يحكم بعضهم على بعض بأن يسن البشر شريعة فيجعلونها حكَماً، والله جل وعلا هو الذي خلق العباد وهو أعلم بما يصلحهم في الفصل بين أقضيتهم وخصوماتهم.
(عن عبد الله بن عمرو L، أن رسول الله ﷺ قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) قال النووي: حديث صحيح، رويناه في كتاب «الحجة» بإسناد صحيح)
قوله: (لا يؤمن أحدكم) أي إيماناً كاملاً إلا إذا كان لا يهوى ما جاء به النبي ﷺ بالكلية فإنه ينتفي عنه الإيمان بالكلية لأنه إذا كره ما أنزل الله فقد حبط عمله لكفره.
والذي جاء به النبي ﷺ هو القرآن والسنة، والهوى في الغالب يطلق على الميل لغير الحق، كما قال تعالى: ﱩ É Ê Ë Ì Í Î Ï Ð Ñ Ò Ó Ô Õ Ö × Ø ÙÚ ﱨ ، وقال تعالى: ﱩ ! " # $ % & ' ( ) ... ﱨ
وقد يطلق الهوى على الميل والمحبة ليشمل الميل للحق وغيره وقد يطلق على الميل للحق خاصة والانقياد إليه كما في هذا الحديث فيكون حينئذٍ محموداً.
وجه الدلالة: أن الرجل لا يؤمن حتى يكون هواه تبعاً لما جاء به رسول الله ﷺ في كل شيء ومن ذلك الحكم وغيره.
(وقال الشعبي: كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومة؛ فقال اليهودي: نتحاكم إلى محمد ـ لأنه عرف أنه لا يأخذ الرشوة ـ وقال المنافق: نتحاكم إلى اليهود ـ لعلمه أنهم يأخذون الرشوة – فاتفقا أن يأتيا كاهناً في جهينة فيتحاكما إليه، فنزلت: ﱩ ! " # $ % ﱨ الآية)
(وقيل: نزلت في رجلين اختصما، فقال أحدهما: نترافع إلى النبي ﷺ، وقال الآخر: إلى كعب بن الأشرف، ثم ترافعا إلى عمر، فذكر له أحدهما القصة. فقال للذي لم يرض برسول الله ﷺ: أكذلك؟ قال: نعم، فضربه بالسيف فقتله)
وجه الدلالة: أن من لم يرض بحكم رسول الله ﷺ فإنه كافر يجب قتله ولهذا قتله عمر I على القول بثبوت الرواية.
40-بــاب من جحد شيئاً من الأسماء والصفات
الجحد هو الإنكار، والمراد به جحد أسماء الله تعالى وصفاته.
وتقدير الكلام: «باب من جحد ...» أي ما حكمه هل هو ناج أم هالك؟
حكم إنكار الأسماء والصفات:
1- إنكار تكذيب وهذا كفر بلا شك فمن أنكر اسماً أو صفة لله تعالى فهو كافر بإجماع المسلمين كمن يقول: ليس لله يد ولا عين ونحو ذلك فهو كافر لأنه مكذب لخبر الله ورسوله ﷺ.
2- إنكار تأويل وهو ألا ينكرها صراحة ولكن يتأولها إلى معنى يخالف ظاهرها، والتأويل هو صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى آخر بدليل. فإن كان الدليل صحيحا فهو تأويل مقبول وإلا فهو فاسد.
وهؤلاء الذين يؤولون نصوص الصفات ويصرفونها عن ظاهرها ليس معهم دليل صحيح فيكون تأويلهم فاسداً وعليه فالحكم عليهم يكون على أقسام:
أ- أن يكون تأويل أحدهم صادراً عن اجتهاد وحسن نية بحيث إذا تبين له الحق رجع عن تأويله فهذا معفو عنه لأنه منتهى وسعه وقد قال الله تعالى: ﱩ§ ¨ © ª « ¬® ¯ ﱨ [البقرة: 286]
ب- أن يكون صادراً عن هوى وتعصب وله وجه في اللغة العربية فهو فسق وليس بكفر إلا أن يتضمن نقصاً أو عيباً في حق الله فيكون كفراً فمثلاً لو قال: ﱩ Á Â Ã ﱨ [المائدة: 64] المراد بيديه السماوات والأرض فهذا كفر لأنه ليس له مسوغ في اللغة فهو منكر ومكذب لكن لو قال المراد باليد هنا النعمة أو القوة فلا يكفر لأن اليد تطلق في اللغة بمعنى النعمة تقول: لفلان علي يد أي نعمة.
ج- أن يكون صادراً عن هوى وتعصب وليس له وجه في اللغة العربية فهذا كفر لأن حقيقته التكذيب حيث لا وجه له فمثلاً لو قال ﱩ [ \ ﱨ [القمر: 14] أي بأراضينا فهذا كفر لأنه ليس له مسوغ في اللغة.
مناسبة الباب لكتاب التوحيد: من عدة جهات:
1- أن توحيد الأسماء والصفات دليل على توحيد العبادة (الألوهية) ووسيلة إليه.
ولهذا من حصل عنده ضلال في توحيد الأسماء والصفات فإن ذلك سيتبعه ضلال في توحيد الألوهية، كما هو الحال عند المبتدعة الذين ألحدوا في أسماء الله تعالى وصفاته من الجهمية والمعتزلة والرافضة والأشاعرة ونحوهم تجد أنهم لما انحرفوا في باب توحيد الأسماء والصفات لم يعلموا حقيقة معنى توحيد الإلهية ففسروا الإله بغير معناه وفسروا لا إله إلا الله بغير معناها الذي دلت عليه اللغة والشرع، لهذا عقد الشيخ رحمه الله تعالى هذا الباب ليبين أن تعظيم الأسماء والصفات من كمال التوحيد وأن جحد الأسماء والصفات مناف لأصل التوحيد.
2- أن من جحد اسماً سمى الله به نفسه أو سماه رسوله ﷺ أو جحد صفة ثابتة لله جل وعلا وثبت ذلك عنده وتيقنه ثم جحدها ونفاها أصلاً فإنه يكون كافرا لأنه مكذب لله ورسوله ﷺ.
3- أن التوحيد لما كان لا يحصل إلا بالإيمان بالله وبأسمائه وصفاته نبه المصنف على وجوب الإيمان بذلك.
(وقول الله تعالى: (وهم يكفرون بالرحمن) الآية)
قال الله تعالى: ﱩ 8 9 :; < = > ? @ A B C D E F G ﱨ [الرعد: 30]
المراد بالضمير (هم) أي كفار قريش أو طائفة منهم والمعنى أنهم يجحدون هذا الاسم لا أنهم يجحدون الله فإنهم يقرون به كما أخبر الله تعالى عنهم.
وفي صحيح البخاري لما أراد النبي ﷺ أن يكتب الصلح في غزوة الحديبية قال للكاتب: أكتب بسم الله الرحمن الرحيم قال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو ولكن أكتب باسمك اللهم.
وقوله: ﱩ 9 :; ﱨ يعني باسم الرحمن.
وجميع الصفات التي تتضمنها الأسماء كلها دالة على كمال الله جل وعلا وعلى عظمته فالعبد المؤمن إذا أراد أن يكمل توحيده فليعظم العناية بالأسماء والصفات لأن معرفة الاسم والصفة يجعل العبد يراقب الله جل وعلا وتؤثر هذه الأسماء والصفات في توحيده وقلبه وعلمه بالله ومعرفته.
وجه الدلالة من الآية للباب:
أن من أنكر اسماً من أسمائه جل وعلا فإنه يكفر لأن الله سبحانه وتعالى سمى جحود اسم من أسمائه كفراً في قوله: ﱩ 8 9 :; ﱨ ولأنه مكذب لله ورسوله ﷺ وهذا كفر.
(وفي صحيح البخاري قال علي: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟))
وقوله: (بما يعرفون) أي بما يفهمون وتبلغه عقولهم حتى لا يفتنوا ولهذا في صحيح مسلم عن ابن مسعود I قال: «قال: «إنك لن تحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة»
وقوله: (أتريدون أن يكذب الله ورسوله) الاستفهام للإنكار لأنك إذا حدثت الناس بما لا يعرفون فقلت: قال الله كذا وكذا أو قال رسوله ﷺ كذا وكانت عقولهم لا يمكن أن تفهم ذلك فإنهم سيقولون: هذا كذب وهم في الحقيقة لا يكذبون الله ورسوله ﷺ ولكن يكذبون بهذا الذي نُسب إلى الله ورسوله ﷺ.
ففي هذا الأثر أن بعض العلم لا يصلح لكل أحد فإن من العلم ما هو خاص ولو كان نافعاً في نفسه ولو كان من أمور التوحيد لأن منها ما يشكل وقد يؤول بصاحبه إلى التكذيب.
وجه الدلالة:
أن من أسباب جحد الأسماء والصفات أن يحدث المرء الناس بما لا يعقلونه من الأسماء والصفات لأن عامة الناس عندهم إيمان إجمالي يصح به توحيدهم وإيمانهم وإسلامهم فالدخول في تفاصيل ذلك غير مناسب لأكثر الناس.
(وروى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس: أنه رأى رجلاً انتفض ـ لما سمع حديثاً عن النبي ﷺ في الصفات، استنكاراً لذلك ـ فقال: (ما فرق هؤلاء؟ يجدون رقة عند محكمه، ويهلكون عند متشابهه) انتهى)
هذا الرجل انتفض استنكاراً لهذه الصفة لأنه فهم من هذه الصفة المماثلة أو التشبيه فخاف من تلك الصفة والواجب على العبد إذا سمع صفة من صفات الله تعالى أن يجريها مجرى جميع الصفات وهو إثباتها لله بلا تكييف ولا تمثيل وإن لم يكن يعلم بها قبل ذلك.
وقوله: (ما فرق هؤلاء ؟) يحتمل وجهين:
1- أن تكون (ما) استفهامية إنكارية و(فرق) بفتح الفاء والراء وهو الخوف والفزع أي ما فزع هذا وأضرابه من أحاديث الصفات واستنكارهم لها؟ والمراد الإنكار عليهم فلماذا لا يثبتون الصفات لله تعالى كما أثبتها جل وعلا لنفسه وأثبتها له رسوله ﷺ.
2- أن يكون (فَرَّقَ) بفتح الفاء وتشديد الراء ويجوز تخفيفها (فَرَقَ) و (ما) تكون نافية أي ما فرَّق هذا وأضرابه بين الحق والباطل ولا عرفوا ذلك.
وقوله: (يَجِدون رقة عند محكمه) الرِّقة ضد القسوة وهي اللين والقبول للمحكم.
والمحكم: هو ما يُعلم معناه.
(ويهلكون عند متشابهه) والمتشابه هو الذي لا يعلم معناه.
فهؤلاء إذا سمعوا في الكتاب أو السنة شيئاً لا تعقله عقولهم هلكوا عنده وخافوا وأولوا ونفوا وهذا من أسباب الضلال.
(ولما سمعت قريش رسول الله ﷺ يذكر: (الرحمن) أنكروا ذلك. فأنزل الله فيهم: ﱩ 8 9 :; ﱨ)
وتقدم ما في البخاري في قصة الحديبية وليس كل قريش تنكر ذلك ولكن إذا أقرت الأمةُ الطائفةَ التى تنكر ذلك ولم تنكر عليها فإن الجميع يكونون كمن أنكر هذه الصفة.
41-بــاب قول الله تعالى: (يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون)
ﱩ , - ﱨ المراد نِعَم الله لأن (نعمة) مفرد مضاف والمفرد المضاف يفيد العموم ويدل لذلك قوله تعالى: ﱩ ' ( ) * + ,- ﱨ [النحل: 18] والنعمة تكون بحصول المطلوب وتطلق أحياناً على رفع المكروه.
ﱩ ` a ﱨ إنكارها هنا المراد به إضافتها إلى غير الله تعالى حيث يضيفونها إلى السبب متناسين المسبب وهو الله جل وعلا، الذي خلق السبب، فوجدت به هذه النعم، وليس المعنى أنهم ينكرون هذه النعم كأن يقولوا: ليس عندنا مطر ولا طعام ولا شراب.
أو يكون إنكارها بأن يقولوا إن هذه النعم من الله، ولكنهم في قلوبهم ينسبونها إلى غيره.
ﱩ b c d ﱨ أي الجاحدون كونها من الله عز وجل، أو المراد الكافرين بالله تعالى.
مناسبة الباب لكتاب التوحيد:
أراد المؤلف رحمه الله تعالى بهذا الباب التنبيه على التأدب مع جناب الربوبية عن الألفاظ الشركية الخفية كنسبة النعم إلى غير الله فإن ذلك باب من أبوب الشرك الخفي.
فالواجب على العبد أن يعلم أن النعم كلها من الله تعالى وأن كمال التوحيد الواجب لا يكون إلا بإضافة كل نعمة إلى الله عز وجل وأن إضافة النعم إلى غيره نقص في كمال التوحيد ونوع شرك بالله تعالى.
فيجب أن تنسب النعم إلى المنعم جل وعلا لا إلى السبب لأن السبب لو أراد الله جل وعلا لأبطل كونه سبباً ولم تنتفع منه بشيء.
(قال مجاهد ما معناه: هو قول الرجل: هذا مالي، ورثته عن آبائي)
قوله: (الرجل) هذا يشمل المرأة أيضاً لو قالت مثل هذا الكلام.
وقوله: (هذا مالي ورثته عن آبائي) هذا منافٍ لكمال التوحيد ونوع شرك لأنه نسب هذا المال إليه وإلى آبائه، وفي الواقع أن هذا المال أنعم الله به على آبائه، ثم أنعم به على هذا الرجل عن طريق الميراث الذي شرعه الله تعالى لعباده، ولهذا ليس للوالد ولا غيره أن يقسم الميراث كيفما أراد لأن المال حقيقة مال الله عز وجل.
فالفضل والمنة كلها من الله تعالى، والواجب شكر الله تعالى على هذه النعمة ونسبتها إليه جل وعلا فمن نسب النعمة إلى غيره متناسياً المسبب (الذي هو الله جل وعلا) فقد وقع في كفر النعمة والشرك الأصغر.
أما من قال هذه العبارة (هذا مالي ورثته عن آبائي) يريد بذلك الخبر المحض كما لو سئل: من أين هذا المال؟ فقال: (هذا مالي ..) فلا شيء في ذلك.
(وقال عون بن عبد الله: يقولون: لولا فلان لم يكن كذا)
عون بن عبد الله هو ابن عتبة بن مسعود الهذلي أبو عبد الله الكوفي ثقة عابد مات سنة 120هـ.
وقوله: (لولا فلان لم يكن كذا) هذا كقول بعضهم: لولا الطيار لذهبنا في هلكة. ولولا أن سائق السيارة كان ماهراً لحصل الحادث. ونحو ذلك من الألفاظ التي فيها تعليق حصول هذا الأمر بهذا السبب، والأمر إنما حصل بقضاء الله وقدره وبفضله ونعمته على عبده، فهو الذي أنعم على عبده بحصول المطلوب أو دفع المكروه وهو الذي أنعم أيضاً بما جعله من الأسباب المؤدية إلى ذلك، وإلا لو شاء سبحانه لسلب هذه الأشياء سببيتها فلا يكون لها أثر وقد يجعل لها معارضاً يقاومها، فتبين بذلك أنه سبحانه هو المنعم وحده دون ما سواه.
ولا يجوز أن يقول: لولا الله وفلان أنقذني لغرقت. لأن إضافة الشيء إلى سببه مقرون بحرف يقتضي التسوية محرم؛ لأنه جعل السبب المخلوق مساوياً لخالق السبب وهذا نوع من الشرك، أما إضافة الشيء إلى سببه المعلوم شرعاً أو حساً بحرف لا يقتضي التسوية كــــــــ «ثم» فجائز.
(وقال ابن قتيبة: يقولون: هذا بشفاعة آلهتنا)
ابن قتيبه هو عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري الحافظ صاحب التفسير والمعارف وغيرها، ومات سنة سبع وستين ومائتين أو قبلها.
وقوله: (يقولون هذا بشفاعة آلهتنا)
هذا يتضمن الشرك مع إضافة النعمة إلى غير الله سبحانه وتعالى فهؤلاء أخبث ممن قبلهم لأنهم جمعوا بين سوأتين فهم مشركون يعبدون غير الله ويتقربون إلى الآلهة بأنواع من القربات لأجل أن تشفع لهم عند الله في حاجاتهم: ﱩ ` a b c d e f ﱨ [الزمر: 3] فإذا حصلت لهم النعمة قالوا هذا بشفاعة آلهتنا وتناسوا المنعم الحقيقي وهو الله جل وعلا.
والله جل وعلا لا يقبل شفاعة آلهتهم لأنها أحقر وأذل من أن تشفع عند الله تعالى لهؤلاء لأنه لا بد في الشفاعة من إذن الله تعالى للشافع ورضاه عن المشفوع له، وشفاعة هؤلاء شفاعة شركية لا يقبلها الله تعالى.
(وقال أبو العباس – بعد حديث زيد بن خالد الذي فيه: (إن الله تعالى قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر..) الحديث، وقد تقدم ـ وهذا كثير في الكتاب والسنة، يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره، ويشرك به)
أبو العباس: هو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
قوله: (وهذا كثير في الكتاب والسنة، يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره، ويشرك به)
وذلك مثل الاستسقاء بالأنواء، وإنما كان هذا مذموما؛ لأنه لو أتى إليك ابن فلان من الناس بهدية من أبيه فشكرت الابن دون الأب، كان هذا سوءَ أدب مع الأب وكفرانا لنعمته.
(قال بعض السلف: هو كقولهم: كانت الريح طيبة، والملاح حاذقاً، ونحو ذلك مما هو جارٍ على ألسنة كثير)
الملاح هو قائد السفينة والمعنى أن السفن إذا جرين بريح طيبة بأمر الله جرياً حسناً نسبوا ذلك إلى طيبة الريح وحذق الملاح في سياسة السفينة ونسوا ربهم الذي أجرى لهم الفلك في البحر رحمة بهم كما قال تعالى: ﱩÁ Â Ã[24] Ä Å Æ Ç È É ÊË ﱨ [الإسراء: 66] فيكون نسبة ذلك إلى طيب الريح وحذق الملاح من جنس نسبة المطر إلى الأنواء.
والواجب شكر الله تعالى على نعمه، ونسبتها إليه سبحانه، فهو المنعم على الحقيقة.
وأركان الشكر ثلاثة، لا يصح الشكر إلا بها:
1- الاعتراف بالنعمة باطناً أي تعترف بقلبك أنها من الله تعالى.
2- التحدث بها ظاهراً كما قال الله تعالى: ﱩ ¨ © ª « ¬ ﱨ ومن ذلك نسبة النعم إلى الله تعالى فيقول الإنسان: هذا من فضل ربي، وهذه من نعمة الله تعالى عليَّ.
3- صرفُ النعم في طاعة الله تعالى، بمعنى أن تستعين بها على طاعة الله فإن استعنت بها على المعصية لم تكن شاكراً لها.
ولا ينافي ذلك الدعاء والإحسان إلى من كان سبباً أو جزء سبب في بعض ما يصل إليك من النعم من الخلق.
42-بــاب قول الله تعالى: (فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون)
الأنداد جمع ند وهو الشبيه والنظير.
والتنديد منه ما هو مخرج من الملة كاتخاذ الأنداد بالشرك الأكبر، ومنه ما لا يخرج من الملة كاتخاذ الأنداد بما دون الشرك الأكبر.
ومعنى الآية النهي لهم عن اتخاذ الأنداد مع الله تعالى، وهم الأمثال والنظراء في العبادة والطاعة، وهم يعلمون أنه سبحانه الخالق لهم وخالق كل شيء، وإذا كان كذلك فهو المستحق أن يعبد وحده.
مناسبة الباب لكتاب التوحيد:
أن من تحقيق التوحيد أن يحترز العبد من الشرك بالله تعالى في الألفاظ وألا يتلفظ بشيء فيه تنديد لله تعالى سواءً كان بنسبة النعم إلى غيره أو بالحلف بغيره أو بقول ما شاء الله وشئت ونحو ذلك من الألفاظ الشركية.
حتى وإن لم يقصد المتكلم بهذه الألفاظ معنى لا يجوز، بل تجري على لسانه ألفاظ من الشرك الأصغر لا يقصدها.
لأن أحاديث النهي عامة مطلقه ليس فيها تفريق بين من قَصَد القسم وبين من لم يقصد. ويؤيد ذلك أن سعد بن أبي وقاص I حلف مرة باللات والعزى ويبعد أن يكون أراد حقيقة الحلف بهما.
وفي القول المفيد: «ولو صح هذا لصح أن يقال لمن فعل شركاً اعتاده لا ينهى لأن هذا من عادته وهذا باطل».
((قال ابن عباس في الآية: الأنداد: هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل؛ وهو أن تقول: والله، وحياتك يا فلان وحياتي، وتقول: لولا كليبة هذا لأتانا اللصوص، ولولا البط في الدار لأتانا اللصوص، وقول الرجل لصاحبه: ما شاء الله وشئت، وقول الرجل: لولا الله وفلان. لا تجعل فيها فلاناً هذا كله به شرك) رواه ابن أبي حاتم)
المعنى أن هذه الأمور خفية على الناس لا يكاد يتفطن لها ولا يعرفها إلا القليل، وضرب المثل لخفائها بما هو أخفى شيء وهو أثر دبيب النمل فإنه خفي، فكيف إذا كان على صفاة؟ وهي الصخرة الملساء فكيف إذا كانت سوداء؟ فكيف إذا كانت في ظلمة الليل؟ وهذا يدل على شدة خفائه على من يدعي الإسلام وعسر التخلص منه.
ولهذا روى البخاري في الأدب المفرد عن معقل بن يسار قال: انطلقت مع أبي بكر الصديق I إلى النبي ﷺ فقال: «يا أبا بكر للشرك فيكم أخفى من دبيب النمل» فقال أبو بكر: وهل الشرك إلا من جعل مع الله إلهاً آخر؟ فقال النبي ﷺ: «والذي نفسي بيده للشرك أخفى من دبيب النمل، ألا أدلك على شيء إن فعلته ذهب عنك قليله وكثيره؟ قال: «قل: اللهم إني أعوذ بك من أن أشرك بك شيئاً وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم»
والشرك منه جلي كالذبح لغير الله وخفي وهو قسمان:
1- شرك المقاصد والنيات لأنه لا يعلم لكونه في القلب كالذي يصلي رياءً.
2- شرك في الألفاظ دون الاعتقاد لأنه لا يعلمه كثير من الناس وهو المذكور هنا.
قوله: (والله وحياتكَ يا فلان)
هذا فيه حلف بغير الله وفيه تشريك مع الله تعالى حيث أضاف قوله إلى الله في القَسَم بحرف الواو المقتضي للمساواة فهذا يكون شركاً.
والحلف بغير الله تعالى يكون شركاً أكبر إن اعتقد الحالف أن المقسم به بمنزلة الله تعالى في التعظيم وإن اعتقد أنه دون الله تعالى في التعظيم فهو شرك أصغر.
وقوله: (وحياتي) فيه حلف بغير الله فهو شرك.
وقوله: (لولا كليبة هذا لأتانا اللصوص ولولا البط في الدار لأتانا اللصوص) وفي بعض النسخ: كَلْبَة هذا.
المعنى أن من الشرك نسبة عدم السرقة إلى الكلبة التي إذا رأت السراق نبحتهم فاستيقظ أهلها وهرب السراق وربما امتنعوا من إتيان المحل الذي هي فيه خوفاً من نباحها فيعلم بهم أهلها.
والبط طائر معروف يُتخذ في البيوت وإذا دخلها غريب صاح واستنكره ومعناه كالذي قبله.
والواجب نسبة ذلك إلى الله تعالى فهو الذي يحفظ عباده ويكلؤهم بالليل والنهار كما قال تعالى: ﱩo p q r s t uﱨ [الأنبياء: 42]
وقد تقدم الكلام على مثل هذه العبارات التي فيها نسبة النعم لغير الله تعالى في الباب السابق.
وأضيف هنا إلى أن الأكمل أن تضاف النعم إلى الله وحده فيقول: لولا الله لما حصل كذا ولا يذكر معه غيره ولهذا قال ابن عباس في آخر هذا الأثر: «لا تجعل فيها فلاناً».
ويجوز أن يقول: «لولا الله ثم فلان فهذه جائزة وهي توحيد وليست شركا لجعله مرتبة فلان نازلة عن مرتبة إنعام الله تعالى ولكن هذا ليس هو الكمال.
أما قوله: لولا الله وفلان فهذا من الشرك كما تقدم لأن الواو تفيد التشريك بين المعطوف والمعطوف عليه دون تراخ في المرتبة.
وقوله: (وقول الرجل ما شاء الله وشئت) سيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى بعد بابين في باب مستقل بهذه العبارة.
والمراد أن هذه العبارة لا تجوز وهي من الشرك لأنه شرَّك غير الله مع الله بالواو فإن اعتقد أنه يساوي الله تعالى في التدبير والمشيئة فهو شرك أكبر، وإن لم يعتقد ذلك واعتقد أن الله تعالى لا يشاركه أحد في التدبير والمشيئة ولا يساويه أحد فهو شرك أصغر وكذلك قوله: (لولا الله وفلان).
وقوله: (لا تجعل فيها فلانا) أي لا تجعل في هذه الكلمة (فلان) بل تقول: لولا الله وحده ولا تقل: لولا الله وفلان. فهو نهي عن ذلك.
وقوله: (هذا كله به شرك) هذا: المشار إليه ما سبق.
كله به أي بالله شرك، وقد تكون من الشرك الأكبر أو الأصغر بحسب ما يقوم في قلب المتكلم بها، وإن كان الغالب أنها من الشرك الأصغر والله تعالى أعلم.
(وعن عمر بن الخطاب I: أن رسول الله ﷺ قال: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) رواه الترمذي وحسنه، وصححه الحاكم)
قوله: (عن عمر) هكذا وقع في الكتاب وصوابه عن ابن عمر كذلك أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم. قاله الشيخ سليمان رحمه الله تعالى في التيسير.
قوله: (من حلف بغير الله) هذا يشمل كل محلوف به سوى الله جل وعلا ولا يشمل الحلف بالصفة لله تعالى لأنها تابعة للموصوف بها جل وعلا. قال في التيسير: «وأجمع العلماء على أن اليمين لا تكون إلا بالله أو بصفة من صفاته».
وقوله: (بغير الله) ليس المراد بغير هذا الاسم، بل المراد بغير المسمى بهذا الاسم، فإذا حلف بالرحمن أو بالسميع ونحوهما فهو من الحلف بالله تعالى.
فالواجب ألا يحلف إلا بالله جل وعلا لأنه المعظم على الحقيقة وأما البشر فليسوا بمعظمين بحيث يحلف بهم، وإن كان البشر يعظمون بشيء يناسب ذاتهم (التعظيم البشري اللائق بهم) أما التعظيم الذي يصل إلى حد يحلف به فهذا إنما هو لله تعالى.
قوله: (فقد كفر أو أشرك) قال في فتح المجيد: «يحتمل أن يكون شكاً من الراوي، ويحتمل أن تكون بمعنى الواو فيكون قد كفر وأشرك، ويكون من الكفر الذي هو دون الكفر الأكبر، كما هو من الشرك الأصغر».
(وقال ابن مسعود: لأن أحلف بالله كاذباً أحب إليّ من أن أحلف بغيره صادقاً)
والتفضيل في قوله: (أحب إلي) من باب التفضيل الذي ليس فيه شيء من الجانبين وهذا نادر في الكلام لأن التفضيل في الأصل يكون فيه المعنى ثابتاً في المفضَّل وفي المفضَّل عليه وأحياناً في المفضل دون المفضل عليه وأحياناً لا توجد في الجانبين، فابن مسعود I لا يحب لا هذا ولا هذا ولكن الحلف بالله كاذباً أهون عليه من الحلف بغيره صادقاً.
فالحلف كاذباً بالله محرم من وجهين:
أولاً: أنه كذب والكذب محرم لذاته.
ثانياً: أن هذا الكذب قرن باليمين، واليمين تعظيم لله عز وجل فإن كان على كذب صار فيه شيء من تنقص الله عز وجل حيث جعل اسمه مؤكداً لأمر كذب ولذلك كان الحلف بالله كاذباً من اليمين الغموس التي تغمس صاحبها في الإثم ثم في النار.
وأما الحلف بغير الله صادقاً فهو محرم من وجه واحد وهو الشرك لكن سيئة الشرك أعظم من الكذب وأعظم من سيئة الحلف بالله كاذباً وأعظم من اليمين الغموس لأن الشرك لا يغفره الله تعالى، والشرك متضمن للكذب فإن الذي جعل غير الله شريكاً لله كاذب بل من أكذب الكاذبين لأن الله لا شريك له.
فابن مسعود I إنما رجح الحلف بالله كاذباً على الحلف بغيره صادقاً لأن الحلف بالله توحيد، والحلف بغيره شرك، وإن قدِّر الصدق في الحلف بغير الله فحسنة التوحيد أعظم من حسنة الصدق وسيئة الكذب أسهل من سيئة الشرك.
وفيه أن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر.
(وعن حذيفة I، عن النبي ﷺ قال: (لا تقولوا: ما شاء الله وشاء فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان) رواه أبو داود بسند صحيح)
سيأتي الكلام علية إن شاء الله تعالى بعد بابين.
(وجاء عن إبراهيم النخعي، أنه يكره أن يقول: أعوذ بالله وبك، ويجوز أن يقول: بالله ثم بك. قال: ويقول: لولا الله ثم فلان، ولا تقولوا: لولا الله وفلان)
(أعوذ بالله وبك) العياذ: الاعتصام بالمستعاذ به عن المكروه.
والواو تقتضي التشريك في الاستعاذة، والاستعاذة لها جهتان جهة ظاهرة وجهة باطنة أما الجهة الباطنة فهي الالتجاء والاعتصام والرغب والرهب وإقبال القلب على المستعاذ به فهذه لا تصلح إلا لله.
والاعتماد في الاستعاذة على المخلوق فيما أقدره الله عليه جائزة.
وقوله: (ويجوز أن يقول: أعوذ بالله ثم بك) لما في (ثم) من الترتيب مع التراخي.
لكن لو قال: أعوذ بالله ثم بفلان وهو ميت فهذا شرك أكبر لأنه لا يقدر على أن يعيذك.
والكراهة في استعمال السلف يراد منها غالباً التحريم.
43- بــاب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله
مناسبة الباب لكتاب التوحيد:
أن الاقتناع بالحلف بالله تعالى من تعظيم الله لأن الحالف أكد ما حلف عليه باليمين واليمين فيها تعظيم للمحلوف به وهو الله جل وعلا، فيكون من تعظيم المحلوف به أن يُصدَّق ذلك الحالف، وعلى هذا يكون عدم الاقتناع بالحلف بالله فيه شيء من نقص تعظيم الله، وهذا ينافي كمال التوحيد.
لأن القلب الممتلئ بمعرفة عظمة الله وجلاله وعزته وكبريائه لا يسعه إلا أن يقنع بالحلف به سبحانه.
(عن ابن عمر L، أن رسول الله ﷺ قال: (لا تحلفوا بآبائكم، من حلف بالله فليصدق، ومن حلف له بالله فليرض. ومن لم يرض فليس من الله)، رواه ابن ماجه بسند حسن)
قوله: (لا تحلفوا بآبائكم) تقدم الكلام عليه في الباب السابق.
وقوله: (من حلف بالله فليصدق) أي وجوباً لأن الصدق واجب ولو لم يحلف بالله فكيف إذا حلف به؟
قوله: (ومن حُلف له بالله فليرض) أي وجوباً ويدل عليه قوله ﷺ بعد ذلك: (ومن لم يرض فليس من الله). وهذا وعيد يدل على أن فعله من الكبائر.
والاقتناع بالحلف بالله لا يخلو من أمرين:
1- أن يكون ذلك من الناحية الشرعية فإنه يجب الرضا بالحلف بالله فيما إذا توجهت اليمين على المدعى عليه فحلف فيجب الرضا بهذه اليمين بمقتضى الحكم الشرعي.
2- من الناحية الحسية فلا يخلو من أحوال خمس:
أ- أن يعلم كذب الحالف فلا أحد يقول إنه يلزمه تصديقه.
ب- أن يترجح كذبه فكذلك لا يلزم تصديقه. ولهذا قال النبي ﷺ لحويصة ومحيصة: «تبرئكم يهود بخمسين يميناً قالوا: كيف نرضى يا رسول الله بأيمان اليهود؟. فأقرهم النبي ﷺ على ذلك.
ت- أن يتساوى الأمران فهذا يجب تصديقه.
ث- أن يترجح صدقه فيجب تصديه.
ج- أن يعلم صدقه فجب تصديقه.
وإنما حمل الحديث على ما إذا كان الحالف صادقاً لأنه قال: (من حَلَف بالله فليصدق)
ثم قال: (ومن حُلَف له بالله فليرض) فإذا قرنت بين هاتين العبارتين يكون المعنى من حُلف له بالله وهو صادق فليرض.
وبعض أهل العلم جعل الحديث عاماً في الدعاوي وغيرها وبعضهم خصه بالدعاوي عند القاضي.
44- بــاب قول: ما شاء الله وشئت
أي ما حكمه؟ وهل هو شرك؟
مناسبة الباب لكتاب التوحيد:
المناسبة ظاهرة مما تقدم في باب قول الله تعالى: ﱩ « ¬ ® ¯ ° ± ² ﱨ [البقرة: 22]
لأن هذه العبارة (ما شاء الله وشئت) من الشرك لأنه عطف مشيئة المخلوق على مشيئة الله تعالى بحرف العطف «الواو» الذي يقتضي المساواة فإن اعتقد أن المعطوف مساوٍ لله تعالى فهو شرك أكبر وإن اعتقد أنه دون الله تعالى في المشيئة فهو أصغر.
(عن قتيلة، أن يهودياً أتى النبي ﷺ فقال: إنكم تشركون، تقولون ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة، فأمرهم النبي ﷺ إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: (ورب الكعبة، وأن يقولوا: ما شاء ثم شئت) رواه النسائي وصححه)
قُتيلة: بضم القاف هي بنت صيفي الجهنية أو الأنصارية، صحابية. J.
قوله: (إنكم تشركون تقولون: ما شاء الله وشئت) أي تقعون في الشرك وهذا نص في أن هذا اللفظ شرك لأن النبي ﷺ أقر اليهودي على تسمية هذا اللفظ تنديداً أو شركاً، ونهى النبي ﷺ عن ذلك، وأرشد إلى استعمال اللفظ البعيد عن الشرك وقول: «ما شاء الله ثم شئت» وإن كان الأولى قول: ما شاء الله وحده كما يدل عليه حديث ابن عباس الآتي إن شاء الله تعالى.
قوله: (وتقولون: والكعبة) تقدم الكلام على الحلف بغير الله تعالى.
قوله: (فأمرهم النبي ﷺ إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة وأن يقولوا ما شاء الله ثم شئت).
رواه النسائي وصححه، وصحح إسناده الحافظ في الإصابة[25]، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (136).
من فوائد الحديث:
أولاً: معرفة اليهود بالشرك الأصغر وكثير ممن يدعي الإسلام لا يعرف الشرك الأكبر بل يصرف خالص العبادات من الدعاء والذبح والنذر لغير الله ويظن أن ذلك من دين الإسلام. فعلمت أن اليهود في ذلك الوقت أحسن حالاً ومعرفة منهم.
ثانياً: قبول الحق ممن جاء به كائناً من كان لأن النبي ﷺ قَبِل الحق من هذا اليهودي لأن الحق هو ضالة المؤمن أين وجده أخذه فلا يمنعه من قبوله أن قاله مشرك أو مبتدع أو ضال أو فاسق إذا كان الكلام في نفسه حقاً.
* أما حديث أبي هريرة I مرفوعاً: «الكلمة الحكمة ضالة المؤمن حيثما وجدها فهو أحق بها» فقد رواه ابن ماجة[26] وقال الألباني في ضعيف ابن ماجة: ضعيف جداً.
ثالثاً: أنه ينبغي عند تغيير الشيء أن يغير إلى شيء قريب منه لأن النبي ﷺ أمرهم أن يقولوا: (ورب الكعبة) ولم يقل: احلفوا بالله، وأمرهم أن يقولوا: (ما شاء الله ثم شئت).
ونحو هذا والله أعلم لو سمعت من يقول: اللهم إني أسألك بجاه نبيك. وهذا التوسل محرم لأنه بدعة ووسيلة إلى الشرك فتقول له: اللهم إني أسألك بحبي لنبيك ﷺ فإن التوسل بمحبة النبي ﷺ مشروع لأنه عمل صالح، والتوسل بالأعمال الصالحة مشروع كما في حديث أصحاب الغار.
رابعا: أن المعرفة بالحق لا تستلزم الإيمان ولا العمل وقبول الحق ممن جاء به.
(وله أيضاً عن ابن عباس L: أن رجلاً قال للنبي ﷺ: ما شاء الله وشئت، فقال: (أجعلتني لله نداً؟ ما شاء الله وحده))
وحسن إسناده الألباني في الصحيحة[27] وعزاه للبخاري في الأدب المفرد وابن ماجة وغيرهما.
قوله: (أجعلتني لله نداً) والرواية عند النسائي وابن ماجة (أجعلتني لله عدلاً) والمعنى واحد
الظاهر أن الرجل قال ذلك تعظيماً للنبي ﷺ وأنه جعل الأمر مفوضاً لمشيئة الله ومشيئة رسوله ﷺ.
والاستفهام في قوله: (أجعلتني لله نداً؟) للإنكار مُضمن معنى التعجب.
والند هو النظير والمساوي. أي أجعلتني مساوياً في هذا الأمر.
قوله: (ما شاء الله وحده) أرشده إلى ما يقطع عنه الشرك ولم يرشده إلى أن يقول ما شاء الله ثم شئت حتى يقطع عنه كل ذريعة إلى الشرك وإن بعدت.
قال في التيسير: «إذا كان هذا كلامه ﷺ لمن قال له: ما شاء الله وشئت فكيف بمن يقول فيه:
فإن من جودك الدنيا وضرتَها
ومن علومك علمُ اللوح والقلم.
ويقول في همزيته:
هذه علتي وأنت طبيبي
ليس يخفى عليك في القلب داء.
وأشباه هذا من الكفر الصريح».
ويدخل في النهي قول بعضهم: ما لي غير الله وأنت. وتوكلت على الله وعليك، وهذا من الله ومنك، وهذا من بركات الله وبركاتك، والله لي في السماء وأنت لي في الأرض، والله وحياة فلان أو يقول: نذراً لله وفلان وأنا تائب لله وفلان.
فكل هذا من الشرك.
(ولابن ماجه عن الطفيـل أخـي عائشة لأمهـا قال: رأيت كأني أتيت على نفر من اليهود، فقلت: إنكم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: عزير ابن الله. قالوا: وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. ثم مررت بنفر من النصارى فقلت: إنكم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله، قالوا: وإنكم لأنتم القوم، لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت، ثم أتيت النبي ﷺ فأخبرته. قال: (هل أخبرت بها أحداً؟) قلت: نعم. قال: فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (أما بعد؛ فإن طفيلاً رأى رؤيا، أخبر بها من أخبر منكم، وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها. فلا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، ولكن قولوا: ما شاء الله وحده).
الطفيل هو ابن سخبرة أخو عائشة لأمها وقيل غير ذلك وهو صحابي ليس له إلا هذا الحديث كما قال البغوي.
(قال رأيت كأني أتيت على نفر من اليهود) أي أنه رأى ذلك في المنام، والنفر اسم جمع يقع على جماعة ما بين الثلاثة إلى العشرة لا واحد له من لفظه.
(قلت إنكم لأنتم القوم) كلمة مدح أي نعم القوم أنتم.
(لولا أنكم تقولون عزير ابن الله) أي لولا ما أنتم عليه من الشرك والمسبة لله بنسبة الولد له سبحانه.
وعزير رجل صالح ادعى اليهود أنه ابن الله وهذا من كذبهم وكفرهم الصريح، وهم لهم مثالب كثيرة لكن هذا من أعظمها وأشدها عندهم.
(قالوا: وأنتم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد) عارضوه بذكر شيء مما في المسلمين من الشرك الأصغر، لأن الصحابة M لا شك أنهم لا يعتقدون أن مشيئة الرسول ﷺ مساوية لمشيئة الله تعالى.
(ثم مررت بنفر من النصارى فقلت: إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله قالوا وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد)
(فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت ثم أتيت النبي ﷺ فأخبرته قال: «هل أخبرت بها أحداً؟»
قلت: نعم)
إنما سأله عليه الصلاة والسلام هل أخبر بها أحداً؟ لأنه إن كان قد أخبر بها أحداً فلا بد من بيان ذلك للناس عموماً لأن الشيء إذا انتشر يجب أن يعلن عنه بخلاف ما لو لم يخبر بها أحداً وكان الأمر خاصاً فهذا يخبر به من وصله الخبر.
(قال: فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإن طفيلاً رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم وإنكم قلتم كلمة يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها فلا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد ولكن قولوا ما شاء الله وحده)
قوله: (يمنعني كذا وكذا) في رواية أحمد: «وإنكم كنتم تقولون كلمة كان يمنعني الحياء منكم أن أنهاكم عنها ...».
قال في التيسير: «وهذا الحياء منهم ليس على سبيل الحياء من الإنكار عليهم بل كان ﷺ يكرهها ويستحيي أن يذكرها؛ لأنه لم يؤمر بإنكارها فلما جاء الأمر الإلهي بالرؤيا الصالحة أنكرها ولم يستحيي في ذلك».
فحياؤه ﷺ ليس من الحياء في إنكار الباطل لكن من أن ينهى عنها بدون أمر من الله تعالى، وإلا فهو عليه الصلاة والسلام لا يستحيي من الحق، وإنما استحيا من أن ينكر شيئاً درج على الألسنة وألفه الناس قبل أن يؤمر بالإنكار، ولما حصل التنبيه على ذلك بإنكار هؤلاء اليهود والنصارى رأى النبي ﷺ أنه لا بد من إنكارها؛ لدخول اللوم على المسلمين بالنطق بها. قاله في القول المفيد.
في هذا الحديث دليل على أن قول: (ما شاء الله وشاء محمد) من الشرك الأصغر إذ لو كانت من الأكبر لأنكرها من أول مرة قالوها؛ لأنه لا يجوز أن يُؤخر إنكاره ولا أن يمنع عنه مانع بخلاف الشرك في الألفاظ (الشرك الأصغر) أتى النهي عنه بالتدريج، فكان الحلف بالآباء جائزاً ثم نُهي عنه وكذلك قول: ما شاء الله وشئت ثم نهاهم عنه، وذلك مراعاة لمصلحة الدعوة وتقديم الأهم على المهم أما الشرك الأكبر فلا مصلحة تبقى مع وجوده.
45- بــاب من سب الدهر فقد آذى الله
مناسبة الباب لكتاب التوحيد:
أن سب الدهر يتضمن الشرك كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
كما أن سب الدهر من الألفاظ المحرمة، واستعمالها مناف لكمال التوحيد الواجب.
وسب الدهر يكون بلعنه وشتمه ونسبة النقائص والشرور إليه ونحو ذلك.
والدهر هو الزمان والوقت كاليوم والليلة والأسابيع والأشهر والسنين ونحو ذلك.
(فقد آذى الله) لفظ الأذى في اللغة هو لما خفَّ أمره وضعف أثره من الشر والمكروه، وهذا بخلاف الضرر، فقد أخبر سبحانه أن العباد لا يضرونه كما قال تعالى: ﱩ > ? @ A B CD E F G H IJ ﱨ [آل عمران: 176] فبين سبحانه أن الخلق لا يضرونه لكن يؤذونه إذا سبوا مقلب الأمور.
فلا يلزم من الأذية الضرر فالإنسان يتأذى بسماع القبيح أو مشاهدته ولكن لا يتضرر بذلك، ويتأذى بالرائحة الكريهة كالبصل والثوم ولا يتضرر بذلك، ولهذا أثبت الله الأذية في القرآن قال تعالى: ﱩ Q R S T U V W X Y Z [ \ ] ^ _ ﱨ [الأحزاب: 57]
وفي الحديث القدسي: «يؤذيني ابن آدم يسب الدهر ...» ونفى عن نفسه أن يضره شيء في قوله: ﱩ E F G H IJ ﱨ [آل عمران: 176]
وفي الحديث القدسي: «يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني».
(وقول الله تعـالى: ﱩ ; < = > ? @ A B C D E Fﱨ الآية)
في هذه الآية يخبر تعالى عن قول الدهرية من الكفار ومن وافقهم من مشركي العرب في إنكار المعاد ﱩ ; < = > ? @ ﱨ أي ليس هناك حياة إلا حياتنا الدنيا، تكذيباً منهم بالبعث بعد الموت ﱩ ² ³ ﱨ أي يموت قوم ويعيش آخرون وما ثَمَّ معاد ولا قيامة.
ﱩ C D E FG ﱨ أي فيسبون الدهر، أي ما يهلكنا فيفنينا إلا مرُّ الليالي والأيام وطول العمر إنكاراً منهم أن يكون لهم رب يفنيهم ويهلكهم.
وقوله: ﱩ H I J K LM N O P Q R ﱨ أي يتوهمون ويتخيلون.
والظن هنا بمعنى الوهم لأنه ليس مبنياً على دليل فدل على أن الظن يستعمل بمعنى الوهم وأيضاً يستعمل بمعنى العلم واليقين كقوله: ﱩ « ¬ ® ¯ ° ± ² ³ ´ ﱨ [البقرة: 46]
وجه الدلالة:
أن من سب الدهر فقد شارك الدهرية والمشركين في سبه وإن لم يشاركهم في الاعتقاد.
كما أن في الآية نسبة الحوادث إلى الدهر، ومن نسبها إلى الدهر فسوف يسب الدهر إذا وقع فيه ما يكرهه.
وسب الدهر ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
أولاً: إن قصد الخبر المحض دون اللوم فهذا جائز مثل قول: تعبنا من شدة حر هذا اليوم أو برده وما أشبه ذلك. لأن الأعمال بالنيات ومثل هذا اللفظ صالح لمجرد الخبر، ومنه قول لوط عليه السلام: ﱩ m n oﱨ [هود: 77]
ثانياً: أن يسب الدهر على أنه الفاعل فهو الذي يقلب الأمور إلى الخير والشر استقلالاً فهذا شرك أكبر؛ لأنه اعتقد أن مع الله خالقاً حيث نسب الحوادث إلى غير الله. وهؤلاء هم الدهرية.
ثالثاً: أن يسب الدهر لا لاعتقاده أنه هو الفاعل بل يعتقد أن الله تعالى هو الفاعل لكن يسبه لأنه محل لهذا المكروه عنده، فهذا محرم ولا يصل إلى درجة الشرك، وهو من السفه في العقل والضلال في الدين؛ لأن حقيقة سبه تعود على الله سبحانه لأنه تعالى هو الذي يصرف الدهر، وليس هذا السب مما يُكفِّر لأنه لم يسب الله تعالى مباشرة.
والحديث الآتي صريح في النهي عن سب الدهر مطلقاً سواء اعتقد أنه فاعل أو لم يعتقد ذلك كما يقع كثيراً ممن يعتقد الإسلام.
كقول بعضهم:
يا دهر ويحك ما أبقيتَ لي أحداً
وأنت والد سوء تأكل الولدا.
وقول الآخر:
قبحاً لوجهك يا زمان كأنه
وجه له من كل قبح برقع.
ونحو ذلك كثير، وكل هذا داخل في الحديث.
(في الصحيح عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال: (قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر، وأنا الدهر، أقلب الليل والنهار) وفي رواية: (لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر))
قوله: (يؤذيني ابن آدم يسب الدهر) فيه أن سب الدهر يؤذي الله تبارك وتعالى، وقال الشافعي رحمه الله تعالى: إن العرب كان من شأنها أن تذم الدهر وتسبه عند المصائب فيقولون: إنما يهلكنا الدهر وهو الليل والنهار، فيذمون الدهر بأنه الذي يفنيهم ويفعل بهم فقال رسول الله ﷺ : «لا تسبوا الدهر» على أنه الذي يفنيكم ويفعل بكم، فإنكم إذا سببتم الدهر فإنما تسبون الله تبارك وتعالى؛ لأنه فاعل هذه الأشياء.
قوله: (يسب الدهر) أي يؤذيني بمسبته الدهر.
قوله: (وأنا الدهر) أي مدبر الأمور التي ينسبونها إلى الدهر ومصرف الدهر لقوله تعالى: ﱩ ° ± ² ³ ´ ﱨ [آل عمران: 140] ولقوله في الحديث: «أقلب الليل والنهار» والليل والنهار هما الدهر، ولا يقال بأن الله تعالى هو الدهر نفسه ومن قال ذلك فقد جعل الخالق مخلوقاً والمقلب بكسر اللام مقلباً بفتح اللام.
وفي رواية: «لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر، الأيام والليالي أُجددها وأُبليها وآتي بملوك بعد ملوك» قال الحافظ: وسنده صحيح.
وبهذا يتبن أن الدهر ليس من أسماء الله تعالى خلافاً لابن حزم رحمه الله تعالى الذي عده من الأسماء:
1- ولو كان كذلك لكان الذين قالوا: ﱩ C D E FG ﱨ مصيبين.
2- ولأن سياق الحديث يأباه لأنه قال: “وأنا الدهر أقلب الليل والنهار” والليل والنهار هما الدهر، فيكون المعنى وأنا الدهر أقلب الدهر، وهذا لا يمكن أن يُجعل الخالق الفاعل هو المفعول.
3- ولأن أسماء الله الحسنى بالغة في الحسن أكمله فلا بد أن تشتمل على وصف ومعنى، والدهر اسم جامد، والاسم الجامد ليس فيه معنى حسن أو أحسن، وإنما هو اسم زمن فينتفي أن يكون اسماً لله تعالى، فيتعين التقدير في الكلام أي وأنا مقلب الدهر ومصرف الدهر.
قوله: (وفي رواية: «لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر»)
هذه الرواية فيها التصريح في النهي عن سب الدهر.
46- بــاب التسمي بقاضي القضاة ونحوه
التسمي: أي وضع الشخص لنفسه هذا الاسم، أو رضاه به من غيره، أما إذا سماه غيره به فلم يرضه فإنه لا يدخل في الذم، لعدم الرضى، فيلحق الوعيد المسمِّي ومن رضي بذلك الاسم.
بقاضي القضاة: القاضي هو الحاكم و (ال) في القضاة للعموم فتعم جميع القضاة.
وقاضي القضاة لفظ حقيقة معناه: الذي يقضي بين القضاة، وهذا إنما هو الله جل جلاله فهو الذي يقضي بين العباد وبين القضاة وبين العبيد فهو قاضي القضاة على الحقيقة سبحانه وتعالى فيخبر عنه بذلك لأن «قاضي القضاة» ليست من أسماء البشر.
والذين أطلقوا هذه التسمية على كبير القضاة أو على كبير العلماء لا يعنون بها أن ذاك يقضي بين القضاة وإنما يعنون بها أنه وصل إلى مرتبة عالية في القضاء، أعلى من درجة القاضي، والواجب على العبد ألا يجعل هذه التسمية جارية على لسانه ولا أن يرضى بها.
ونحوه: كأقضى القضاة وحاكم الحكام وملك الأملاك وسلطان السلاطين ونحو ذلك مما يدل على النفوذ والسلطان.
وقوله: (باب التسمي بقاضي القضاة ونحوه) أي ما حكمه؟
مناسبة الباب لكتاب التوحيد:
التوحيد يقتضي من الموحد المؤمن بالله تعالى أن يعظمه وألا يجعل مخلوقاً في منزلة الله جل وعلا فيما يختص به، وذلك أن المخلوق قد يُجعل في منزلة الله لشبهة وصف قام به ككون القاضي هو رئيس القضاة أو أعلمهم فيطلق عليه قاضي القضاة، فلهذا نبه الشيخ رحمه الله تعالى على أن التسمي بالأسماء التي معناها إنما هو لله عز وجل لا يجوز، والتوحيد يقتضي ألا يوصف بها إلا الله وألا يسمى بها إلا الله عز وجل.
فإن قيل: إذا أضفنا القضاة وحصرناها بطائفة معينة أو ببلد معين أو بزمان معين مثل أن يقال: قاضي القضاة في الفقه أو قاضي القضاة في المملكة العربية السعودية ونحو ذلك فهل يجوز؟
الجواب: هذا جائز لأنه مقيد ومعلوم أن قضاء الله لا يتقيد فحينئذٍ لا يكون مشاركاً فيه لله عز وجل ، إلا إنه وإن كان جائزاً فلا ينبغي أن يتسمى الإنسان بذلك أو يُسمَّى به وإن كان جائزاً لأن النفس قد تصعب السيطرة عليها فيما إذا شعر الإنسان بأنه موصوف بقاضي قضاة الناحية الفلانية فقد يأخذه العجب والغرور بالنفس حتى لا يقبل الحق إذا خالف قوله.
(في الصحيح عن أبي هريرة I، عن النبي ﷺ قال: (إن أخنع اسم عند الله: رجل تسمى ملك الأملاك، لا مالك إلا الله)
في الصحيح: أي الصحيحين.
إن أخنع: أي أوضع. ذكره المصنف.
معناه إنه أشد الأسماء صَغاراً، والخانع الذليل، وإذا كان الاسم أذل الأسماء كان من تسمى به أشد ذلاً.
ولأحمد في المسند[28] بلفظ: «اشتد غضب الله على رجل تسمى بملك الأملاك لا مالك إلا الله عز وجل».
قوله: (إن أخنع اسم) أي أوضع، والمراد بالاسم المسمى، فأوضع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك لأنه جعل نفسه في مرتبة عليا فوق الملوك وهذا لا يكون إلا لله تعالى ولهذا عوقب بنقيض قصده فصار أوضع اسم عند الله تعالى.
قوله: (تسمى) من التسمي أي سمى نفسه، وفي رواية (يُسمى) من التسمية أي يُدعى بذلك ويرضى به.
قوله: (ملك الأملاك) الأملاك جمع ملِك، والملِك اسم فاعل من الـمُلك.
والفرق بين مُلك ومِلك:
الـمُلك بالضم: نفاذ الأمر والسيطرة وهو يكون في بعض الأرض وليس في كل الأرض فالـمُلك راجع إلى المعاني.
والمِلْك بالكسر: إذا كان الإنسان مالكاً للشيء المعين، فالمِلك راجع إلى الأعيان. ومالك اسم فاعل من المِلْك وهو اقتناء الشيء يقال: ملك كذا إذا اقتناه وصار مختصاً به.
ومعنى «ملِك الأملاك» أنه جعل نفسه في مرتبة عليا، فالملوك أعلى طبقات البشر من حيث السلطة فجعل مرتبته فوق مرتبتهم وهذا لا يكون إلا لله عز وجل.
ولو وجد في بعض الكتب عبارة «قاضي القضاة» ونحوها لا ينقل كما هو والواجب أن يغيره تعظيماً لله جل وعلا، وأمانة النقل التي يدّعون هي دون مرتبة توحيد الله جل وعلا، فالواجب تغيير ذلك وهذا من توحيد الله وتغيير اشتراك الخلق مع الله جل وعلا.
وقوله: (لا مالك إلا الله) هذا من أساليب الحصر، يعني أن المُلْك إنما هو لله وحده.
فلا مالك على الحقيقة إلا الله وحده، وأيضاً لا مَلِك إلا الله عز وجل، ولهذا في الفاتحة جاء بقراءتين ﱩ . / 0 1 ﱨ [الفاتحة: 4] مَلِكِ / 0 [الفاتحة: 4] فهو سبحانه مَلِك ذو سلطة ونفوذ، ومالك متصرف مدبر لجميع مملكته.
(قال سفيان: مثل (شاهان شاه)
سفيان: هو ابن عيينة رحمه الله تعالى.
شاهان شاه: هذا باللغة الفارسية ومعناه: ملك الأملاك.
وإنما مثل سفيان بأن الاسم الذي ورد الخبر بذمه لا ينحصر في ملك الأملاك بل كل ما أدى معناه بأي لسان كان فهو مراد بالذم.
قال ابن القيم: لما كان الملك لله وحده لا ملك على الحقيقة سواه كان أخنع اسم وأوضعه عنده وأبغضه له اسم: شاهان شاه أي ملك الملوك وسلطان السلاطين فإن ذلك ليس لأحد غير الله فتسمية غيره بهذا من أبطل الباطل والله لا يحب الباطل، وقد ألحق أهل العلم بهذا قاضي القضاة وقالوا: ليس قاضي القضاة إلا من يقضي الحق وهو خير الفاصلين، الذي إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون، ويلي هذا الاسم في القبح والكراهة والكذب سيد الناس وسيد الكل وليس ذلك إلا الرسول ﷺ خاصة كما قال: «أنا سيد ولد آدم» فلا يجوز لأحد قط أن يقول عن غيره: هو سيد الناس كما لا يجوز له أن يقول: «أنا سيد ولد آدم عليه السلام».
وفي رواية: (أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه). قوله (أخنع) يعني أوضع).
هذه الرواية رواها مسلم في صحيحه.
قوله: (أغيظ) فيه إثبات الغيظ لله تعالى على ما يليق بجلاله وعظمته.
فلا يجوز التسمي بذلك ولو لم يقصد المعنى اللائق بالله جل وعلا، حتى وإن كان أعلم أهل زمانه أو أقضاهم فلا يجوز التسمي بذلك فكيف لو كان كاذباً؟.
47- بــاب احترام أسماء الله وتغيير الاسم لأجل ذلك
أسماء الله تعالى توقيفية وهي ما سمى الله تعالى بها نفسه أو سماه بها رسوله ﷺ.
وأسماء الله تعالى مشتقة بمعنى أنها تدل على الذات والصفة، فهي أسماء متضمنة للأوصاف بخلاف أسمائنا نحن فيراد بها الدلالة على الذات فقط فقد يُسمَّى الرجلُ محمداً وهو من أشد الناس ذماً وقد يسمى عبدَ الله وهو من أفجر عباد الله.
قوله: (باب احترام أسماء الله) أي وجوب احترام أسماء الله لأن احترامها احترام لله تعالى وتعظيم له جل وعلا، وهذا من تحقيق التوحيد، فلا يسمى أحد باسم مختص بالله تعالى.
ولما في ذلك من دفع وسائل الشرك حتى في الألفاظ التي يخشى منها مشاركة أحد لله تعالى في شيء من خصائصه.
واحترام أسماء الله تعالى من تعظيم شعائر الله عز وجل، قال الله تعالى: ﱩ 89 : ; < = > ? @ A B ﱨ [الحج: 32]
والشعائر جمع شعيرة وهي كل ما أشعر الله بتعظيمه يعني أعلم بتعظيمه، ومما أشعر الله بتعظيمه أسماؤه الحسنى جل وعلا.
ولهذا يستدل أهل العلم بهاتين الآيتين على وجوب ألا تمتهن أسماء الله الموجودة في الأوراق أو أن ترمى أو توضع في أمكنة قذرة، ويجب على من وجد شيئاً من ذلك رفعه أو إزالة اسم الله تعالى منه أو إتلافه احتراماً لأسمائه جل وعلا.
وأسماء الله تعالى تنقسم إلى قسمين:
1- ما لا يصح إلا لله فهذا لا يسمى به غيره وإن سمي وجب تغييره مثل: الرحمن، الله، ونحوها.
2- ما يصح أن يسمى به غير الله تعالى مثل: الرحيم، السميع، البصير، فإن لوحظت الصفة مُنع من التسمي به وإن لم تلحظ الصفة جاز التسمي به على أنه علم محض، فيكون لله ما يليق به وللعبد ما يليق به. قال جل وعلا عن نبيه ﷺ: ﱩ ¨ © ª « ﱨ [التوبة: 128] وقال تعالى: ﱩ 0 1ﱨ [الحجر: 53]
(عن أبي شريح: أنه كان يكنى أبا الحكم؛ فقال له النبي ﷺ: (إن الله هو الحكم، وإليه الحكم) فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني، فحكمت بينهم، فرضي كلا الفريقين فقال: (ما أحسن هذا فما لك من الولد؟) قلت: شريح، ومسلم، وعبد الله. قال: (فمن أكبرهم؟) قلت: شريح، قال: (فأنت أبو شريح)، رواه أبو داود وغيره)
أبو شريح: هو هانئ بن يزيد الكندي I.
(يُكْنَى) بالتخفيف هي الفصيحة أما (يُكنّى) بالتشديد فهي لغة ضعيفة، لأن (يُكْنَى) هي التي كان عليها غالب الاستعمال فيما ذكره أهل اللغة.
والكنية: ما كان أوله أب أو أم كأبي عبد الله، وأم الخير.
فقال له النبي ﷺ: «إن الله هو الحَكَم وإليه الحُكْم ...»
الحَكَم: من أسماء الله تعالى كما في هذا الحديث، قال في شرح السنة: الحكم هو الحاكم الذي إذا حكم لا يرد حكمه، وهذه الصفة لا تليق بغير الله تعالى كما قال تعالى: ﱩ É Ê Ë Ì ÍÎ Ï Ð Ñ ﱨ [الرعد: 41]
وقال بعض العلماء: الحَكَم هو بلوغ الغاية في الحُكْم والفصل بين المتخاصمين راجع إلى من له الحكم وهو الله جل وعلا، وأما البشر فإنهم لا يصلحون أن يكونوا حكاماً أو أن يكون الواحد منهم حكماً على وجه الاستقلال ولكن يكون حكماً على وجه التبع، ولهذا أنكر النبي ﷺ على أبي شريح هذه التكنية فقال له: «إن الله هو الحَكَم» ودخول (هو) بين لفظ الجلالة وبين (الحَكَم) يدل على اختصاصه بذلك؛ لأن المقرر في علم المعاني أن «هو» ضمير عماد أو ضمير فصل لا محل له من الإعراب، وفائدته أنه يُجعل الثاني مختصاً بالأول.
قوله (وإليه الحُكْم) الخبر جار ومجرور مقدم وتقديم الخبر يفيد الحصر والمعنى أن الحكم راجع إليه لا إلى غيره.
والحَكم من أسماء الله تعالى كما تقدم والله جل وعلا لم يلد ولم يولد فتكنية المخلوق بأبي الحكم غير لائقة؛ لأنه إذا قيل يا أبا الحكم، كأنه قيل: يا أبا الله. وهذا غير لائق، لأنه يوهم عدم الاحترام لأسماء الله تعالى.
قوله: (إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم فرضي كلا الفريقين فقال: «ما أحسن هذا .....)
هذا بيان لسبب تكنيته بهذه الكنية وأنه لم يُكَنِّ نفسه بها وإنما كناه قومه بذلك لأجل حكمه بينهم.
وقوله: (ما أحسن هذا) هذا أسلوب تعجب أي الحكم بين الناس حسن فهو راجع إلى الإصلاح بينهم والحكم بينهم، أما الكنية فغير حسنة لأنه غيَّرها عليه الصلاة والسلام.
مَن حَكَم بالشرع جاز إطلاق الحَكَم عليه؛ لقوله تعالى: (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها) فسمى المبعوث من هذا وهذا حَكَمَاً؛ لأنهما يحكمان بالشرع.
فالذي يحكم بما حكم به الله الذي هو الحكم يقال له: حَكَم؛ لأنه حكَمَ بحُكْم مَن له الحُكْم، فيسوغ إطلاق ذلك ولا بأس، والله جل وعلا وصف من يحكمون بشرعه بأنهم حكام وهم القضاة فقال سبحانه وتعالى: (وتدلوا بها إلى الحكام) والحكام جمع حاكم وساغ إطلاق ذلك عليه لأنه يحكم بالشرع.
والظاهر أن أبا شريح لم يكن يحكم بين قومه بشرع الله؛ لأن ذلك كان قبل إسلامه حيث إن هذه القصة كانت بعد إسلامه بقليل فيبعد أن يكون قاضياً لهم قبل أن يلقى رسول الله ﷺ ويتعلم منه.
قوله: (فما لك من الولد؟ قال: شريح ومسلم وعبد الله)
فيه أن الواو لا تقتضي الترتيب وإنما تقتضي مطلق الجمع ولهذا سأل رسول الله ﷺ عن الأكبر، إذ لو كانت دالة على الترتيب لم يحتج إلى سؤال عن أكبرهم.
قوله: (فأنت أبو شريح) رعاية الأكبر في التكريم والإجلال فيكون أولى بذلك.
قال في شرح السنة: فيه أن يكنى الرجل بأكبر بنيه فإن لم يكن له ابن فبأكبر بناته وكذلك المرأة تكنى بأكبر بنيها فإن لم يكن لها ابن فبأكبر بناتها. ا. هـ.
فالنبي ﷺ غير هذه الكنية لأن الاسم الذي جعل كنية لهذا الرجل (الحَكَم) لوحظ فيه معنى الصفة وهي الحكم فصار بذلك مطابقا لاسم الله وليس لمجرد العلمية المحضة بل للعلمية المتضمنة للمعنى وهذا يكون مشاركاً لله سبحانه وتعالى في ذلك ولهذا كناه النبي ﷺ بما ينبغي أن يكنى به.
أما إذا كان الاسم لا يختص بالله فإنه يجوز أن يُسمى به غيره ما دام أنه لم يلحظ فيه معنى الصفة وإنما المقصود مجرد العلمية فقط لأنه والحال هذه لا يكون مطابقاً لاسم الله ولذلك كان في الصحابة M من اسمه الحكم ومن اسمه حكيم ولم يغيره النبي ﷺ كالحكم بن عمرو الغفاري وحكيم بن حزام وغيرهما M.
وفيه وجوب تغيير الاسم المختص بالله ومنه: القدوس والمهيمن؛ لأن التسمية بها من باب الشرك في الصفات.
ولا يحتاج تغيير الاسم لإعادة العقيقة كما يتوهمه بعض العامة.
48-بــاب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن أو الرسول
قال في التيسير: «أي أنه يكفر بذلك لاستخفافه بجناب الربوبية والرسالة وذلك مناف للتوحيد ولهذا أجمع العلماء على كفر من فعل شيئاً من ذلك، فمن استهزأ بالله أو بكتابه أو برسوله أو بدينه كفر، ولو هازلاً لم يقصد حقيقة الاستهزاء إجماعاً».
وقال ابن العربي: «فإن الهزل بالكفر كفر لا خلاف فيه بين الأمة».
وقوله: (من هزل بشيء) الهزل: خلاف الجد أي سخر واستهزأ ورآه لعباً ليس جداً.
والمراد بالرسول هنا اسم جنس فيشمل جميع الرسل وليس المراد محمداً ﷺ فقط لأن (ال) في الرسول للجنس وليس للعهد.
والاستهزاء على هذا الوجه كفر مناف لأصل التوحيد فلا يجتمع في القلب إيمان واستهزاء بالله تعالى أو برسوله أو بالقرآن، والمؤمن بالشيء لابد أن يعظمه بقلبه، والاستهزاء ينافي التعظيم.
الاستهزاء والهزل بالشيء من هذه – أي المذكورات في الآية – أشد من الكفر المجرد لأن هذا كفر وزيادة احتقار وازدراء.
مناسبة الباب لكتاب التوحيد:
ظاهرة لأن الهزل والاستهزاء بالله أو بالرسول أو القرآن مناف لأصل التوحيد وكفر مخرج من الملة.
(وقول الله تعالي: (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب) الآية)
قال الله تعالى: ﱩ S T U V W X YZ [ \ ] ^ _ ` a b c d e f gh i j k l m n o p q r ﱨ [التوبة: 65-66]
أي ولئن سألت هؤلاء الذين يخوضون ويستهزؤن ليقولن ما لنا قصد ولكننا نخوض ونلعب.
ﱩ [ \ ﱨ الاستفهام للإنكار والتعجب فينكر عليهم الاستهزاء بهذه الأمور العظيمة ويتعجب كيف يكون أحق الحق محلاً للسخرية.
وقوله: ﱩ \ ﱨ أي بذاته وصفاته.
وقوله: ﱩ ] ﱨ جمع آية وتشمل الشرعية كالاستهزاء بالقرآن بأن يقال هذا أساطير الأولين والعياذ بالله أو يستهزأ بشيء من الشرائع كالصلاة والزكاة ...
ويشمل الآيات الكونية كأن يسخر بما قدره الله تعالى كمن يقول: إن وجود الحر في أيام الشتاء سفه أو قال: وجود البرد في أيام الصيف سفه فهذا كفر مخرج من الملة لأن الرب جل وعلا كل أفعاله مبنية على الحكمة. وكذلك لو قال: كيف يخلق الله هذا الشيء الذي يضر الناس ويقتلهم؟ استهزاء وسخرية.
قوله: ﱩ«¬ ﱨ أي محمد ﷺ.
قوله: ﱩ b c d e ﱨ المراد بالنهي عن الاعتذار التيئيس لهم عن قبول اعتذارهم.
ولا يقول قائل إن هذا الحكم خاص بمن استهزأ برسول الله ﷺ وأصحابه القراء إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
(عن ابن عمر، ومحمد بن كعب، وزيد بن أسلم، وقتادة – دخل حديث بعضهم في بعض - : أنه قال رجل في غزوة تبوك: ما رأينا مثل قرائناً هؤلاء، أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسناً، ولا أجبن عند اللقاء ـ يعني رسول الله ﷺ وأصحابه القرّاء ـ فقال له عوف بن مالك: كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله ﷺ. فذهب عوف إلى رسول الله ﷺ ليخبره فوجد القرآن قد سبقه. فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله ﷺ وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله! إنما كنا نخوض ونتحدث حديث الركب، نقطع به عنا الطريق. فقال ابن عمر: كأني أنظر إليه متعلقاً بنسـعة ناقة رســول الله ﷺ، وإن الحجارة تنكب رجليه – وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب – فيقول له رسول الله ﷺ: ﱩ \ ] ^ _ ` a ﱨ ما يتلفت إليه وما يزيده عليه)
هذا الأثر ذكره المصنف مجموعاً من رواية ابن عمر ومحمد بن كعب وزيد ابن أسلم وقتادة.
قوله: (دخل حديث بعضهم في بعض) أي أن الحديث مجموع من روايتهم فلذلك دخل بعضه في بعض.
قوله: (ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء) يحتمل أن تكون الرؤية بصرية ويحتمل أن تكون علمية قلبية.
والقراء جمع قارئ وهم عند السلف الذين يقرأون القرآن ويعلمون معانيه أما قراءته من غير فهم لمعناه فلا يوجد في ذلك العصر وإنما هو أمر حادث.
والمراد بالقراء هنا الرسول ﷺ وأصحابه M.
قوله: (أرغب بطوناً) أي أوسع بطوناً، يصفونهم بسعة البطون وكثرة الأكل لأنه كلما اتسع البطن رغب الإنسان في زيادة الأكل.
(ولا أكذب ألسناً) أي ولا أكذب قولاً.
(ولا أجبن عند اللقاء) أي عند القتال.
وهذه الأوصاف الثلاثة الأحق بها المنافقون لا المؤمنون.
(فقال له عوف بن مالك: كذبت ولكنك منافق) فيه المبادرة إلى الإنكار والشدة على المنافقين، وتكذيب الكاذب وعدم السكوت عليه.
وفيه جواز وصف الرجل بالنفاق إذا قال أو فعل ما يدل عليه لأنه لا يطلق هذه الأوصاف على رسوله ﷺ وأصحابه M رجل تسمى بالإسلام إلا منافق.
قوله: (فوجد القرآن قد سبقه) أي بالوحي، وفيه دلاله على علم الله تعالى وقدرته وإلهيته وأن محمداً ﷺرسول الله تعالى.
(كأني أنظر إليه متعلقاً بنسعة ناقة رسول الله ﷺ ) النسعة: هي الحزام الذي يربط به الرحل.
قوله: (وإن الحجارة تنكب رجليه) أي تضرب رجليه.
في هذا الحديث من الفوائد أن ذكر أفعال المنافقين والفساق لولاة الأمور ليزجروهم ويقيموا عليهم أحكام الشريعة ليس من الغيبة والنميمة لأنه هذا من النصح لله ورسوله.
ومن ذلك لو أن رجلاً اعتمد على شخص ووثق به وهذا الشخص يكشف سره ويستهزئ به في المجالس فإنك إذا أخبرت هذا الرجل بذلك فليس من النميمة بل من النصيحة.
وفيه أن الإنسان قد يكفر بكلمة يتكلم بها، ولهذا ينبغي الحذر من زلات اللسان فقد يتكلم العبد بكلمة تهوي به في النار سبعين خريفاً.
وفيه أن من الاعتذار ما لا يقبل، فهو عليه الصلاة والسلام لم يقبل اعتذار هؤلاء ولم يرحمهم ولم يرق لهم إما لأنهم كانوا كاذبين وإما لأن الاستهزاء على وجه الخوض واللعب لا يكون صاحبه معذوراً وعلى كلا التقديرين فهو عذر باطل لا يقبل.
وإلا فالأصل في الاعتذار أن يقبل ولاسيما ممن كان محسناً لكن حصلت منه زلة فهذا يقبل عذره ويعفى عنه.
والاستهزاء بالمسلم:
إذا استهزأ به لما قام به من أحكام الله سبحانه وسنة نبية ﷺ كالاستهزاء بمن حافظ على الصلوات أو حث الناس على الطاعات أو بمن أعفى لحيته ورفع ثوبه تأسياً بالنبي ﷺ. فهذا يكون مرتداً عن الإسلام إن كان مسلماً في الأصل؛ لأن استهزاءه يرجع إلى الاستهزاء بالدين.
لكن إن كان جاهلاً بأن ما استهزأ به من الشريعة الإسلامية كأن يستهزأ بقصر الثوب ولا يعلم أن تقصير الثياب من السنة فلا يكفر، حتى يُعلَّم.
وإذا كان لا يقصد باستهزائه ذات العبادة التي قام بها المسلم كأن يستهزئ بلحية رجل مسلم لما فيها من عيب خَلقي لا لكونها سنة، فهذا لا يكفر، وإن كان عيبه لخلقته حرام عليه.
وقد يكون المسلم المستَهزأ به ولياً من أولياء الله تعالى فتكون العقوبة أشد على المستهزئ حيث يكون متعرضاً لمحاربة الله له كما في الحديث القدسي: «من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب»
لكن ينبغي للمسلم الذي يُستهزأ به أن يصبر على الأذى فإن العاقبة للمتقين قال تعالى: ﱩ Ë Ì Í Î Ï Ð Ñ Ò Ó ﱨ [المطففين: 29] وقال عز وجل: ﱩ A B C D E F G H I J K L M N O ﱨ [المؤمنون: 109]
49- بــاب ما جاء في قول الله تعالى: (ولئن أذقناه رحمةً منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي) الآية.
مناسبة الباب لكتاب التوحيد:
أن الإنسان إذا أضاف النعمة إلى عمله وكسبه ففيه نوع من الإشراك بالربوبية، وإذا أضافها إلى الله لكنه زعم أنه مستحق لذلك وأن ما أعطاه الله ليس محض تفضل وإنما لأنه أهل ففيه نوع من التعلِّي والترفع في جانب العبودية.
فهذا الباب في بيان وجوب تعظيم الله جل وعلا في الألفاظ وأن النعم يجب أن تنسب إليه وأن يُشكر عليها، ويقول العبد: هذا أنعم الله به عليّ.
ونسبة النعم إلى غيره والكذب في ذلك قد يؤدي إلى أن يَسلب الله جل وعلا هذه النعمة عن العبد بسبب لفظه.
فالواجب التحرز في الألفاظ المتعلقة بذلك ولا يصدر التحرز في هذه الألفاظ إلا عن قلب معظم لله جل جلاله مخبت له مجلٍ له سبحانه وتعالى.
قوله عز وجل: ﱩ [ \ ] ^ _ ` a b ﱨ أي ولئن أذقنا الإنسان رحمة منا أي من الله تعالى من بعد ضراء مسته فلم يذق الرحمة من أول أمره بل أصيب بضراء كالفقر ونحوه ثم أذاقه الله تبارك وتعالى الرحمة بعد ذلك لتكون لذتها والسرور بها أعظم كالذائق للطعام بعد الجوع.
قوله: ﱩ c d e ﱨ هذا كفر بنعمة الله وإعجاب بالنفس.
قوله: ﱩ . / 0 1 ﱨ لما انغمس في الدنيا نسي الآخرة وكفر بها.
قوله: ﱩ j k l m n o p qr ﱨ والمعنى: على فرض أن أرجع إلى الله إن لي عنده للحسنى، والحسنى أي الذي هو أحسن من هذا.
(قال: مجاهد هذا بعملي وأنا محقوق به).
أي هذا بكسبي وأنا مستحق له.
(وقال ابن عباس: «يريد»: من عندي)
أي من حذقي وتصريفي وليس من عند الله، وليس من تفضله عليَّ.
فهذا نسب النعمة إلى نفسه وأنه جدير بها وأن الله جل وعلا تفضل عليه لأنه مستحق لهذا الإنعام.
والواجب أن يعلم العبد أنه فقير غير مستحق لشيء على الله تعالى وأن الله هو المستحق على العبد أن يشكره وأن يذكره وأن ينسب النعم إليه، أما العبد فليس مستحقاً بحق واجب على الله جل وعلا إلا ما أوجبه الله تعالى على نفسه تفضلا وكرما.
وقول القائل: هذا بعملي وأنا محقوق به، مثل قول الطبيب: هذا الذي حصل من شفاء المريض بسببي أو نجاحي، وقوله بعضهم: نلت هذا الأمر بسبب جهدي، وتعبي، ونحو ذلك، فينسى الله جل وعلا وينسب النعم إلى نفسه.
يدخل في هذا الوصف الذي جاء في الآية نوعان من الناس:
1- من ينسب الشيء إلى نفسه ولا ينسبه إلى الله جل وعلا أصلاً.
2- أن ينسبه إلى الله تعالى لكن يرى نفسه مستحقاً لذلك الشيء على الله تعالى.
كما يحصل من بعض المغرورين إذا أطاع الله واتقاه وحصلت له نعمة قال: حصلت لي من جراء استحقاقي، فأنا العابد لله تعالى، ولا يستحضر أن الله جل وعلا هو المتفضل على عبده، ولو حاسبه على عمله لم تقم عباداته وعمله بنعمة من النعم التي اسداها الله جل وعلا له.
فتمام التوحيد أن يُجل العبد ربه تبارك وتعالى ويعظمه وألا يعتقد أنه مستحق للنعم أو أنه أوتيها بجهده وعمله بل هو فضل الله تعالى يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
وقوله: ﱩ ! " # $ % &' ﱨ قال قتادة: على علم مني بوجوه المكاسب. وقال آخرون: على علم من الله أني له أهل. وهذا معنى قول مجاهد: أوتيته على شرف)
قوله: ﱩ ! " # $ % &' ﱨ هذه الآية في قصة قارون، قال تعالى: ﱩ w x y z { | } ~ ¡ ¢ £ ¤ ¥ ¦ § ¨ © ª ﱨ [القصص: 76] الآيات.
فقارون يرى أنه أن ما حصل من النعم ليس من الله تعالى بل بسبب جهده ومعرفته بوجوه المكاسب، كما قال قتادة، أو يرى أن الله تعالى أعطاه لكونه أهلا لأَن ينعم عليه، كما جاء عن مجاهد وغيره.
وعلى كلا الأمرين يكون غير شاكر.
وشكر النعمة له ثلاثة أركان:
1- الاعتراف بها في القلب.
2- الثناء على الله باللسان والتحدث بالنعمة.
3- العمل بالجوارح وتسخير النعم فيما يرضي المنعم.
فمن كان يعتقد بقلبه أنه هو السبب في حصول النعمة؛ لمهاراته وعلمه وحذقه فهذا لم يشكر النعمة، وكذلك لو أضاف النعمة بلسانه إلى غير الله فلم يشكر، أو عمل بمعصية الله في جوارحه فليس بشاكر لله تعالى.
(وعن أبي هريرة I أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: (إن ثلاثة من بني إسرائيل: أبرص، وأقرع، وأعمى. فأراد الله أن يبتليهم، فبعث إليهم ملكاً، فأتى الأبرص، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: لون حسن، وجلد حسن، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به قال: فمسحه، فذهب عنه قذره، وأعطي لوناً حسناً وجلداً حسناً، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الإبـل أو البقر ـ شك إسحاق ـ فأعطي ناقة عشراء، وقال: بارك الله لك فيها. قال: فأتى الأقرع، فقال أي شيء أحب إليك قال: شعر حسن، ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به فمسحه، فذهب عنه، وأعطي شعراً حسناً، فقال: أي المال أحب إليك؟ قال: البقر، أو الإبل، فأعطي بقرة حاملاً، قال: بارك الله لك فيها. فأتى الأعمى، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: أن يرد الله إلي بصري؛ فأبصر به الناس، فمسحه، فرد الله إليه بصره، قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الغنم، فأعطي شاة والداً؛ فأنتج هذان وولد هذا، فكان لهذا وادٍ من الإبل، ولهذا وادٍ من البقر، ولهذا وادٍ من الغنم، قال: ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته. فقال: رجل مسكين، قد انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن، والجلد الحسن، والمال، بعيراً أتبلغ به في سفري، فقال: الحقوق كثيرة. فقال له: كأني أعرفك، ألم تكن أبرص يقذرك الناس، فقيراً، فأعطاك الله عز وجل المال؟ فقال: إنما ورثت هذا المال كابراً عن كابر، فقال: إن كنت كاذباً فصيّرك الله إلى ما كنت. قال: وأتى الأقرع في صورته، فقال له مثل ما قال لهذا، وردّ عليه مثل ما ردّ عليه هذا، فقال: إن كنت كاذباً فصيّرك الله إلى ما كنت. وأتى الأعمى في صورته، فقال: رجل مسكين وابن سبيل، قد انقطعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك. أسألك بالذي ردّ عليك بصرك شاة أتبلغ بها في سفري، فقال: كنت أعمى فردّ الله إليَّ بصري، فخذ ما شئت ودع ما شئت، فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله. فقال: أمسك مالك، فإنما ابتليتم فقد رضي الله عنك، وسخط على صاحبيك) أخرجاه.
في حديث الثلاثة الأبرص والأقرع والأعمى أن من أسباب ثبات النعم أن يعظم العبد ربه عز وجل، وأن ينسب النعم إليه، وأن يؤدي حق الله فيها.
50- بــاب قول الله تعالى: (فلما آتاهما صالحاً جعلا له شركاء فيما آتاهما) الآية.
(قال ابن حزم: اتفقوا على تحريم كل اسم معبَّد لغير الله؛ كعبد عمر، وعبد الكعبة، وما أشبه ذلك، حاشا عبد المطلب)
(وعن ابن عباس I في الآية قال: لما تغشـاها آدم حمـلت، فأتاهما إبليس فقال: إني صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة لتطيعاني أو لأجعلن له قرني أيل، فيخرج من بطنك فيشقه، ولأفعلن ولأفعلن ـ يخوفهما ـ سِّمياه عبد الحارث، فأبيا أن يطيعاه، فخرج ميتاً، ثم حملت، فأتاهما، فقال مثل قوله، فأبيا أن يطيعاه، فخرج ميتاً، ثم حملت، فأتاهما، فذكر لهما فأدركهما حب الولد، فسمياه عبد الحارث فذلك قوله تعالى: ﱩ d e f g hi ﱨ رواه ابن أبي حاتم، وله بسند صحيح عن قتادة قال: شركاء في طاعته، ولم يكن في عبادته. وله بسند صحيح عن مجاهد في قوله: ﱩ Z [ \ ﱨ قال: أشفقا ألا يكون إنساناً، وذكر معناه عن الحسن وسعيد وغيرهما)
قال الله تعالى: ﱩ A B C D E F G H I J KL M N O P Q R ST U V W X Y Z [ \ ] ^ _ ` a b c d e f g hi j k l m n ﱨ [الأعراف: 189-190]
اختلف أهل العلم رحمهم الله تعالى في تفسير هذه الآية.
فذهب بعضهم إلى المراد بها آدم وحواء عليهما السلام.
وذهب آخرون إلى أن الآية عامة في بني آدم الذين أشركوا بالله عز وجل، وليست في آدم وحواء عليهما السلام.
واستُدل لكل قول بعدة أدلة، والكلام في ذلك يطول، فيراجع فيه شروح هذا الكتاب.
أراد المؤلف رحمه الله تعالى من هذا الباب بيان تحريم التعبيد لغير الله تعالى كائناً من كان فلا يسمى عبد النبي ولا عبد الحسين ولا نحو ذلك.
والفرق بين هذا الباب والذي قبله أن الأول في النعم عامة وهذا في نعمة الولد خاصة.
ومعنى الترجمة أن من أنعم الله عليه بالولد ثم كمل النعمة بأن سوى خلقهم وحسن صورتهم فجعلهم صالحين في أبدانهم فعليهم أن يشكروا نعمة الله بأن لا يعبِّدوا أولادهم لغير الله تعالى الذي خلقهم ولا يضيفوا إنعامه إلى غيره فإن ذلك كفران للنعم.
الإشراك في نعمة الولد أنواع:
1- نسبته إلى غير الله إيجاداً وخلقاً وهذا شرك أكبر لأنه ادعاء خالق مع الله.
2- يدخل في الآية إضافة سلامته إلى القابلة والطبيب وهذا شرك أصغر.
3- ويدخل في الآية تقديم محبته على محبة الله فيشركا بالله بمعصيتهما لله من أجله.
4- أن يُعبد لغير الله في التسمية.
وقوله: (قال ابن حزم: اتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله كعبد عمرو وعبد الكعبة وما أشبه ذلك حاشا عبد المطلب)
وروى البخاري في الأدب المفرد[29] أن النبي ﷺ سمع قوماً يسمون رجلاً منهم عبد الحجر فقال النبي ﷺ: «ما اسمك؟» قال عبد الحجر قال: «لا، أنت عبد الله». وصححه الألباني.
فإن قيل كيف يتفقون على تحريم الاسم المعبد لغير الله وقد صح عن النبي ﷺ أنه قال: «أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب».
فالجواب أن هذا ليس من باب إنشاء التسمية بذلك وإنما هو من باب الإخبار بالاسم الذي عرف به المسمَّى دون غيره والإخبار بذلك على وجه تعريف المسمَّى لا يحرم.
حكم التسمي بعبد المطلب:
كلام ابن حزم رحمه الله تعالى ليس صريحاً في حكاية الإجماع على جواز ذلك؛ لأنه يحتمل أن يكون مراده حكاية الخلاف فيه، ويؤيده وقوع الخلاف فيه.
فمن قال بالجواز استدل بقوله ﷺ «أنا ابن عبد المطلب». ولا يقول النبي ﷺ ما هو محرم.
وأجيب عنه أنه من باب الخبر وليس الإنشاء ولم يثبت أنه ﷺ سمى أو أقر التسمية بعبد المطلب.
ولهذا قال ﷺ: «إنما بنو هاشم وبنو عبد مناف شيء واحد». ومع هذا لا يجوز التسمي بعبد مناف.
أما الاستدلال بأن بعض الصحابة كان اسمه عبد المطلب بن ربيعة وأقره النبي ﷺ فالمحققون من الرواة يقولون إن من سمي بعبد المطلب فالصحيح أن اسمه المطلب بدون تعبيد ولكن نقل بعبد المطلب لأنه شاعت التسمية بعبد المطلب دون المطلب ووقع خطأ في ذلك.
وقوله: (وله بسند صحيح عن قتادة قال: شركاء في طاعته ولم يقل في عبادته.)
هذا دليل على التفريق بين الشرك في العبادة وهو كفر أكبر مخرج من الملة وبين الشرك في الطاعة فإن له درجات يبدأ من المعصية والمحرم وينتهي بالشرك الأكبر، وقد يحصل شرك في الطاعة ويكون معصية أو كبيرة أو كفرا أكبر.
51- بــاب قول الله تعالى: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه) الآية.
(ذكر ابن أبي حاتم عن ابن عباس L ﱩ K L MN ﱨ: يشركون. وعنه: سموا اللات من الإله، والعزى من العزيز. وعن الأعمش: يدخلون فيها ما ليس منها)
قال الله تعالى: ﱩ C D E F GH I J K L MN O P Q R S ﱨ [الأعراف: 180]
هذا الباب يتعلق بتوحيد الأسماء والصفات وهو إفراد الله تعالى بما ثبت له من الأسماء والصفات من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل.
والمراد بهذا الباب وجوب تعظيم أسماء الله تعالى الحسنى، وأن من تعظيمها ألا يُلحد فيها، وأن يُدعى الله جل وعلا بها.
ﱩ C D E ﱨ اللام في قوله: ﱩ d ﱨ لام الاستحقاق أي الأسماء الحسنى البالغة في الحسن غايته مستحقة لله تعالى.
وهذه الجملة فيها حصر لأن تقديم الجار والمجرور يفيد الحصر فتفيد توحيد الأسماء والصفات أي أنها مستحقة لله تعالى لا لغيره جل وعلا.
وقوله: ﱩ F GH ﱨ هذا يشمل دعاء العبادة ودعاء المسألة.
أما دعاء العبادة فهو أن تتعبد لله تعالى بما تقتضيه تلك الأسماء ﱩ - . / 0 12 3 4 5 6 7 8 9 : ; ﱨ [غافر: 60]
فدل على أن الدعاء عبادة. فمثلاً الرحيم يدل على الرحمة وحينئذٍ نتطلع إلى أسباب الرحمة ونفعلها، والقريب يقتضي أن تتعرض إلى القرب منه سبحانه بالصلاة وغيرها، والسميع يقتضي أن تتعبد لله تعالى بمقتضى السمع بحيث لا تُسمع الله تعالى قولاً يغضبه والبصير يقتضي ألا يرى منك فعلاً يكرهه والعليم يقتضي ألا تخفي في نفسك ما يبغضه جل وعلا فإنه سبحانه ﱩB C D E F G ﱨ [غافر: 19]
وهكذا في بقية الأسماء.
وأما دعاء المسألة بها فهو أن تقدمها بين يدي سؤالك متوسلاً بها إلى الله تعالى فتقول مثلاً يا غفور اغفر لي يا رحيم ارحمني ويا قوي يا عزيز انصرني على من ظلمني ويا عليم علمني ما ينفعني وهكذا ومنه الحديث: «فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم» فهذا فيه ثناء على الله تعالى بأسماء تناسب السؤال، وهذا من أسباب الإجابة لأنه توسل بصفة المدعو المحبوبة له.
وبهذا يتبين أن الأمر بدعاء الله تعالى بأسمائه يتضمن الأمر بمعرفتها لأنه لا يمكن دعاء الله بها إلا بعد معرفتها، وبهذا تظهر أهمية العلم بأسماء الله وصفاته ومعانيها
وقوله: ﱩ I J K L MN ﱨ أي اتركوهم وأعرضوا عن مجادلتهم.
والإلحاد في أسمائه جل وعلا الميل بها عما يجب فيها وهو أنواع:
1- أن ينكر شيئاً من الأسماء أو ما دلت عليه من الصفات والأحكام لأن هذا ميل بها عما يجب لها من الإثبات. فالجهمية الغلاة لا يؤمنون باسم ولا صفة لله تعالى إلا الوجود والموجود.
2- أن يثبت لله تعالى أسماءً لم يسم بها نفسه كما في قول الأعمش رحمه الله تعالى الذي ذكره المصنف رحمه الله تعالى: يدخلون فيها ما ليس منها ومن ذلك تسمية النصارى له أبا وتسمية الفلاسفة له موجباً بذاته أو علة فاعلة بالطبع.
3- أن يجعل الأسماء دالة على التشبيه فيقول: سميع كسمع الإنسان ونحو ذلك.
وهذا ميل بها عما يليق بها من كونها لا تماثل أسماء المخلوقين.
4- أن يشتق منها أسماء للأصنام كتسمية اللات من الإله أو من الله والعزى من العزيز ومناة من المنان وهكذا فهم عدلوا بأسمائه إلى أوثانهم وآلهتهم الباطلة.
5- وصفه تعالى بالنقائص كقول أخبث اليهود: إنه فقير وقولهم: يد الله مغلولة ونحو ذلك مما هو إلحاد في أسماء الله وصفاته.
6- تعطيل الأسماء الحسنى عن معانيها وجحد حقائقها كقول الجهمية وأتباعهم إنها ألفاظ مجردة لا تتضمن صفات ولا معاني فيقولون: هو سميع بلا سمع وبصير بلا بصر وحي بلا حياة تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
7- من الإلحاد أيضاً في الأسماء أن تؤول وتصرف عن ظاهرها إلى معان لا يجوز أن تصرف إليها فيكون ذلك من التأويل الفاسد.
والواجب إثباتها واعتقاد ما دلت عليه بلا تأويل بحيث لا تصرف عن حقائقها التي دلت عليها.
52- بــاب لا يقال: السلام على الله
المعنى أنه يحرم أن يقول: السلام على الله.
والسلام له معنيان:
1- التحية، كما يقال: سَلَّمَ على فلان أي حياه بالسلام.
2- السلامة من النقص والآفات كقولنا: «السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته».
والسلام اسم من أسماء الله تعالى قال سبحانه: ﱩ ¥ ¦ §ﱨ [الحشر: 23]
فهو سبحانه المتصف بالسلامة الكاملة المنزه من كل نقص وعيب، فله الكمال المطلق في ذاته وصفاته.
والسلام في أسمائه سبحانه معناه أيضاً: الذي يعطي السلامة ويُسلِّم خلقه مما يؤذيهم، فكل سلامة للخلق في هذا الملكوت فهي من آثار اسم الله السلام.
وإذا كان الأمر كذلك فالله جل وعلا هو الذي يعطي السلام، وليس العباد هم الذي يعطون الله السلام فإنه جل وعلا غني عن خلقه، والعباد فقراء إليه قال تعالى: ﱩ v w x y z {| } ~ ¡ﱨ [فاطر: 15] ولهذا كان من الأدب الواجب مع الله جل وعلا ألا يقال: السلام على الله.
فقوله في الترجمة: «لا يقال: السلام على الله»
نهى عن هذه العبارة لما يلي:
1- أن هذا يوهم النقص في حقه سبحانه وتعالى، فتدعوا الله أن يُسلِّم نفسه من ذلك إذ لا يدعى لشيء بالسلام من شيء إلا إذا كان قابلاً أن يتصف به والله سبحانه منزه عن صفات النقص.
2- إذا دعوت الله أن يُسلَّم نفسه فقد خالفت الحقيقة لأن الله يُدعى ولا يدعى له فهو غني عنا، ولأن ذلك يوهم حاجة الله تعالى إلى دعاء عباده له بالسلامة من النقائص والعيوب وهذا لا يليق بالله تعالى لأنه قدح في غناه سبحانه وتعالى.
وهذا ينافي كمال الإيمان بصفاته جل وعلا؛ لأن صفاته كلها عليا كاملة كما أن أسماءه حسنى قال تعالى: ﱩ f g hi j k l m ﱨ [النحل: 60]
وبهذا تتبين مناسبة إيراد هذا الباب في كتاب التوحيد.
في الصحيح عن ابن مسعود I قال: كنا إذا كنا مع النبي ﷺ في الصلاة قلنا: السلام على الله من عباده، السلام على فلان، فقال النبي ﷺ: (لا تقولوا السلام على الله، فإن الله هو السلام).
قوله: (في الصحيح) يعني: الصحيحين.
قوله: (قلنا السلام على الله من عبادة) أي يقولون ذلك في التشهد الأخير كما هو مصرح به في بعض ألفاظ الحديث كنا نقول قبل أن يفرض التشهد: «السلام على الله «. فقال النبي ﷺ : «إن الله هو السلام ...»
والصحابة M إنما قالوا: «السلام على الله من عباده» مع كونهم موحدين عالمين بحق الله تعالى، قالوا ذلك ظناً أنها تحية لا تحوي ذلك المعنى، فالسلام على الله من عباده كأنهم قالوا: تحية لله من عباده. وهذا المعنى وإن كان صحيحاً من حيث القصد لكنه ليس بصحيح من حيث اللفظ، فهو لا يجوز لأن الله تعالى هو الذي يسلم عباده.
وبهذا يتبين أن قول: «السلام على الله. محرم»
قوله: (السلام على فلان وفلان)
أي جبريل وميكائيل وقد جاء في لفظ للبخاري: «السلام على جبريل وميكال».
53- بــاب قول: اللهم اغفر لي إن شئت
مناسبة الباب لكتاب التوحيد:
أن قول القائل اللهم اغفر لي إن شئت يُفهم منه أنه مستغن عن أن يَغفر الله له، أي إن شئت فاغفر وإن شئت فلا تغفر، وهذا ينافي تحقيق التوحيدـ، وينافي ما يجب على العبد في جناب ربوبية الله تعالى من إظهار فقره وحاجته إليه وأنه لا غني له عن عفوه ومغفرته ونِعَمه طرفة عين.
قال في التيسير: «نهى عن قول ذلك لما فيه من إيهام الاستغناء عن مغفرة الله ورحمته وذلك مضاد للتوحيد».
في الصحيح عن أبي هريرة I، أن رسول الله ﷺ قال: (لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، ليعزم المسألة، فإن الله لا مكره له)
قوله: (في الصحيح): أي الصحيحين.
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ I أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ، قَالَ: « إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلَا يَقُلْ: اللهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ، وَلَكِنْ لِيَعْزِمِ الْمَسْأَلَةَ وَلْيُعَظِّمِ الرَّغْبَةَ، فَإِنَّ اللهَ لَا يَتَعَاظَمُهُ شَيْءٌ أَعْطَاهُ « متفق عليه (البخاري 6339، 7477، ومسلم 2679) وفي رواية لهما: (فَإِنَّ اللهَ صَانِعٌ مَا شَاءَ، لَا مُكْرِهَ لَهُ)
في هذا الحديث النهي عن قول: اللهم اغفر لي إن شئت. والأصل في النهي التحريم، فيكون هذا القول محرما.
وقوله: (ليعزم المسألة) أي ليجزم في طلبه، ويسأل سؤال محتاج متذلل لا سؤال مستغن مستكبر، أي لا يسأل سؤال متردد، بل يعزم بلا تردد، ولا تعليق في سؤاله، ويسأل سؤال مضطر مفتقر إلى ربه جل وعلا.
وقوله: (فإن الله لا مكره له)
هذا تعليل للنهي أي لا أحد يُكرهه سبحانه على ما يريد فيمنعه منه أو يكرهُه على ما لا يريد فيلزمه بفعله لأن الأمر كله لله وحده.
ولمسلم: (وليعظم الرغبة، فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه).
«وليعظِّم الرغبة» أي ليسأل ما شاء من قليل أو كثير ولا يقل: هذا كثير لا أسأل الله إياه، (فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه) أي لا يكون الشيء عظيماً عنده حتى يمنعَه ويبخلَ به سبحانه وتعالى، وذلك لسعة جوده وكرمه لا يعظم عليه إعطاء شيء.
ومما تقدم يتبين أن النهي عن قول: اللهم اغفر لي إن شيئت. لوجوه ثلاثة:
1- أنه مشعر بأن الله له مكره على الشيء وأن وراءه من يستطيع أن يمنعه فكأن الداعي بهذه الكيفية يقول لا أكرهك إن شئت فاغفر وإن شئت فلا تغفر.
2- أن قوله: (إن شئت) كأنه يرى هذا الأمر عظيماً على الله فقد لا يشاؤه لعظمته عنده كمن يقول لشخص أعطني مليون ريال إن شئت فعلق طلبه بالمشيئة لأجل أن يهون عليه المسألة والله جل وعلا لا يليق في حقه أن يعلق الدعاء بالمشيئة لأنه لا يتعاظمه شيء أعطاه.
3- أنه يشعر باستغناء الداعي عن الله تعالى كما تقدم في أول الباب.
ويدخل في النهي تعليق الدعاء بقول: إن شاء الله. كقول بعضهم: فلان رحمه الله إن شاء الله. لما فيه من تعليق الدعاء بالمشيئة، ولدخوله في علة النهي، فعموم المعنى المستفاد من قوله: (فإن الله لا مكره له) يشمل هذا أيضا.
وأما ما جاء عن النَّبِيُّ ﷺ أنه إِذَا دَخَلَ عَلَى مَرِيضٍ يَعُودُهُ قَالَ: «لاَ بَأْسَ، طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ» رواه البخاري 3616، فهذا ليس دعاء، وإنما هو خبر، ومثله قوله ﷺ إِذَا أَفْطَرَ: «ذَهَبَ الظَّمَأُ وَابْتَلَّتِ الْعُرُوقُ، وَثَبَتَ الْأَجْرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ» رواه أبو داود 2357، وحسنه الألباني. فهذا ليس من باب الدعاء، بل من باب الخبر، والخبر يحسن تقييده بالمشيئة.
ولو قال: اللهم اغفر لي إن أردت. فالحكم واحد لأن الإرادة هنا كونية فهي بمعنى المشيئة.
54- بــابٌ لا يقول: عبدي وأمتي
عبدي للغلام، وأمتي للجارية.
لا يقول ذلك لما فيه من الإيهام من المشاركة في الربوبية فنهي عن ذلك أدباً مع جناب الربوبية وحماية جناب التوحيد.
فتحقيق التوحيد لا يكون إلا بالبعد عن الألفاظ التي هي خلاف الأدب مع ربوبية الله تعالى أو مع أسمائه وصفاته ولهذا عقد المؤلف هذا الباب.
والبشر كلهم عبيد لله عز وجل، إما بالعبودية العامة أو بالعبودية الخاصة، فالعبودية العامة لله تعم كل من في السماوات والأرض، كما قال تعالى: ﱩ Á Â Ã Ä Å Æ Ç È É Ê Ë ﱨ فهم كلهم تحت قهره وتصرفه وتدبيره سبحانه، وهذه تشمل الكافر فهو عبد لله بهذا المعنى، والعبودية الخاصة هي عبادة المؤمنين لربهم، بالذل والخضوع والتقرب إليه سبحانه.
فإذا قال الرجل لرقيقه: هذا عبدي، أو قال لأمته: هذه أمتي، كان قد نسب العبودية له، وهذا فيه منافاة لكمال الأدب الواجب مع الله تعالى، ولهذا كان هذا اللفظ غير جائز عند بعض أهل العلم، ومكروه عند آخرين.
(في الصحيح عن أبي هريرة I، أن رسول الله ﷺ قال: (لا يقل أحدكم: أطعم ربك، وضئ ربك، وليقل: سيدي ومولاي، ولا يقل: عبدي وأمتي، وليقل: فتاي وفتاتي، وغلامي))
في الصحيح: أي الصحيحين.
«لا يقلْ أحدكم: أطعم ربك»: هذا نهي عن هذا اللفظ، وهو أن يقول ذلك لعبد غيره، ويحتمل أن يشمل قول السيد لعبده: أطعم ربك. حيث جعل الظاهر موضع المضمر تعاظماً.
وينهى عن قول: أطعم ربك. وضئ ربك. والذي فيه الإضافة إلى المخاطب كما في ورد في هذا الحديث لأمرين:
1- من جهة الصيغة لأنه يوهم معنى فاسداً بالنسبة لكلمة رب لأن الرب من أسماء الله سبحانه، وهو سبحانه يُطعِم ولا يُطعَم، وإن كان بلا شك أن الرب في قول القائل: أطعم ربك. لا يريد به رب العالمين الذي يُطعِم ولا يُطعَم، ولكن يُنهى عن ذلك من باب الأدب في اللفظ.
2- من جهة المعنى أنه يشعر العبد أو الأمة بالذل لأنه إذا كان السيد رباً كان العبد أو الأمة مربوباً.
وأما قوله تعالى في سورة يوسف: ﱩ ¨ © ª ﱨ [يوسف: 42]
فأجيب عنه بجوابين:
1- وهو الأظهر أن هذا جائز في شرع من قبلنا وقد ورد شرعنا بخلافه.
2- أنه ورد لبيان الجواز والنهي للأدب والتنزيه دون التحريم.
قوله: (وليقل سيدي ومولاي)
فهم المصنف رحمه الله تعالى كما في مسائل هذا الباب أنه إذا كان غير العبد قد نُهي أن يقول للعبد: أطعم ربك. فالعبد من باب أولى أن يُنهى عن قول: أطعمت ربي وضأت ربي بل يقول: سيدي ومولاي.
وقوله: سيدي. السيادة في الأصل علو المنزلة لأن منها السؤدد والشرف والجاه ونحو ذلك
والسيد على وجه الإطلاق من غير إضافة لا يقال إلا لله تعالى لحديث: «السيد الله» رواه الإمام أحمد عن ابن الشخير I.
وأما السيد مضافا فإنه يكون لغير الله كما قال سبحانه: ﱩ Y Z [ \] ﱨ [يوسف: 25]
وقال ﷺ: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة». وذلك لأن للبشر سيادة تناسبه.
فإن قيل ما الفرق بين الرب والسيد ما دام أنهما من أسماء الله تعالى؟
فالجواب:
أن الرب من أسماء الله تعالى اتفاقاً بلا خلاف والسيد فمختلف فيه هل هو من أسماء الله تعالى أم لا؟
فإن قلنا إنه ليس من أسماء الله تعالى فالفرق واضح إذ لا التباس، وإن قلنا إنه من أسمائه فليس في الشهرة والاستعمال كلفظ الرب فيحصل الفرق وحينئذٍ جاز الإطلاق.
قال في التيسير: «وحديث ابن الشخير لا ينفي إطلاق لفظ السيد على غير الله بل المراد أن الله هو الأحق بهذا الاسم».
قوله: (ومولاي) المولى يطلق على معان كثيرة منها الناظر والمولى المعتِق والمالك وغيرهم فلا بأس أن يقول في مخاطباته للبشر: مولاي.
والوَلاية تنقسم إلى قسمين:
وَلاية مطلقة: وهذه لله عز وجل فلا تصلح لغيره كالسيادة المطلقة.
وَلاية الله نوعان:
1- عامة وهي الشاملة لكل أحد: ﱩ A B C D E F G H I J K L M N O P QR ﱨ [الأنعام: 62]
2-وَلاية خاصة بالمؤمنين قال تعالى: ﱩ Õ Ö × Ø Ù Ú Û Ü Ý Þ ß à ﱨ [محمد: 11]
والقسم الثاني: ولاية مقيدة مضافة فهذه تكون لغير الله ولها في اللغة معانٍ كثيرة منها الناصر والمتولي للأمور والسيد والعتيق. قال تعالى: ﱩ h i j k l m n o p qr s t u v w ﱨ [التحريم: 4]
وقال ﷺ : «من كنت مولاه فعلي مولاه».
وقال ﷺ: “إنما الولاء لمن أعتق» متفق عليه.
ويقال للسلطان ولي الأمر وللعتيق مولى فلان لمن أعتقه وعليه يعرف أنه لا وجه لاستنكار بعض الناس لمن خاطب ملكاً بقوله: مولاي، لأن المراد بمولاي أي متولي أمري ولا شك أن رئيس الدولة يتولى أمورها كما قال الله تعالى: ﱩ Ç È É Ê Ë Ì Í Î Ï ÐÑ ﱨ [النساء: 59]
55- بــاب لا يُردُّ من سأل الله
هذا الباب مع الأبواب التي سبقته كلها في تعظيم الله سبحانه وتعالى وربوبيته وأسمائه وصفاته لأن تعظيم ذلك من كمال التوحيد وتحقيقه، ومن سأل غيره بالله كأن يقول مثلاً: أسألك بالله أن تعطيني كذا وكذا. فهذا قد سأل بعظيم، ومن استعاذ بالله كذلك فقد استعاذ بعظيم، وهو الله جل جلاله الذي له ملك السماوات والأرض، فكيف يُردُّ من جعل الله عز وجل وسيلة في سؤاله؟ ولهذا فمن تعظيم الله تعالى التعظيم الواجب ألا يُرد أحد سأل بالله تعالى تعظيما لله تعالى، لأن الموحد المعظم لله تعالى إذا ذُكر الله تعالى حصل في قلبه الوجل كما قال سبحانه: ﱩ 7 8 9 : ; < = > ﱨ [الأنفال: 2] وذلك لعلمهم بالله سبحانه وما يستحق وعلمهم بعظمته.
مسألة: هل يجوز للإنسان أن يسأل بالله أم لا؟
الجواب: السؤال من حيث هو مكروه ولا ينبغي للإنسان أن يسأل أحداً شيئاً إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك يدل لذلك أن النبي ﷺ بايع الصحابة M ألا يسألوا الناس شيئاً، قال الراوي: فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحداً يناوله إياه. رواه مسلم.
والمعنى يقتضيه لأن من أعز نفسه ولم يذلها بسؤال الناس صار له منعة واحترام عندهم باختلاف السائل لهم فإنه يذل نفسه.
ومن أنواع السؤال من يسأل الناس أموالهم تكثُّرا، وقد أغناه الله عز وجل عن ذلك، ومع ذلك يذل نفسه بسؤالهم، ويأخذ مالا لا يحل له، وقد ورد في ذلك وعيد شديد، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ I قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ سَأَلَ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا، فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ» رواه مسلم 1041، وقال النَّبِيَّ ﷺ: «لَا تَزَالُ الْمَسْأَلَةُ بِأَحَدِكُمْ حَتَّى يَلْقَى اللهَ، وَلَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ» - أي قطعة لحم - رواه البخاري 1474 ومسلم 1040.
أما من كان محتاجا، ولم يجد بداً من سؤال الناس، لفقرة جاز له السؤال، لكن لا يأخذ من المال إلا بقدر ما تندفع به حاجته، لما روى قبيصة بنُ مخارق I أن النبي ﷺ قال له: «يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة» وهم: رجل تحمَّل حَمالة – أي دينا - ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله، ورجل أصابته فاقة. ثم قال: «فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحتا يأكلها صاحبها سحتا» رواه مسلم 1044.
ومع جواز السؤال عند الحاجة إلا أن الأولى أن يتعفف المؤمن عن سؤال الناس قدر الإمكان، وأن يستغني بالله تعالى، ويُعظِم رجاءه به وتوكله عليه، وسؤاله وحده، لقوله ﷺ: «وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ» رواه البخاري 1469 ومسلم 1053.
وأما سؤال المعونة بالجاه أو المعونة بالبدن فهذه مكروهة إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك.
أما إجابة السائل فلا يخلو:
1- أن يسأل سؤالاً مجرداً كأن يقول: أسألك أن تعطيني كذا. يعني من الأمور المباحة فيجوز إعطاؤه.
2- أن يسأل بالله تعالى فهذا يجاب وإن لم يكن مستحقاً لأنه سأل بعظيم فإجابته من تعظيم هذا العظيم لكن من سأل إثماً أو في إجابته ضرر على المسؤول فإنه لا يجاب.
عن ابن عمر L قال: قال رسول الله ﷺ: (من استعاذ بالله فأعيذوه، ومن سأل بالله فأعطوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى ترون أنكم قد كافأتموه). رواه أبو داود والنسائي بسند صحيح.
قوله: (من سأل بالله فأعطوه) من سأل بالله تعالى فإنه يعطى لتعظيم اسم الله تعالى الذي سأل به السائل.
وظاهر هذا الحديث وجوب إعطاء السائل بالله تعالى ما لم يسأل إثماً وقطيعة رحم أو ما فيه ضرر على المسؤول.
واختار الوجوب الشيخ سليمان في التيسير والشيخ ابن عثيمين رحمهما الله تعالى.
والقول الثاني: الاستحباب ولا يجب أن يجيب، ويكره الرَّدّ.
والقول الثالث: التفصيل وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية فإن توجه السؤال المعين في أمر معين يعني ألا يكون السائل سائلاً عدداً من الناس ليحصل على شيء فهذا تجب إجابته ويحرم رده فإذا خص شخصاً بالسؤال بالله تعين عليه إجابته إذا كان قادراً. فلهذا لا يدخل فيه السائل الذي يسأل هذا وهذا من الناس كما لا يدخل فيه من يكون كاذباً في سؤاله.
أما إذا لم يتوجه إلى معين في أمر معين كأن يسأل أشخاصاً كثيرين فهنا لا يجب وإنما يستحب أن يجاب.
قوله: (ومن استعاذ بالله فأعيذوه) أي من سألكم أن تدفعوا عنه شركم أو شر غيركم بالله فأعيذوه كقوله: بالله عليك أن تدفع عني شرَّك أو شرِّ فلان ونحو ذلك فأعيذوه أي امنعوه مما استعاذ منه وكفوه عنه لتعظيم اسم الله تعالى، فيجب أن يعاذ لأنه استعاذ بعظيم.
ولهذا في حديث ابنة الجون التي قالت للرسول ﷺ لما دخل عليها: أعوذ بالله منك. قال لها: «لقد عذت بعظيم، الحقي بأهلك» رواه البخاري.
لكن يستثنى من ذلك من استعاذ من أمر واجب عليه فإنه لا يعاذ كمن يُلزم بفعل الواجب أو ترك المحرم فيقول أعوذ بالله منك. فهذا لا يعاذ لما في ذلك من التعاون على الإثم والعدوان، ولأن الله لا يعيذ عاصياً بل هو مستحق للعقوبة لا الانتصار له وإعانته.
قوله: (ومن دعاكم فأجيبوه) أي دعوة طعام فإن كان وليمة عرس فهي واجبة على الصحيح من أقوال أهل العلم إذا توفرت شروط الوجوب التي يذكرها الفقهاء، وإن كانت غير عرس فالجمهور على أن الإجابة مستحبة ولا تجب.
قوله: (ومن صنع إليكم معروفاً فكافئوه)
المعروف اسم جامع للخير وقيل المعروف الإحسان فكافئوه على إحسانه بمثله أو خير منه.
وإنما شرعت المكافأة على المعروف لأن القلوب جبلت على محبة من أحسن إليها فهو إذا أحسن إليه ولم يكافئه يبقى في قلبه نوع ميل وذل لمن أحسن إليه فشرع قطع ذلك بالمكافئة فهذا معنى كلامه. وقال غيره إنما أمر بالمكافئة ليخلص القلب من إحسان الخلق ويتعلق بالحق.
لكن إذا كان المحسن كبير الشأن ولم تجر العادة بمكافأته فلا يمكن أن تكافئوه كالملك والرئيس مثلاً إذا أعطاك هدية فمثل هذا يدعى له لأنك لو كافأته لرأى أن في ذلك غضاً من حقه فتكون مسيئاً له والنبي ﷺ أراد أن تكافئه لإحسانه.
فالفقير الذي لا يجد ما يكافئ به الغني المحسن إليه فإنه يدعو له، ويكون الدعاء بعد الإهداء أو حصول المعروف مباشرة لأنه من باب المسارعة إلى الأمر ولما فيه من إدخال السرور على صانع المعروف.
ولهذا قال ﷺ: «فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه».
(تروا): بفتح التاء بمعنى تعلموا. وتجوز بالضم بمعنى تظنوا أي حتى تعلموا أو يغلب على ظنكم أنكم قد كافأتموه.
فالمراد المبالغة في الدعاء للمحسن ووجه ذلك أنه رأى في نفسه تقصيراً في المجازاة لعدم القدرة عليها فأحالها إلى الله ونعم المجازي هو.
وعن أسامة I مرفوعاً: «من صنع إليه معرف فقال لفاعله: «جزاك الله خيراً فقد أبلغ في الثناء» رواه الترمذي.
56-بــابٌ لا يسأل بوجه الله إلا الجنة
مناسبة الباب لكتاب التوحيد:
أن من تعظيم الله جل وعلا تعظيم صفاته سبحانه، فتعظيمها من كمال الأدب مع الله تعالى ومن تحقيق التوحيد، ومن ذلك التعظيم ألا يُسأل اللهُ تعالى بوجهه إلا المطالب العالية التي أعلاها الجنة.
(عن جابر I قال: قال رسول الله ﷺ: (لا يسأل بوجه الله إلا الجنة). رواه أبو داود)
قوله: (لا يُسأل بوجه الله إلا الجنة)
اختلف في المراد بذلك على قولين:
1- أن المراد لا تسألوا أحداً من المخلوقين بوجه الله؛ لأنه لا يُسأل بوجه الله إلا الجنة، والخلق لا يقدرون على إعطاء الجنة، فإذاً لا يُسألون بوجه الله مطلقاً.
2- أنك إذا سألت الله فإن سألت الجنة وما يستلزم دخولها فلا حرج أن تسأل بوجه الله تعالى، وإن سألت شيئاً من أمور الدنيا فلا تسأله بوجه الله عز وجل؛ لأن وجه الله أعظم من يُسأل به شيئاً من أمور الدنيا.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى: ولو قيل إنه يشمل المعنيين لكان له وجه.
وقوله: (بوجه الله) فيه إثبات صفة الوجه لله تعالى على ما يليق بجلاله وعظمته وقد دل عليه قوله تعالى: ﱩ f g h i jk ﱨ [القصص: 88] وقوله: ﱩ J K L M N O P ﱨ [الرحمن: 27] وقوله: ﱩ I J K L M ﱨ [الرعد: 22]
ومن السنة الحديث المتقدم: «أعوذ بوجهك»
والحاصل أن السؤال بوجه الله تعالى إنما يكون في المقاصد العالية كدخول الجنة والنجاة من النار ونحو ذلك، لأن هذا من تعظيم صفات الله تعالى، ومن الأدب مع الله عز وجل، وأما في غير المطالب العالية فلا يجوز ولا يليق أن يسأل العبد ربه شيئا من ذلك بوجهه.
57-بــابُ ما جاء في الّلو
«ال» لا تدخل إلا على الأسماء، لكن مراد المصنف رحمه الله تعالى لفظ (لو) أي ما جاء في هذا اللفظ.
ولم يجزم المصنف رحمه الله تعالى في هذا الباب بالحكم وذلك لأن لو تستعمل على عدة أوجه:
1- أن تستعمل في الاعتراض على الشرع وهذا محرم قال تعالى: ﱩ R S T U V W X YZ ﱨ [آل عمران: 168] وهذه الآية في غزوة أحد حينما تخلف عبد الله بن أُبي ومن معه من الجيش وقُتل من المسلمين سبعون رجلاً اعترض المنافقون على أمر النبي ﷺ وقالوا لو أطاعونا ورجعوا كما رجعنا ما قتلوا وهذا محرم وقد يصل إلى الكفر.
2- أن تستعمل في الاعتراض على القدر وهذا محرم أيضاً قال تعالى: ﱩ¯ ° ± ² ³ ´ µ ¶ ¸ ¹ º » ¼ ½ ¾ ¿ À Á Â Ã Ä Å Æ ﱨ [آل عمران: 156] فهذا اعتراض على القدر.
3- أن تستعمل للندم والتحسر، وهذا محرم أيضاً لأن كل شيء يفتح الندم عليك فإنه منهي عنه لأن الندم يحصل معه للنفس حزناً وانقباضاً والله يريد منا أن نكون في انشراح وانبساط قال ﷺ: “احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز . .” مثل شخص اشترى شيئاً ثم خسر فيه فقال لو أني لم أشتره لما خسرت فهذا ندم وتحسر وهو منهي عنه.
4- أن تستعمل في الاحتجاج بالقدر على المعصية كقول المشركين: ﱩ 2 3 4 5 6 ﱨ [الأنعام: 148] وهذا باطل.
5- أن تستعمل في التمني وحكمه حكم المتمني إن كان خيراً فخير وإن كان شراً فشر، ففي الترمذي عن النبي ﷺ في قصة النفر الأربعة قال أحدهم: «لو أن لي مالاً لعملت بعمل فلان». فهذا تمني خيراً وقال الثاني: «لو أن لي مالاً لعملت بعمل فلان» فهذا تمنى شراً.
6- أن تستعمل في الخبر المحض وهذا جائز مثل لو حضرت الدرس لاستفدت ومنه قوله ﷺ: «لو استقدمت من أمري ما استدبرت ....» وقيل إنه من باب التمني والظاهر أنه خبر والنبي ﷺ لا يتمنى شيئاً قدر الله خلافه.
مناسبة الباب لكتاب التوحيد:
أن من جملة أقسام «لو» الاعتراض على القدر، ومن اعترض على القدر فإنه لم يحقق توحيد الربوبية ومن كمال التوحيد الاستسلام للقضاء والقدر، والعبد مأمور عند المصائب بالصبر، وقول (لو) لا يجدي عليه إلا الحزن والتحسر.
فقلب الموحد لا يكون مكملاً محققاً للتوحيد حتى يعلم أن كل شيء بقضاء الله عز وجل وبقدره وأن ما يفعله العبد سبب من الأسباب وأن العبد مهما فعل فإنه لن يمنع قدر الله تعالى، وحينئذٍ يقوم في القلب تعظيم لله عز وجل في تصرفه في الكون ولا يتمنى أن يكون شيء فات على غير ما كان وأنه لو فعل كذا لتغير ذلك الذي حدث، بل الواجب أن يعلم أن قضاء الله نافذ، وإذا استعمل لفظ «لو» أو لفظ «ليت» وما أشبهها من الألفاظ التي تدل على الندم وعلى التحسر على ما فات فإن ذلك يضعف القلب ويجعله متعلقاً بالأسباب منصرفاً عن الإيقان بتصريف الله جل وعلا في ملكه وكمال التوحيد إنما يكون بعدم الالتفات إلى الماضي.
ولهذا عقد المصنف رحمه الله تعالى هذا الباب لأن كثيرا من الناس يعترضون على القدر من جهة أفعالهم ويظنون أنهم لو فعلوا أشياء لتغير الحال والله جل وعلا قد قدر الفعل وقدر نتيجته فالكل موافق لحكمته سبحانه وتعالى.
وقول الله تعالى: (يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا)
الضمير في قوله: ﱩ = ﱨ للمنافقين.
ﱩ U V ﱨ أي ما قتل بعضنا.
ﱩ O P Q R S T U V WX ﱨ وهذا في معركة أحد وهذا القول منهم إما أن يكون اعتراضاً على الشرع أو على القدر، أي لو كان لنا من حسن التدبير والرأي شيء ما خرجنا لنقتل فهذا اعتراض على القدر، أو لو كان الأمر بموافقتنا لأنهم عتبوا على الرسول الله ﷺ حين خرج بدون موافقتهم فهذا اعتراض على الشرع.
قال تعالى: ﱩ Y Z [ \ ] ^ _ ` a b c de ﱨ [آل عمران: 154] أي هذا قدر مقدر من الله عز وجل وحكم حتم لازم لا محيد عنه ولا مناص منه.
(وقوله: (الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا) الآية)
روى ابن جرير عن السدي قال: خرج رسول الله ﷺ يوم أحد في ألف رجل وقد وعدهم الفتح إن صبروا فلما خرجوا رجع عبد الله بن أُبي في ثلاث مائة فتبعهم أبو جابر السلمي يدعوهم فلما غلبوه وقالوا له: ما نعلم قتالاً ولئن أطعتنا لترجعن معنا فنزل: ﱩ R S T U V W X YZ [ \ ] ^ _ ` a b c ﱨ [آل عمران: 168]
فعلى هذا إخوانهم هم المسلمون المجاهدون وسموا إخوانهم لموافقتهم في الظاهر وقيل إخوانهم في النسب لا في الدين. ولو قيل إنه شامل للأمرين لكان صحيحاً.
وقوله: ﱩ V W X YZ ﱨ أي لو سمعوا مشورتنا عليهم في القعود وعدم الخروج ما قتلوا مع من قتل. قال تعالى: ﱩ [ \ ] ^ _ ` a b c ﱨ أي إن كان القعود يسلم به الشخص من القتل والموت فينبغي أنكم لا تموتون والموت لا بد منه آت إليكم ولو كنتم في بروج مشيدة فادفعوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين.
وكان عبد الله بن أُبي قد أشار على رسول الله ﷺ يوم أحد بعدم الخروج فلما قدَّر الله الأمر قال ذلك تصويباً لرأيه ورفعاً لشأنه فرد الله عليه وعلى أمثاله: ﱩ [ \ ] ^ _ ` a b c ﱨ فعلم أن ذلك بقضاء الله وقدره.
وجه الدلالة من الآيتين:
أن التحسر على الماضي بالإتيان بلفظ (لو) إنما هو من خصال المنافقين، وهذا يدل على تحريمها.
ولأن من قُدِّر عليه شيء لا بد أن يناله فلا يغني عنه شيء بعد وقوعه أن يقول (لو) (ليت) إلا الحسرة والندامة والواجب في مثل ذلك الصبر والإيمان بالقدر والتعزي بما يرجى من حسن الثواب.
(في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجزن، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت لكان كذا وكذا؛ ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان).
في الصحيح: أي مسلم.
وهذا الحديث أوله قوله ﷺ: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير» ثم قال: «احرص على ما ينفعك ...»
والمراد بالقوي أي في إيمانه.
(احرص على ما ينفعك) بفتح الراء وكسرها والحرص هو بذل الجهد لنيل ما ينفع من أمر الدين والدنيا.
(واستعن بالله) الاستعانة طلب العون أي اطلب الإعانة في جميع أمورك من الله لا من غيره كما قال سبحانه: ﱩ 2 3 4 5 6 ﱨ [الفاتحة: 5] فإن العبد عاجز لا يقدر على شيء إذا لم يعنه الله عليه فلا معين له على مصالح الدين والدنيا إلا الله سبحانه وتعالى فمن أعانه فهو المعان ومن خذله فهو المخذول.
وفي خطبة الحاجة كان النبي ﷺ يقول: «إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ....»
وفي حديث معاذ I مرفوعاً: «اللهم أعني على ذكرك ....» رواه أبو داود.
وعند الترمذي مرفوعاً: «اللهم أعني ولا تعن علي»
أما الاستعانة بالمخلوق فتجوز فيما يقدر عليه كما تستعين بالمخلوق في حمل متاع ونحو ذلك.
قوله: (ولا تعجز) أي لا تفعل فعل العاجز من التكاسل وعدم الحزم، وليس المعنى: لا يصيبك عجز لأن العجز عن الشيء بغير اختيار الإنسان ولا طاقة له به فلا يتوجه عليه نهي.
فيجمع العبد بين الحرص على ما ينفع وعدم التكاسل عنه لأن بعض الناس يبدأ في عمل ينفعه ويحرص عليه ثم يتعاجز ويتكاسل عنه ويدعه فهذا خلاف ما أمر به النبي ﷺ فما دام أن هذا الشيء نافع لك فلا تدعه لكن إن ظهر في أثناء العمل أنه ضار فهنا يتركه.
قوله: (فإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل).
أرشده إلى ما ينفعه في حالة فوات مطلوبه وهو أن يرد الأمر إلى قدر الله تعالى وأنه لو قدر له لم يفته.
وقوله: (قدَرُ الله) أي هذا قدرُ الله، وقدَرُ بمعنى مقدور؛ لأن قدَرَ الله يطلق على التقدير الذي هو فعل الله ويطلق على المقدور الذي وقع بتقدير الله وهو المراد هنا.
وهذا فيه التسليم التام بقضاء الله عز وجل.
(فإن لو تفتح عمل الشيطان) أي فإن هذا اللفظ (لو) تفتح عمل الشيطان وهو ما يلقيه في القلب من الحسرة والندم والحزن فإن الشيطان يحب أن يصاب العبد بذلك.
أما قوله ﷺ: «لولا حدثان قومك بالكفر ......» متفق عليه.
وحديث: «لو كنت راجماً بغير بينة لرجمت هذه» متفق عليه.
وحديث: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك ...» متفق عليه.
فهذا وشبهه كله مستقبل لا اعتراض فيه على قدر ولا كراهة فيه لأنه إنما أخبر عن اعتقاده فيما كان يفعل لولا المانع وعما هو في قدرته وأما ما ذهب فليس في قدرته.
ومن ذلك أيضاً قول أبي بكر I في الغار: «لو أن أحدهم رفع رأسه لرآنا».
وتقدم الكلام على حديث: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت ...» فهو أيضاً على أمر مستقبل وليس فيه اعتراض على القدر بل اخبار لهم عما كان يفعل في المستقبل لو حصل ولا خلاف في جواز ذلك.
وجه الدلالة من الحديث: أن قوله: (فلا تقل لو أني ...) هذا نهي عن قول «لو» على أمر مضى، والأصل في النهي التحريم.
بــاب النهي عن سب الريح
جاء النهي عن سب الريح لأنها مأمورة، ولا تأثير لها في شيء إلا بأمر الله تعالى، فسبها كسب الدهر، وقد تقدم النهي عنه، فكذلك الريح فسبها يرجع في الحقيقة إلى أذية الله جل وعلا لأن الله هو الذي يصرف الريح كيف يشاء فيجعلها تأتي بأمر مكروه كالعواصف المدمرة ليذكِّر العباد بالتوبة والإنابة ويذكِّرهم بمعرفة قدرته عليهم جل وعلا وأنه لا غنى لهم عنه جل وعلا طرفة عين وهو الذي يجعل الرياح تأتي بالخير، فيسخرها لما فيه مصالح العباد.
فهذا الباب عقده المصنف رحمه الله تعالى لبيان تحريم سب الريح كما عقد باب النهي عن سب الدهر، وهذا الباب من جنس ذاك لكن سب الريح يكثر وقوعه فأفرده بباب مستقل للحاجة إلى التنبيه إليه.
سب الريح يكون بشتمها ولعنها والقدح فيها وعيبها.
وإنما نهي عن سب الريح لأن سبها سب لخالقها فسب المخلوق سب لخالقه فإذا وجد بيت فيه عيب فسبه شخص فالسب يتجه إلى من بناه وهكذا، والريح مسخرة بحسب ما تقتضيه حكمه الله تعالى.
وليس من سب الريح أن توصف بالشدة كقوله تعالى: ﱩ µ ¶ ¸ ¹ º » ¼ ﱨ [الحاقة: 6]
والريح الصرصر هي الشديدة البرد، والعاتية: القاسية التي جاوزت الحد بشدة هبوبها وطول زمنها وشدة بردها.
ومثل ذلك وصفها بالأوصاف التي يكون فيها شر على من أتت عليه كقوله تعالى: ﱩ q r s t u v w x y z ﱨ [الذاريات: 42]
عن أبي بن كعب I أن رسول الله ﷺ قال: (لا تسبوا الريح، فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح، وخير ما فيها، وخير ما أمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح، وشر ما فيها، وشر ما أمرت به) صححه الترمذي.
قوله: «لا تسبوا الريح « هذا نهي يدل على التحريم.
وإذا كانت الريح معها الضرر على العباد فلا يجوز سبها بل الواجب التوبة لأن ذلك بأمر الله تعالى. وقد يكون في هذا الضرر بها رحمة للعباد.
وروى أبو داود عن ابن عباس L أن رجلاً لعن الريح فقال النبي ﷺ: «لا تلعنها فإنها مأمورة وأن من لعن شيئاً ليس له بأهل رجعت اللعنة عليه».
قوله: (فإذا رأيتم ما تكرهون) أي من الريح إما شدة حرها أو بردها أو قوتها.
فقولوا: «اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها» أي ما تحمله فإنها قد تحمل خيراً كتلقيح الثمار والرائحة الطيبة ونحو ذلك.
«وخير ما أمرت به» كالسحب.
(ونعوذ بك) أي نعتصم ونلجأ بك (من شر هذه الريح ...) أي ما تحمل من الأشياء الضارة من الأمراض ونحو ذلك.
(وشر ما أُمرت به) كإهلاك الأمم ونحو ذلك.
فدل هذا الحديث على أن الريح مأمورة بأمر الله تعالى وللريح ملائكة تصرفها كيف شاء الله تعالى.
وكان ﷺ إذا تخيلت السماء دخل وخرج وتغير وجهه فإذا أمطرت سري عنه فسألته عائشة J عن ذلك فقال: لعله يا عائشة كما قال قوم عاد: ﱩW X Y Z [ \ ] ^ _` a b c d ef g h i j k ﱨ [الأحقاف: 24] متفق عليه.
وروى البخاري في الأدب المفرد عن سلمة ابن الأكوع قال: كان إذا اشتدت الريح يقول: «اللهم لاقحاً لا عقيماً».
بــاب قول الله تعالى: (يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله) الآية.
مناسبة الباب لكتاب التوحيد:
أراد المصنف رحمه الله تعالى بهذه الترجمة التنبيه على وجوب حسن الظن بالله عز وجل؛ لأن ذلك من واجبات التوحيد، وقد ذم اللهُ من أساء الظن به، لأن حسن الظن بالله عز وجل ينشأ من العلم بحقائق صفاته سبحانه، كالعلم برحمته وعزته وإحسانه وقدرته وعلمه وغيرها من الصفات، فإذا تم العلم بذلك أثمر للعبد حسن الظن بالله عز وجل.
وقد جاء الحديث القدسي قال الله: «أنا عند حسن ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني» متفق عليه.
وعن جابر I أنه سمع النبي ﷺ قبل وفاته بثلاث يقول: «لا يموتن أحدكم وإلا وهو يحسن بالله الظن» رواه مسلم.
فمن كمال الله تعالى في ربوبيته وفي أسمائه وصفاته أنه لا يفعل الشيء إلا لحكمة، فوجب أن يظن به الحق وألا يظن به ظن السوء، والذي يظن به جل وعلا أنه يفعل الأشياء لغير حكمة فقد ظن به ظن السوء الذي ظنه أهل الجاهلية.
قوله: ﱩ 1 2 3 4 ﱨ
الضمير في (يظنون) للمنافقين والأصل في الظن أنه الاحتمال الراجح وقد يطلق على اليقين كما في قوله تعالى: ﱩ « ¬ ® ¯ ° ± ² ³ ´ ﱨ [البقرة: 46]
وقوله: ﱩ É Ê Ë Ì Í Î ﱨ [الكهف: 53]
فالمراد هنا اليقين والذي يحدد المعنى هو السياق وضد الاحتمال الراجح (المرجوح) يُسمى وهماً
وقوله: (ظن الجاهلية) عطف بيان لقوله (غير الحق) أي يظنون بالله ظن الملة الجاهلية التي لا يعرف الظان فيها قدر الله وعَظَمته فهو ظن باطل مبني على الجهل.
والظن بالله عز وجل على نوعين:
1- أن يظن بالله خيراً وهذا له متعلقان:
أ- متعلق بالنسبة لما يفعله جل وعلا في هذا الكون فهذا يجب عليك أن تحسن الظن بالله عز وجل فيما يفعله سبحانه وتعالى في هذا الكون وأن تعتقد أن ما فعله إنما هو لحكمة بالغة.
ب- متعلق بالنسبة لما يفعله بك أيها العبد فهذا يجب أن تظن بالله أحسن الظن لكن بشرط أن يوجد لديك السبب الذي يوجب الظن الحسن وهو أن تعبد الله على مقتضى شريعته مع الإخلاص فإذا فعلت ذلك فعليك أن تظن أن الله تقبل منك ولا تسيء الظن بالله بأن تعتقد أنه لن يقبل منك وكذلك إذا تاب الإنسان من الذنب فيحسن الظن بالله أنه يقبل منه وأما إن كان الإنسان مفرطاً في الواجبات فاعلا للمحرمات وظن بالله ظناً حسناً فهذا هو ظن المتهاون المتهالك في الأماني الباطلة بل هو من سوء الظن بالله إذ إن حكمة الله تأبى مثل ذلك.
2- أن يظن بالله شراً أو سوءاً مثل أن يظن في فعله جل وعلا سفهاً أو ظلماً أو نحو ذلك فإنه من أعظم المحرمات وأقبح الذنوب كما ظن هؤلاء المنافقون وغيرهم ممن يظن بالله غير الحق.
قوله: ﱩ 8 9 : ; < = >? ﱨ
هذا الظن الباطل هنا هو التكذيب بالقدر، وظنهم أن الأمر لو كان إليهم وكان رسول الله ﷺ وأصحابه تبعاً لهم يسمعون منهم لما أصابهم القتل ولكان النصر والظفر لهم، وهذا كان في غزوة أحد، فكذبهم الله عز وجل في هذا الظن الباطل الذي هو ظن الجاهلية بقوله: ﱩ @ A B C DE ﱨ فلا يكون إلا ما سبق قضاؤه وقدره.
وقوله: ﱩ 1 2 3 4 5 67 ﱨ كما في الآية الأخرى: ﱩf g h i j k l m n o p q r sﱨ [الفتح: 12] وهكذا هؤلاء اعتقدوا أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة أنها الفاصلة وأن الإسلام قد ذهب وأهله.
(وقوله: (الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء) الآية)
وقوله: ﱩ l m n op q r st u v w x y z {| } ~ ﱨ [الفتح: 6] المراد بهم المنافقون والمشركون.
قال تعالى في أول الآية: ﱩ g h i j k l m n op q r st u v w x y z {| } ~ ﱨ فالمراد أنهم يتهمون الله تعالى في حكمه ويظنون بالرسول ﷺ وأصحابه أن يقتلوا ويذهبوا بالكلية ولهذا قال: ﱩ ¦ § ¨© ﱨ
أي السوء محيط بهم من كل جانب كما تحيط الدائرة بما في جوفها وأيضاً تدور عليهم دوائر السوء.
(قال ابن القيم في الآية الأولى: فسّر هذا الظن بأنه سبحانه لا ينصر رسوله، وأن أمره سيضمحل، وفسر بظنهم أن ما أصابهم لم يكن بقَدر الله وحكمته، ففسر بإنكار الحكمة، وإنكار القدر، وإنكار أن يُتم أمرَ رسوله، وأن يُظهره الله على الدين كله. وهذا هو الظن السوء الذي ظنه المنافقون والمشركون في سورة الفتح، وإنما كان هذا ظن السوء؛ لأنه ظن غير ما يليق به سبحانه، وما يليق بحكمته وحمده ووعده الصادق، فمن ظن أنه يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها الحق، أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره أو أنكر أن يكون قدره بحكمة بالغة يستحق عليها الحمد، بل زعم أن ذلك لمشيئة مجردة، فذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار).
وخلاصة ما ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى في تفسير ظن السوء ثلاثة أمور.
1- أن يظن أن الله يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة بحيث يضمحل معها الحق ولا ينصر رسوله ﷺ ولا دينه ولا عباده الصالحين فهذا هو ظن المشركين والمنافقين في سورة الفتح ﱩ f g h i j k l m n o ﱨ [الفتح: 12]
لأن من ظن هذا الظن بالله عز وجل فمعنى ذلك أن إرسال الرسول ﷺ عبث وسفه فما الفائدة من أن يُرسل رسوله ويأمره بالقتال وإتلاف الأموال والأنفس ثم تكون النتيجة أن يضمحل أمره ويُنسى فهذا بعيد، لاسيما رسول الله ﷺ الذي هو خاتم النبيين فإن الله تعالى قد أذن بأن شريعته سوف تبقى إلى قيام الساعة ومن براهين النبوات عند أهل السنة أنه لم يدّع أحد النبوة وهو كاذب في دعواه إلا وخذل واضمحل أمره ومن براهينها أن كل نبي قال إنه مرسل من عند الله جل وعلا أُيد بالآيات والبينات ونصر على عدوه وجعل دينه وأهل دينه في عزة على من سواهم كما قال عز وجل : ﱩ 5 6 7 8 9 : ; < = > ? @ ﱨ [غافر: 51] وقال جل وعلا: ﱩ ~ ¡ ¢ £ ¤ ¥ ¦ § ¨ © ª « ¬ ® ﱨ [الصافات: 171-173]
ولكن قد يبتلي الله عز وجل المؤمنين بعدم النصرة والظهور زمناً طويلاً قد يبلغ مئات السنين كما حدث في قصة نوح عليه السلام: ﱩ À Á Â Ã Ä Å Æ ﱨ [العنكبوت: 14] ثم بعد ذلك نصره الله جل وعلا.
2- أن ينكر أن يكون ما جرى بقضاء الله وقدره ووجه كون ذلك ظناً بالله ظن السوء أن تقدير الأمور قبل وقوعها من آثار عزة الله جل وعلا وقدرته فإن العاجز هو الذي تقع معه الأمور استئنافاً من غير تقدير سابق وأما الذي لا يحصل معه أمر حتى يقدره قبل أن يوقعه فيقع على وفق ما قدر فهو ذو كمال وعزة.
3- أن ينكر أن يكون قدره لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد لأن هذا يتضمن أن يكون ما يقدره الله عز وجل لعباً وسفهاً لا لحكمة، ونحن نعلم أن الله لا يقدر شيئاً إلا لحكمة لكن الحِكَم قد تظهر لنا وقد لا تدركها عقولنا، ولهذا أورد الشيخ رحمه الله تعالى هذا الباب ليبين أن تحقيق التوحيد أن توقن بأن الله يفعل لحكمة بالغة، ومن نفى الحكمة في أفعال الله فهو مبتدع توحيده قد انتفى عنه كماله لأن بدعته شنيعة، وكل البدع تنفي كمال التوحيد، ومنها ما ينفي أصل التوحيد
ثم قال ابن القيم رحمه الله تعالى: «وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختص بهم وفيما يفعله بغيرهم ولا يسلم من ذلك إلا من عرف الله وأسمائه وصفاته وموجب حكمته
وحمده فليعتن اللبيب الناصح بنفسه بهذا وليتب إلى الله وليستغفره من ظنه بربه ظن السوء ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تعنتاً على القدر وملامة له وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا فمستقل ومستكثر وفتش نفسك هل أنت سالم؟
فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة
وإلا فإني لا إِخالُكَ ناجيا)
هذا الظن السيئ يحصل من كثير من الناس بل قد يحصل من بعض المنتسبين إلى العلم وسبب ذلك عدم العلم بما يستحق الله جل وعلا وما أوجبه الله تعالى من الصبر والإنابة ونحو ذلك من الواجبات.
وبعض الناس قد ينال شيئاً فيرى أنه قد يستحق أكثر منه وقد يحصل له الشيء بقضاء الله وقدره فيظن أنه لا يستحق ذلك الشيء أو أن الذي ينبغي أن يصاب به هو غيره فينظر إلى فعل الله وقضائه وقدره على وجه الاتهام وقلّ من يسلم باطناً وظاهراً من ذلك فكثيرون قد يسلمون ظاهراً ولكن في الباطن يقوم بقلوبهم ظن الجاهلية واعتقاد السوء ، والظن محله القلب فلهذا يجب على المؤمن أن يخلص قلبه من كل ظن بالله غير الحق وأن يتعلم أسماء الله جل وعلا وصفاته وأن يتعلم آثار ذلك في ملكوت الله تعالى حتى لا يقوم بقلبه إلا أن الله جل وعلا هو الحق وأن فعله حق حتى ولو كان في أعظم خطب ولو أصيب بأكبر مصيبة أو أهين بأعظم إهانة فإنه يعتقد فيما أصابه حكمة ، ولا تظنن في أمر قدره الله أن غيره أفضل منه وأن عدم حصوله أصلح ولا في أمر قدر الله عدم كونه أن وجوده أولى فإن كل ذلك سوء ظن بالله جل وعلا.
بــاب ما جاء في منكري القدر
أي من الوعيد الشديد.
والقدر: هو تقدير الله جل وعلا للكائنات حسبما سبق به علمه واقتضته حكمته.
قال سبحانه: ﱩ ¾ ¿ À Á Â Ã ﱨ وقال: ﱩ ¢ £ ¤ ¥ ¦ § ﱨ
والإيمان بالقدر يتضمن عدة أمور: (مراتب القدر) أركانه:
1-العلم: أي الإيمان بأن الله تعالى عالم بكل شيء جملة وتفصيلا أزلا وأبدا سواء أكان فيما يتعلق بأفعاله جل وعلا أم بأفعال عباده، فعلمه سبحانه محيط بكل شيء.
قال سبحانه: ﱩ m n o p q r st u v wx ﱨ وقال جل وعلا: ﱩ Í Î Ï Ð Ñ ﱨ.
2-الكتابة: وهي الإيمان بأن الله تعالى كتب ما سبق به علمه من مقادير الخلائق إلى يوم القيامة في اللوح المحفوظ.
قال الله تعالى: ﱩ q r s t u v w x yz { | } ~ ¡ ¢ £ ¤ ¥ ¦ ﱨ وقال عز وجل: ﱩ ¹ º » ¼ ½ ¾ ¿ ﱨ أي في كتاب واضح، وهو اللوح المحفوظ.
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو L قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ، يَقُولُ: « كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ « رواه مسلم 2653.
3-المشيئة: وهي تقتضي الإيمان بمشيئة الله تعالى النافذة وقدرتِه الشاملة فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، فما يكون في هذا الكون من حركة ولا سكون ولا هداية ولا ضلالة إلا بمشيئة الله تعالى.
قال تعالى: ﱩ ¯ ° ± ² ³´ ﱨ وقال سبحانه: ﱩ È É Ê Ë Ì Í Î Ï Ð ﱨ
4-الخلق: وهي تقتضي الإيمان بأن جميع الكائنات مخلوقة لله تعالى بذواتها وصفاتها وحركاتها، وتقتضي أن ما سوى الله عز وجل فهو مخلوق موجد من العدم.
قال الله تعالى: ﱩ v w x y ﱨ وقال سبحانه: ﱩ Ê Ë Ì Í Î Ï Ð Ñ ÒÓ ﱨ
ومناسبة الباب لكتاب التوحيد: أن توحيد الربوبية لما كان لا يتم إلا بإثبات القدر ذكر المصنف ما جاء من الوعيد فيمن أنكره، تنبيها على وجوب الإيمان به.
وقال ابن عمر: والذي نفس ابن عمر بيده، لو كان لأحدهم مثل أحد ذهباً، ثم أنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر. ثم استدل بقول النبي ﷺ: (الإيمان: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره). رواه مسلم)
هذا الحديث أخرجه مسلم في صحيحه (8) عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ، قَالَ: كَانَ أَوَّلَ مَنْ قَالَ فِي الْقَدَرِ بِالْبَصْرَةِ مَعْبَدٌ الْجُهَنِيُّ، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيُّ حَاجَّيْنِ - أَوْ مُعْتَمِرَيْنِ - فَقُلْنَا: لَوْ لَقِينَا أَحَدًا مَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَسَأَلْنَاهُ عَمَّا يَقُولُ هَؤُلَاءِ فِي الْقَدَرِ، فَوُفِّقَ لَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ دَاخِلًا الْمَسْجِدَ . . . فَقُلْتُ: أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنَّهُ قَدْ ظَهَرَ قِبَلَنَا نَاسٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ، وَيَتَقَفَّرُونَ[30] الْعِلْمَ، وَذَكَرَ مِنْ شَأْنِهِمْ، وَأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنْ لَا قَدَرَ، وَأَنَّ الْأَمْرَ أُنُفٌ، قَالَ: «فَإِذَا لَقِيتَ أُولَئِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ، وَأَنَّهُمْ بُرَآءُ مِنِّي»، وَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ «لَوْ أَنَّ لِأَحَدِهِمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، فَأَنْفَقَهُ مَا قَبِلَ اللهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ» ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ، . . . قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِيمَانِ، قَالَ: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ» . . .
ففي هذا الحديث أن الإيمان بالقدر من أصول الإيمان الستة، فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره فقد ترك أصلا من أصول الدين وجحده، فيشبه من قال الله فيهم: ﱩ H I J K LM ﱨ ومن ترك أصلا من أصول الإيمان فهو كافر، وهذا الحديث قاله ابن عمر L في القدرية الغلاة، الذين أنكروا أن يكون الله عز وجل عالما بأعمال العباد قبل وقوعها.
وعن عبادة بن الصامت أنه قال لابنه: (يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، سمعت رسول الله ﷺ يقول: (إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، فقال: رب، وماذا أكتب؟ قال: أكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة) يا بني سمعت رسول الله صلى الله وسلم يقول: (من مات على غير هذا فليس مني).
هذا الحديث رواه أبو داود 4700 قَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ، إِنَّكَ لَنْ تَجِدَ طَعْمَ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: “إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ، فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ قَالَ: رَبِّ وَمَاذَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ” يَا بُنَيَّ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «مَنْ مَاتَ عَلَى غَيْرِ هَذَا فَلَيْسَ مِنِّي» وصححه الألباني.
ووجه الدلالة منه: أن النبي ﷺ تبرأ ممن لم يؤمن بالقدر، وهذا وعيد شديد يدل على أنه من الكبائر، وهذه الكبيرة كبيرة مكفرة، لأنه منكر لأصل من أصول الإيمان.
وفي رواية لأحمد: (إن أول ما خلق الله تعالى القلم، فقال له: اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة).
رواه الإمام أحمد 22705 عن عُبَادَة بْن الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عُبَادَةَ، وَهُوَ مَرِيضٌ أَتَخَايَلُ فِيهِ الْمَوْتَ فَقُلْتُ: يَا أَبَتَاهُ أَوْصِنِي وَاجْتَهِدْ لِي. فَقَالَ: أَجْلِسُونِي. فَلَمَّا أَجْلَسُوهُ قَالَ: يَا بُنَيَّ إِنَّكَ لَنْ تَطْعَمَ طَعْمَ الْإِيمَانِ، وَلَنْ تَبْلُغْ حَقَّ حَقِيقَةِ الْعِلْمِ بِاللهِ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ قَالَ: قُلْتُ: يَا أَبَتَاهُ وَكَيْفَ لِي أَنْ أَعْلَمَ مَا خَيْرُ الْقَدَرِ مِنْ شَرِّهِ؟ قَالَ: تَعْلَمُ أَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَمَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ. يَا بُنَيَّ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: « إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ الْقَلَمُ، ثُمَّ قَالَ: اكْتُبْ فَجَرَى فِي تِلْكَ السَّاعَةِ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ « يَا بُنَيَّ إِنْ مِتَّ وَلَسْتَ عَلَى ذَلِكَ دَخَلْتَ النَّارَ.
وفي هذا الحديث ونحوه: بيان شمول علم الله تعالى وإحاطته بما كان ويكون في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: ﱩ Ô Õ Ö × Ø Ù Ú ÛÜ Ý Þ ß à á â ã ä å æ ç è é ê ë ì í î ﱨ
وقد قال الإمام أحمد -رحمه الله- لما سئل عن القدر قال: «القدر قدرة الرحمن». واستحسن ابن عقيل هذا من أحمد -رحمه الله-.
والمعنى: أنه لا يمنع عن قدرة الله شيء، ونفاة القدر قد جحدوا كمال قدرة الله تعالى فضلوا عن سواء السبيل. وقد قال بعض السلف: « ناظروهم بالعلم، فإن أقروا به خصموا وإن جحدوه كفروا».
وفي رواية لابن وهب: قال رسول الله ﷺ: (فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه الله بالنار).
الدلالة منه: أن من لم يؤمن بالقدر فهو متوعد بأن يحرقه الله بالنار، فدل على أن الإيمان بالقدر واجب، وأن منكره متوعد بالنار، إما لكفره كغلاة القدرية، وإما لبدعته القدرية الذين يقرون بعلم الله السابق، وينكرون خلق أفعال العباد، لأن المبتدع متوعد بالنار كأصحاب الكبائر أو أعظم.
(وفي المسند والسنن عن ابن الديلمي قال: أتيت أبي بن كعب، فقلت: في نفسي شيء من القدر، فحدثني بشيء لعل الله يذهبه من قلبي، فقال: (لو أنفقت مثل أحد ذهباً ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما اصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لكنت من أهل النار). قال: فأتيت عبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وزيد بن ثابت، فكلهم حدثني بمثل ذلك عن النبي ﷺ. حديث صحيح رواه الحاكم في صحيحه)
ابن الديلمي: هو عبد الله بن فيروز الديلمي نسبة إلى جبل الديلم، ثقة من كبار التابعين.
وفي رواية: وقع في نفسي شيء من هذا القدر، خشيت أن يفسد عليّ ديني وأمري.
ودلالة هذا الأثر واضح مما تقدم.
بــاب ما جاء في المصورين
مناسبة الباب لكتاب التوحيد:
من جهتين:
1- أن التوحيد هو ألا يَجعل لله ندا فيما يستحقه، والتصوير فيه تنديد؛ لأن المصور جعل فعله نداً لفعل الله تعالى والله جل وعلا يقول: ﱩ « ¬ ® ¯ ° ± ² ﱨ [البقرة: 22] فالمصور جعل نفسه شريكاً لله جل وعلا في هذه الصفة، وهي التصوير، مع أن تصويره ناقص وتصوير الله كامل، لكن الله عز وجل هو المنفرد بتصوير المخلوقات كما يشاء ولهذا فمن كمال التوحيد الواجب ألا يُرضى بالتصوير وألا يصور أحد شيئا فيه الروح. لأن المصور مضاه بخلق الله تعالى بعمله.
2- أن التصوير وسيلة للشرك بالله تعالى والشرك ووسائله يجب سدها، فإن شرك كثير من المشركين كان من جهة الصور.
عن أبي هريرة I قال: قال رسول الله ﷺ: (قال الله تعالى: ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة). أخرجاه)
ومن أظلم: استفهام يراد به النفي أي لا أحد أظلم، وفيه معنى التحدي والتعجيز.
وسبب الظلم أن العبد اعتدى فأراد أن يخلق كخلق الله عز وجل.
يخلق: الخلق بالنسبة للمصور يكون بمعنى الصنع بعد النظر والتأمل أما الخلق بالنسبة للخالق جل وعلا فلا يحتاج إلى تأمل ونظر لكمال علمه.
يخلق كخلقي: فيه جواز إطلاق الخلق على غير الله تعالى كما في قوله تعالى: ﱩ § ¨ © ª « ﱨ [المؤمنون: 14]
لكن فرق بين خلق الخالق جل وعلا وخلق المخلوق.
فليخلقوا ذرة: اللام للأمر والمراد به التحدي والتعجيز.
والذرة واحدة الذر وهي النمل الصغار وهي من أصغر الحيوانات وذكرها الله تعالى لأن فيها روحاً.
قوله: (أو ليخلقوا حبة) أو للتنويع، انتقل من التحدي بخلق الحيوان ذي الروح إلى التحدي بخلق الحبة التي هي أصل الزرع وليس لها روح.
(أو ليخلقوا شعيرة) يحتمل أن المراد حبة الشعير ويحتمل شجرة الشعير.
(ولهما عن عائشة J، أن رسول الله ﷺ قال: (أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهؤون بخلق الله).
أشد الناس: أي أشد الذين يعذبون.
الذين يضاهئون: أي يشابهون.
بخلق الله: أي بمخلوقاته. وهم المصورون وهذا يشمل التصوير للمجسمات وغيرها.
فالعلة في التحريم هي المشابهة لخلق الله تعالى سواء قصد المصور بتصويره مضاهاة خلق الله تعالى أم لم يقصد لأن العلة هي المشابهة وليست قصد المشابهة فلو قال المصور أنا لا أصور لمشابهة خلق الله تعالى وإنما أصور للذكرى أو للتكسب ونحو ذلك فنقول: فعلك حرام لأن المشابهة قد حصلت.
وفي هذا الحديث دليل على أن التصوير من الكبائر لشدة الوعيد عليه.
أن التصوير فيه منازعة لله جل وعلا في ربوبيته لكونه المنفرد بالخلق والتصوير جل وعلا.
وقوله: (أشد الناس عذاباً) فيه إشكال لوجود من هم أعظم ذنباً من المصورين كالكفار والمشركين.
والجواب من وجوه:
1- أن الحديث على تقدير (مِنْ) أي من أشد الناس عذاباً وقد جاء بلفظ: «من أشد الناس «
2- أن الأشدية نسبية يعني أن الذي يصنعون الأشياء ويبدعونها أشدهم عذاباً الذين يضاهئون بخلق الله. وهذا أقرب.
3- أن هذا من الوعيد الذي يطلق لتنفير النفوس عنه.
وبعض أهل العلم حمل هذا الحديث على المضاهاة التي تكون كفراً والتي يستحق فاعلها أن يكون أشد الناس عذاباً وذلك أن المضاهاة في التصوير تكون كفراً في حالتين:
1- أن يصور صنماً ليعبد أو يصور إلهاً ليعبد كمن يصور بوذا للبوذيين أو المسيح للنصارى ونحو ذلك فتصوير ما يعبد من دون الله تعالى مع العلم بأنه يعبد هذا كفر بالله تعالى لأنه صور وثناً ليعبد وهو يعلم أنه يعبد فيكون شركاً أكبر وكفراً أكبر بالله تعالى.
2- أن يصور الصورة ويزعم أنها أحسن من خلق الله تعالى.
فهذا ما يحمل عليه هذا الحديث، أما المضاهاة بالتصوير عامة بما لا يخرجه من الملة فهو كبيرة.
(ولهما عن ابن عباس L: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في جهنم).
كل: من ألفاظ العموم فيعم كل مصور لكن قوله: (نفس) يدل على أن المراد صورة ما فيه نفس أي روح.
(كل مصور في النار) يدل على أن التصوير كبيرة.
وقوله: (يجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في جهنم) حتى لو كانت صوراً متعددة لشخص واحد فكل واحدة يعذب بها.
(ولهما عنه مرفوعاً: (من صوّر صورة في الدنيا كلّف أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ).
كُلف: أي ألزم وقوله: (وليس بنافخ) أي أنه كلف بأمر لا يتمكن منه زيادة في تعذيبه.
(ولمسلم عن أبي الهياج قال: قال لي عليّ: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ﷺ؟ ألا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته).
أبو الهياج من التابعين رحمه الله تعالى.
أبعثك: البعث هو الإرسال لأمر مهم.
صورة: نكرة في سياق النفي فتعم وتقدم أن المنهي عنه هو صور ذوات الأرواح.
إلا طمستها: إن كانت ملونة فطمسها بوضع لون آخر يزيل معالمها وإن كانت تمثالاً مجسماً فإنه يقطع رأسه كما في حديث جبريل عليه السلام أنه قال للنبي ﷺ «فمر برأس التمثال يقطع فيصير كهيئة الشجرة» رواه أبو داود.
وإن كانت الصورة محفورة فيحفر على وجهه حتى لا تتبين معالمه فالطمس يختلف بحسب اختلاف الصورة، وظاهر الحديث سواء كانت تعبد من دون الله أو لا.
(ولا قبراً مشرفاً) أي عالياً.
(إلا سويته) له معنيان.
1- أي سويته بما حوله من القبور.
2- جعلته حسناً على ما تقتضيه الشريعة قال تعالى: ﱩ t u v w ﱨ [الأعلى: 2] أي أحسن ما يكون وهذا أحسن، والمعنيان متقاربان.
وقوله: (مشرفاً) الإشراف يكون على وجوه:
1- أن يكون مشرفاً بكبر الأعلام التي توضع عليه وتسمى عند الناس نصائب.
2- أن يبنى عليه وهذا من الكبائر لأن النبي ﷺ لعن المتخذين عليها المساجد والسرج.
3- أن تشرف بالتلوين وذلك بوضع ألوان مزخرفة على أعلامها.
4- أن يرفع تراب القبر عما حوله فيكون ظاهراً.
ومناسبة ذكر القبر المشرِف مع الصور أن كلاً منهما قد يتخذ وسيلة إلى الشرك فهذا الحديث فيه التنبيه على إحدى علل تحريم التصوير وهي الذريعة إلى الشرك.
بــاب ما جاء في كثرة الحلف
أي من النهي عنه والوعيد فيه.
الحلف هو اليمين والقسم وهو تأكيد الشيء بذكر معظم بصيغة مخصوصة بأحد حروف القسم وهي الباء والواو والتاء.
مناسبة الباب لكتاب التوحيد:
أن القلب المعظم لله عز وجل لا يكثر من الحلف به سبحانه وتعالى لأن كثرة الحلف لا تجامع كمال التوحيد فمن كمال التوحيد الواجب ألا يجعل الله عرضة لأيمانه بحيث يحلف إذا تكلم وإذا باع وإذا اشترى ونحو ذلك، فهذا لم يعظم الله عز وجل التعظيم الواجب لله تعالى، فاسم الله تعالى يجب أن يصان، عن الحلف به إلا عند الحاجة.
وقول الله تعالى: ﱩ µ ¶¸ ﱨ
حفظ اليمين يتضمن أموراً:
1. حفظها بعدم الإكثار منها، ودليل ذلك قوله تعالى: ﱩ ¬ ® ¯ ° ± ² ﱨ [القلم: 10] فقد ذم الله تعالى من أنزل فيه هذه الآية لأن لفظ (حلاف) للمبالغة؛ لأن الحلاف غير معظم لله عز وجل. ولحديث: “ورجل جعل الله بضاعته لا يشتري إلا بيمينه ولا يبيع إلا بيمينه”.
2. حفظها بعدم الكذب فيها لحديث ابن مسعود I أن رسول الله ﷺ قال: «من حلف على مال امرئ مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان” متفق عليه.
3. حفظها بعدم التسرع بها: لحديث: «ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته» متفق عليه.
4. حفظها بعدم الحنث فيها إلا إذا كان الحنث مشروعاً لقوله تعالى: ﱩb c d e f ﱨ [النحل: 91] ولقوله ﷺ: «من حلف على يمين ثم رأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه» رواه مسلم.
وهذه المسألة فيها تفصيل فحكم الحنث في اليمين ترد عليه الأحكام التكليفية الخمسة، فقد يكون محرما أو مكروها أو واجبا أو مستحبا أو مباحا، وإن كان الأفضل في المباح حفظ اليمين، وتفصيل ذلك في كتب الفقه.
5- حفظها في إخراج الكفارة بعد الحنث.
(عن أبي هريرة I قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (الحلف منفقة للسلعة، ممحقة للكسب) أخرجاه)
ورواه الإمام أحمد في المسند[31] بلفظ: «اليمين الكاذبة منفقة للسلعة .....».
فتبين بهذه الرواية أن المراد الحلف الكاذب، أما الصادق فليس فيه هذه العقوبة لكن لا يُكثر منه كما تقدم.
فإذا حلف البائع أنه اشترى هذه السلعة بكذا أو أنه أُعطى فيها كذا وهو كاذب فإن المشتري يظنه صادقاً ويشتري منه هذه السلعة فيأخذها بزيادة على قيمتها فيعاقب الله البائع على كذبه بمحق البركة.
وقيل يدخل في معنى الحديث من يحلف صادقا، ويؤيده ما روى مسلم (1607) عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ I أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «إِيَّاكُمْ وَكَثْرَةَ الْحَلِفِ فِي الْبَيْعِ، فَإِنَّهُ يُنَفِّقُ، ثُمَّ يَمْحَقُ» فهنا قال: إياكم وكثرة الحلف ..، فدل على أن المراد الحلف صدقا، فهو الذي ينهى عن الإكثار منه، أما الحلف كذبا فهو محرم، ولو مرة واحدة.
وقوله: (منفقة للسلعة) أي مروجة للسلعة.
وقوله: (ممحقة للكسب) أي متلفة للكسب إما حساً وإما معنىً، فالإتلاف الحسي بأن يُسلط الله عليه ما يحرق ماله أو يسرقه أو يمرض فينفق المال في العلاج، والإتلاف المعنوي بأن ينزع الله البركة من ماله فلا ينتفع به لا ديناً ولا دنيا، وكم من إنسان عنده مال قليل نفعه الله به فنفع نفسه في أمور دينه ودنياه ونفع غيره، وكم من إنسان عنده مال كثير لكن لم ينتفع به في نفسه ولا غيره ولم يقدم منه شيئاً ينفعه في آخرته فهو إن كان غنياً إلا أنه يعيش عيشة الفقراء لبخله، لأن البركة قد محقت منه نسأل الله العافية.
(عن سلمان I أن رسول الله صلى عليه وسلم قال: (ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: أشيمط زان، وعائل مستكبر، ورجل جعل الله بضاعته، لا يشتري إلا بيمينه، ولا يبيع إلا بيمينه) رواه الطبراني بسند صحيح)
ثلاثة لا يكلمهم الله: نَفيُ الكلام من الله تعالى عن هؤلاء العصاة دليل على أنه يكلم من أطاعه، وصفة الكلام يثبتها أهل السنة والجماعة لله عز وجل على ما يليق بجلاله وعظمته.
والمراد أنه تعالى لا يكلمهم كلام رضا، أما كلام الغضب والتوبيخ فإنه ثابت لمن عصى الله عز وجل، كما قوله سبحانه: ﱩ ; < = > ?ﱨ [المؤمنون: 108]
(ولا يزكيهم) أي لا يعدلهم يوم القيامة ولا يشهد لهم بالإيمان.
(أشيمط زان) الأشيمط تصغير أشمط: وهو الذي اختلط سواد شعره ببياضه لكبره.
وصغَّره تحقيراً لشأنه؛ لأن داعي المعصية ضعيف في حقه فدل على أن الحامل على الزنا محبة المعصية والفجور وعدم خوفه من الله.
وضعف الداعي إلى المعصية يوجب التغليظ لمن فعلها، كما أن قوة الداعي إلى المعصية تكون عقوبته دون ذلك، ولذا فإن الشاب وإن كان الزنا في حقه كبيرة وذنباً عظيماً إلا أن الوعيد عليه دون الوعيد على الكبير.
(وعائل مستكبر) العائل: أي الفقير. والمستكبر الذي يتعاظم على الخلق ويحتقرهم، كما قال النبي ﷺ: “الكبر بطر الحق وغمط الناس”.
فالفقير داعي الاستكبار عنده ضعيف فيكون استكباره دليلاً على ضعف إيمانه وخبث طويته ولذلك كانت عقوبته أشد.
(ورجل جعل الله بضاعته) أي جعل الحلف بالله بضاعة له وإنما ساغ التأويل هنا لأنه ﷺ فسره بذلك حيث قال: «لا يشتري إلا بيمينه...»
المعنى أنه كلما اشترى حلف طلباً للكسب واستحق هذه العقوبة لأنه إن كان صادقاً فكثرة أيمانه تشعر باستخفافه باليمين ومخالفة قوله تعالى: «واحفظوا أيمانكم» وإن كان كاذباً جمع بين عدة محاذير وهي:
1- استهانته باليمين ومخالفته الأمر بحفظها.
2- الكذب.
3- أكل المال بالباطل.
4- أن يمينه يمين غموس.
(وفي الصحيح عن عمران بن حصين I قال: قال رسول الله ﷺ: (خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، قال عمران: فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثاً؟ ثم إن بعدكم قوماً يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن)
في الصحيح: أي في الصحيحين.
(خير أمتي قرني) المراد أن قرنه ﷺ هو خير القرون، وأهل ذلك القرن هم الصحابة M، وهم خير الناس.
والقرن: هم أهل زمان واحد متقارب اقترنوا في أمر من الأمور المقصودة، ويطلق القرن على مدة من الزمن، وقد اختلف في هذه المدة على أقوال، والمشهور أنها مائة سنة.
(ثم الذين يلونهم) أي قرن التابعين (ثم الذين يلونهم) وهم أتباع التابعين. وفيه أن الصحابة أفضل من التابعين والتابعون أفضل من أتباع التابعين([32]).
قوله: (قال عمران فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثة) هذا الشك وقع في بعض الأحاديث لكن جاء في أكثر الطرق بغير شك أنه ﷺ ذكر بعد قرنه قرنين.
قوله: (ثم إن بعدكم قوماً يشهدون ولا يستشهدون) أي لا يطلب منهم أداء الشهادة، بل يبادرون إلى أدائها قبل أن يدعوا إلى لأدائها فيكون ذلك دليلاً على تسرعهم في أداء الشهادة وعدم اهتمامهم بها.
وهذا الحديث يعارض في الظاهر ما رواه مسلم من حديث زيد بن خالد I أن النبي ﷺ قال: «ألا أخبركم بخير الشهداء؟ الذي يأتي بالشهادة قبل أن يُسألها»
والجمع بينهما من وجوه أحسنها: أن المراد من حديث زيد I مَن عنده شهادة لإنسان بحق لا يعلم بها صاحبُها فيأتي إليه فيخبره بها، أو يموت صاحب الحق ويخلِّف ورثة لا يعلمون الحال فيأتي الشاهد إليهم فيعلمهم بذلك.
قوله: (ويخونون ولا يؤتمنون) أي أنهم أهل خيانة لا يأتمنهم الناس.
وينبه هنا إلى أن الخيانة وصف ذم مطلقاً فقول العامة: خان الله من يخون لا يجوز.
قال تعالى: (وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم) ولم يقل فخانهم.
قوله: (وينذرون ولا يوفون) أي لا يؤدون ما وجب عليهم من النذر.
قوله: (ويظهر فيهم السِّمن) والمراد أنهم يحبون التوسع في المآكل والمشارب وهي أسباب السمن فيكون همهم إصلاح أبدانهم وتسمينها، أما السمن الذي لا اختيار للإنسان فيه فلا يذم عليه كما لا يذم على كونه طويلاً أو قصيراً أو أسود أو أبيض لكن يذم على ما يكون هو السبب فيه.
وجه الدلالة من الحديث للباب: أن فيه ذم هؤلاء الذين يسارعون إلى الشهادة، لاستخفافهم بها، ومن استخف بالشهادة ولم يبال بها أستخف باليمين ولم يبال بها أيضا، فإن الشهادة نوع من اليمين.
(وفيه عن ابن مسعود I أن النبي ﷺ قال: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته).
وفيه: أي الصحيحين.
أول هذا الحديث تقدم الكلام عليه في الحديث السابق.
وقوله: (ثم يجيء قوم تسبق شهادةُ أحدهم يمينَه ويمينُه شهادته)
أي بعد القرون الثلاثة يجيء قوم، فيهم من هو موصوف بهذا الوصف.
والمراد بقوله: « تسبق شهادة أحدهم» أحد وجهين.
1- أنه لقلة الثقة بهم لا يشهدون إلا بيمين فتارة تسبق الشهادة وتارة تسبق اليمين.
2- أنه كناية عن كون هؤلاء لا يبالون بالشهادة ولا باليمين حتى تكون الشهادة واليمين في حقهم كأنهما متسابقتان.
والمعنيان لا يتنافيان فيحمل الحديث عليهما جميعاً.
قال ابن الجوزي: المراد أنهم لا يتورعون ويستهينون بأمر الشهادة واليمين.
(قال إبراهيم: كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار.
كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار» أي أولياء أمورهم كانوا يضربونهم على الشهادة والعهد.
وإنما كانوا يضربونهم حتى لا يصير لهم به عادة فيحلفوا في كل ما يصلح ولا يصلح.
وقيل: يضربوننا على شهادة الزور.
والعهد: أي يضربونهم إذا تعاهدوا على الوفاء به.
وفي الأثر تمرين الصغار على الطاعة ونهيهم عما يضرهم وجواز ضربهم على الأخلاق إذا لم يتأدبوا إلا بذلك.
وفيه قبول شهادة الصبيان وهو محل خلاف وتفصيل في كتب الفقه.
وأن من منهج السلف في التربية ضرب الصغار لحديث: «واضربوهم عليها لعشر».
لكن يشترط لذلك شروط:
1- أن يكون الصغير قابلاً للتأديب فلا يضرب من لا يعرف المراد بالضرب.
2- أن يكون التأديب ممن له ولاية عليه.
3- ألا يسرف في ذلك كمية أو كيفية أو نوعاً أو موصوفاً أو غير ذلك.
4- أن يقع من الصغير ما يستحق التأديب عليه.
5- أن يقصد تأديبه لا الانتقام لنفسه فإن قصد الانتقام لم يكن مؤدباً بل منتصر.
بــاب ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه
أي ما ورد في النصوص في وجوب حفظ ذمة الله تعالى وذمة نبيه ﷺ.
والذمة بمعنى العهد، وذمة الله وذمة نبيه يعني عهدَ الله وعهد نبيه ﷺ، والواجب على المسلم أن يحفظ ذمة الله وذمة نبيه فإنه إذا كان يعطي بعهد الله ثم يخفر فقد خفر عهد الله جل وعلا، وهذا مناف لكمال التوحيد الواجب، فالواجب على العبد أنه إذا أعطى بذمة الله جل وعلا أن يوفي بهذه الذمة تعظيما لله عز وجل، حتى لا ينسب النقص لذمة الله تعالى، ولهذا فإنه لا يجوز أن تجعل في العهد ذمة الله عز وجل وذمة نبيه ﷺ لأن في ذلك تعريضا لعدم الوفاء بها، ولهذا أورد المؤلف رحمه الله تعالى هذا الباب في كتاب التوحيد.
(وقول الله تعالى: (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها) الآية)
قال الله تعالى: ﱩ ] ^ _ ` a b c d e f g h i j kl m n o p q r ﱨ [النحل: 91]
هذا أمر من الله تعالى بالوفاء بالعهود والمواثيق والمحافظة على الأيمان المؤكدة.
وجه الدلالة من الآية للباب: قوله: ﱩ ] ^ _ ﱨ والعهد الذمة.
وعدم الوفاء بعهد الله تنقص له سبحانه وتعالى وهذا مخل بالتوحيد.
(عن بريدة I أن رسول الله ﷺ كان إذا أمَّر أميراً على جيش أو سرية أوصاه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيراً، فقال: (اغزوا بسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال ـ أو خلال ـ فآيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام فإن هم أجابوك فاقبل منهم، ثم ادعوهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله تعالى، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فاسألهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم. وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل ذمة الله وذمة نبيه، فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه.
وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك. فإنك لا تدري، أتصيب حكم الله فيهم أم لا) رواه مسلم)
ذكر المؤلف رحمه الله تعالى حديث بريدة I عند مسلم وهو حديث طويل الشاهد منه للباب قوله ﷺ: (وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه ...)
فأرادوك أي طلبوك. ضمَّن الإرادة معنى الطلب، وإلا فالأصل أن تتعدى لــــــ (مِنْ) فيقال: أرادوا منك.
قوله ﷺ: (فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه) أي إذا قال أهل الحصن نريد أن ننزل على عهد الله ورسوله، فلا يجوز أن ينزلهم على عهد الله ورسوله، وعلل ذلك بقوله: (فإنكم أن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة نبيه)
تخفروا: من أخفر أي غدر.
وذلك لأن الغدر بذمة الله وذمة نبيه أعظم.
قوله ﷺ: (وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا)
حكم الله: شرع الله تعالى.
فإذا أرادوا أن ينزلوا على حكم الله فإنهم لا يجابون. فإنا لا ندري أنصيب فيهم حكم الله أم لا؟
قال: (أنزلهم على حكمك) ولم يقل: وحكم أصحابك لأن الحكم في الجيش أو السرية للأمير. أما الذمة والعهد فهي من الجميع ولهذا لا يحل لأحد من الجيش أن ينقض العهد.
فائدة:
لا ينبغي أن يقال: لمفتٍ: ما حكم الإسلام في كذا، أو ما رأي الإسلام في كذا فإنه قد يخطئ فلا يصيب حكم الإسلام ولا يقول مفتٍ: حكم الإسلام كذا لأنه قد يخطئ ولكنه يقيِّد فيقول: حكم الإسلام فيما أرى كذا وكذا إلا فيما هو نص واضح صريح فلا بأس، مثل أن يقال: ما حكم الإسلام في أكل الميتة؟ فيقول: حكم الإسلام في أكل الميتة أنه حرام.
وفي هذا الحديث تنبيه لأهل التوحيد ألا يحصل منهم فعل أو قول يُدخَل منه على دين الإسلام وأهله، لأنهم إذا خفروا الذمة التي بينهم وبين الكفار رجع ذلك إلى ما حملوه من الإسلام.
بــاب ما جاء في الإقسام على الله
الإقسام على الله أن تحلف على الله أن يفعل، أو تحلف على الله ألا يفعل، مثل والله ليفعلن الله كذا، أو والله لا يفعل الله كذا.
والقَسَم على الله ينقسم إلى أقسام:
1- أن يخبر بما أخبر الله به ورسوله من نفي أو إثبات فهذا لا بأس به وهذا دليل يقينه بما أخبر الله به ورسوله مثل: والله ليُشَفِّعَنَّ اللهُ نبيَّه في الخلق يوم القيامة ومثل: والله لا يغفر الله لمن أشرك به.
2- أن يقسم على ربه لقوة رجائه وحسن الظن بربه فهذا جائز لإقرار النبي ﷺ ذلك في قصة الربيع بنت النضر عمة أنس بن مالك L: حينما كسرت ثنية جارية من الأنصار فاحتكموا إلى النبي ﷺ فأمر النبي ﷺ بالقصاص فعرضوا عليهم الصلح فأبوا فقام أنس I بن النضر فقال: أتكسر ثنية الربيع؟ والله يا رسول الله ﷺ لا تكسر ثنية الربيع وهو لا يريد به رد الحكم الشرعي فقال رسول الله ﷺ : «يا أنس كتاب الله القصاص» يعني السن بالسن. قال: والله لا تكسر ثنية الربيع. وغرضه بذلك أنه لقوة ما عنده من التصميم على أن لا تكسر ولو بذل كل غال ورخيص أقسم على ذلك.
فلما عرفوا أنه مصمم ألقى الله في قلوب الأنصار العفو فعفوا فقال النبي ﷺ: «إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره.» متفق عليه.
فهذا أقسم على الله تعالى لا على وجه التعاظم والتكبر والتألي ولكن على جهة الحاجة والافتقار إلى الله وحسن الظن به تعالى فهذا جائز لأنه قام بقلبه من العبودية لله والذل والخضوع ما جعل الله جل وعلا يجيبه.
3- أن يقسم على الله تعالى ويكون الحامل له على ذلك التكبر ورفعة نفسه وإعجابه بها حتى يجعل له على الله حقاً وهذا محرم مناف لكمال التوحيد وقد ينافي أصله ويحبط عمل صاحبه والعياذ بالله تعالى.
مناسبة الباب لكتاب التوحيد:
ظاهر مما تقدم وأنه من تألى على الله تعالى فقد أساء الأدب معه جل وعلا وتحجر فضله وأساء الظن به وكل هذا ينافي كمال التوحيد وربما ينافي أصله، فالتألي على من هو عظيم يعتبر تنقصاً في حقه.
(عن جندب بن عبد الله رضي الله قال: قال رسول الله ﷺ: (قال رجل: والله لا يغفر الله لفلان، فقال الله عز وجل: من ذا الذي يتألى عليّ أن لا اغفر لفلان؟ إني قد غفرت له وأحبطت عملك) رواه مسلم)
(وفي حديث أبي هريرة أن القائل رجل عابد، قال أبو هريرة: تكلم بكلمة أو بقت دنياه وآخرته)
هذا الحديث رواه أبو داود ولفظه: «عن أبي هريرة I سمعت رسول الله ﷺ يقول: «كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين فكان أحدهما يذنب والآخر مجتهد في العبادة فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب فيقول: أقصر. فوجده يوماً على ذنب فقال له أقصر. فقال خلني وربي أبعثت عليّ رقيباً؟ فقال والله لا يغفر الله لك، أو لا يدخلك الجنة. فقبض أرواحهما فاجتمعا عند رب العالمين فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالماً، أو كنت على ما في يدي قادراً؟ وقال للمذنب اذهب فادخل الجنة برحمتي. وقال للآخر اذهبوا به إلى النار.» وصححه الألباني.
قوله: (والله لا يغفر الله لفلان)
هذا يدل على اليأس من روح الله واحتقار عباد الله عند هذا القائل وإعجابه بنفسه، حيث ظن أنه بعبادته لله تعالى قد بلغ منزلة عالية بحيث يتحكم بأفعال الله تعالى، أو أن له أن يتحكم في الخلق وهذا ينافي حقيقة العبودية التي هي التذلل لله عز وجل.
(يتألى) يعني يحلف لأنها من الأليَّة وهي الحلف فالمعنى يحلف على جهة التعاظم والتكبر.
(من ذا الذي يتألى عليّ ألا أغفر لفلان؟) هذا استفهام للإنكار أي من ذا الذي يتحجر فضلي أن لا أغفر لمن أساء من عبادي.
وهذا الحديث يدل على أن هذا المذنب عنده حسن ظن بالله ورجاءٌ له ولعله كان يفعل الذنب ويتوب منه فيما بينه وبين ربه لأنه قال: خلني وربي. والإنسان إذا تاب توبة نصوحاً ثم غلبته نفسه فعصى فإن توبته الأولى صحيحة، فإذا تاب ثانية فتوبته صحيحة لأنه ليس من شروط التوبة ألا يعود وإنما من شروطها العزم على عدم العود.
وهذا الرجل الذي غَفر الله له إما أن يكون قد وُجدت منه أسباب المغفرة بالتوبة أو أن ذنبه هذا كان دون الشرك وتفضل الله عليه فغفر له.
وقوله: (وأحبطت عملك) ظاهره حبوط عمله كله لأن قوله: (عملك) مفرد مضاف وهو يفيد العموم ووجه ذلك أن هذا الرجل كان يتعبد لله وفي نفسه إعجاب بعمله كأنه يمنّ على الله بعمله، وبهذا لا يكون متذللاً خاضعاً لله عز وجل فيكون قد افتقد ركناً من أركان العبادة فلم يحقق العبودية لله تعالى.
أو بقت: أهلكت.
دنياه وآخرته: أما كونها أوبقت آخرته فهذا ظاهر لأنه من أهل النار والعياذ بالله وأما كونها أوبقت دنياه لأن الدنيا الحقيقية هي ما اكتسب العبد فيها عملاً صالحاً وإلا فهي خسارة.
وفي هذا الحديث أن هذا الفاسق آتاه خير من حيث لا يشعر، وقيلت في حقه كلمة مؤذية له في الظاهر، حيث قال له هذا الرجل: والله لا يغفر الله لك. ثم كان فيها مصلحة عظيمة له بأن غفر له ذنبه، ولهذا نبه المصنف رحمه الله تعالى في مسائل هذا الباب أن الرجل قد يُغفر له لسبب هو من أكره الأمور إليه. فليست العبرة باحتقار الناس ولا بكلامهم بل العبرة بحقيقة الأمر عند الله تعالى.
وفي هذا الحديث بيان خطر اللسان.
بــاب لا يستشفع بالله على خلقه
الشفاعة هي التوسط للغير بجلب منفعة له أو دفع مضرة.
واستشفع بغيره أي جعله شافعاً له.
قوله: (لا يستشفع بالله على خلقه) أي لا يَ نطلب من الله تعالى أن يشفع عند أحد من الخلق، بحيث يكون واسطة يشفع عند أحد من الخلق لحصول المطلوب لأن الواسطة لا يجلب النفع أو يدفع الضر بنفسه وإنما يتوسط عند غيره وذلك الغير هو الذي ينفع أو يدفع الضر. وهذا لا يجوز في حق الله تعالى؛ لأنه جل وعلا بيده الأمور كلها فالاستشفاع بالله على خلقه منافٍ لكمال التوحيد ومنافٍ لتعظيم الله عز وجل التعظيم الواجب.
مناسبة الباب لكتاب التوحيد:
أن الاستشفاع بالله على خلقه تنقص لله عز وجل لأن جعل مرتبة الله تعالى أدنى من مرتبة المشفوع إليه، والله عز وجل لا يشفع لأحد من خلقه إلى أحد لأنه أجل وأعظم من أن يكون شافعاً.
(عن جبير بن مطعم I قال: جاء أعرابي إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله: نهكت الأنفس، وجاع العيال، وهلكت الأموال، فاستسق لنا ربك، فإنا نستشفع بالله عليك وبك على الله، فقال النبي ﷺ: (سبحان الله! سبحان الله!) فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه؛ ثم قال النبي ﷺ: (ويحك، أتدري ما الله؟ إن شأن الله أعظم من ذلك، إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه) وذكر الحديث. رواه أبو داود)
(فاستسق لنا): أي اطلب من الله أن يسقينا وهذا لا بأس به لأنه طلب الدعاء ممن ترجى إجابته. وهذا من التوسل المشروع.
(فإنا نستشفع بالله عليك) أي نجعله واسطة بيننا وبينك لتدعو الله لنا وهذا فيه جعل لمرتبة الله تعالى دون مرتبة الرسول ﷺ.
(ونستشفع بك على الله): أي نطلب منك أن تكون شافعاً لنا عند الله تعالى فتدعو الله لنا وهذا جائز.
فقال النبي ﷺ: (سبحان الله سبحان الله).
استعظاماً لهذا القول وإنكاراً له وتنزيها لله عز وجل عز وجل عما لا يليق به.
ووجه التسبيح أن الرجل ذكر جملة فيها شيء من التنقص لله تعالى.
قوله: (ويحك) قيل كلمة ترحم وقيل هي وويل بمعنى واحد تفيد التحذير.
وعلى الأول يكون قوله ﷺ ترحماً لهذا الرجل الذي تكلم بهذا الكلام كأنه لم يعرف قدر الله.
قوله: (أتدري ما الله؟) الاستفهام للتعظيم ويحتمل أن يكون للنفي أي أنت جاهل لا تدري ما الله عز وجل.
(إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه) وذلك لكمال عظمته وكبريائه.
وفيه جواز طلب الدعاء (الاستشفاع) من الرسول ﷺ في حياته أما بعد وفاته فإنه لا يجوز بدليل أن الصحابة M لم يفعلوا ذلك.
ولما حصل الجدب في عهد عمر I استسقى بالعباس I.
بــاب ما جاء في حماية النبي ﷺ حمى التوحيد، وسده طرق الشرك.
مناسبة الباب لكتاب التوحيد:
لما تكلم المؤلف رحمه الله تعالى فيما مضى من كتابه عن التوحيد وإثباته وما ينافي كماله ذكر في هذا الباب ما يحمي هذا التوحيد وأن الواجب سد طرق الشرك من كل وجه حتى في الألفاظ ليكون خالصاً من كل شائبة.
وإذا تأملت سنة النبي ﷺ وجدته قد سد الطرق الموصلة إلى الشرك كما في قوله ﷺ: “اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد” وقوله: “لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم” وكما في حديث الباب الآتي إن شاء الله تعالى.
(عن عبد الله بن الشخير I، قال: انطلقت في وفد بني عامر إلى النبي ﷺ فقلنا: أنت سيدنا، فقال: (السيد الله تبارك وتعالى). قلنا: وأفضلنا فضلاً، وأعظمنا طولاً؛ فقال: (قولوا بقولكم، أو بعض قولكم، ولا يستجرينكم الشيطان) رواه أبو داود بسند جيد.
وعن أنس I، أن ناساً قالوا: يا رسول الله: يا خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، فقال: (يا أيها الناس، قولوا بقولكم، أو بعض قولكم، ولا يستهوينكم الشيطان، أنا محمد، عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عز وجل). رواه النسائي بسند جيد)
عن عبد الله بن الشخير I قال انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله ﷺ فقلنا: أنت سيدنا.
السيد: ذو السؤدد والشرف والعظمة.
(فقال: السيد الله) ال في السيد تفيد العموم والمعنى أن الذي له السيادة المطلقة هو الله عز وجل أما السيد المضاف فيكون سيداً باعتبار المضاف إليه مثل: سيد بني فلان.
(تبارك وتعالى) تبارك: معناه كثرت بركاته وخيراته ويقول العلماء هذا الفعل لا يوصف به إلا الله عز وجل لأنه وصف خاص بالله تعالى.
(قلنا: وأفضلنا فضلاً) أي فضلك أفضل من فضلنا.
(وأعظمنا طَولاً) أي أعظمنا شرفاً وغنى، قال تعالى: ﱩ > ? @ A B C D EF ﱨ [غافر: 3] أي ذي العظمة والغنى.
(فقال: قولوا بقولكم أو بعض قولكم)
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى: لم ينههم عن قولهم (أنت سيدنا) بل أذن لهم بذلك فقال: (قولوا بقولكم أو بعض قولكم) لكن نهاهم أن يستجريهم الشيطان فيترقوا من السيادة الخاصة إلى السيادة المطلقة لأن كلمة (سيدنا) سيادة خاصة مضافة. (السيد) عامة مطلقة.
(قولوا بقولكم) أي قولهم: أنت سيدنا أو أفضلنا ...
(أو بعض قولكم) يحتمل أن يكون شكاً من الراوي أو أنه من لفظ الحديث أي اقتصروا على بعض.
(ولا يستجرينكم الشيطان) أي لا يستملينكم ويجذبنكم إلى أن تقولوا قولاً منكراً.
استجراه بمعنى جذبه وجعله يجري معه.
والمراد حمايةُ التوحيد وسدُّ كل طريق يوصل إلى الشرك وكلما عظم المنكر وكان الداعي إليه في النفوس أشد كانت الحماية فيه أعظم وباب الشرك حماه النبي ﷺ حماية بالغة وسد كل طريق يمكن أن يوصل إليه لكونه أعظم الذنوب.
في هذا الحديث أن إطلاق لفظ السيد على البشر مكروه ومخاطبته بذلك ينبغي سدها فلا يخاطب أحد بأن يقال له: أنت سيدنا على جهة الجمع وذلك لأن فيه نوع تعظيم من جهة المخاطبة يعني الخطاب المباشر. والجهة الثانية من جهة استعمال اللفظ فالنبي ﷺ سيد كما قال عن نفسه «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» ولكن مخاطبته ﷺ مع كونه سيداً كرهها لئلا تؤدي إلى ما هو أعظم من ذلك من تعظيمه والغلو فيه ﷺ هذه مناسبة الحديث لهذا الباب مع كونه ﷺ سيد ولد آدم إلا أنه قال: «السيد الله تبارك وتعالى» ففيه حماية التوحيد وسد الطرق الموصلة إليه ومنها طريق الغلو في الألفاظ.
وفي قوله: (ولا يستهوينكم الشيطان .....) أنه كره ﷺ أن يواجهوه بالمدح فيفضي بهم إلى الغلو.
بــاب ما جاء في قول الله تعالى: (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة) الآية.
قوله: ﱩ ! " # $ % ﱨ: الضمير يعود على المشركين، أي: ما عظموا الله حق تعظيمه حيث أشركوا به. ولو عظموه حق تعظيمه لما عبدوا غيره.
قوله: ﱩ ½ ¾ ¿ À Á ﱨ أي الأرض على عظمها عند أهلها فهي قبضة الرحمن سبحانه يعني: في داخل قبضة الرحمن - جل وعلا - يوم القيامة، وكذلك السماوات مطويات كطي السجل في كف الرحمن - جل وعلا - كما قال سبحانه هنا: ﱩ Â Ã ÄÅ ﱨ [الزمر: 67] وقال في آية سورة الأنبياء: ﱩ 8 9 : ; < => ? @ A B CD ﱨ
قوله: ﱩ ® ¯ ° ± ² ﱨ هذا تنزيه له عن كل نقص وعيب، ومما ينزه عنه هذه الأنداد، ولهذا قال: «وتعالى»; أي: ترفع.
(عن ابن مسعود I قال: جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله ﷺ فقال: يا محمد! إنا نجد أن الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء على إصبع، والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، فيقول: أنا الملك. فضحك النبي ﷺ حتى بدت نواجذه، تصديقاً لقول الحبر، ثم قرأ رسول الله ﷺ: ﱩ ¸ ¹ º » ¼ ½ ¾ ¿ À Á ﱨ الآية)
قوله: «حبر»: الحَبْر: هو العالم الكثير العلم.
قوله: «إنا نجد»: أي: في التوراة.
قوله: «فضحك النبي ﷺ حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر»
فهذا إقرار من النبي ﷺ لما قاله الحبر، ثم استشهد بالآية المتقدمة.
والنواجذ جمع ناجذ، قيل: إنها أقصى الأضراس، وهي أربعة تنبت بعد البلوغ، أي استغرق في الضحك وبالغ فيه حتى بدت، والمراد المبالغة في الضحك، من غير أن يراد ظهور نواجذه.
وفيه إثبات الأصابع للرحمن جل وعلا، على ما يليق بجلاله وعظمته، وفي الحديث: «القلب بين إصبعين من أصابع الرحمن «
(وفي رواية لمسلم: والجبال والشجر على إصبع، ثم يهزهن فيقول: أنا الملك، أنا الله. وفي رواية للبخاري: يجعل السماوات على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع) أخرجاه.
ولمسلم عن ابن عمر مرفوعاً: (يطوي الله السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين السبع ثم يأخذهن بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون)
وفيه إثبات اليمين لله عز وجل على ما يليق بجلاله وعظمته.
قوله: «ثم يأخذهن بشماله» هذه اللفظة مختلف فيها بين المحدثين، فمنهم من أثبتها، ومنهم من حكم عليها بالشذوذ، وقد روى مسلم أن الرسول ﷺ قال: «المقسطون على منابر من نور على يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين» وهذا يقتضي أنه ليس هناك يد شمال.
فعلى القول بعد ثبوت هذه اللفظة فالأمر واضح، وعلى القول بثبوتها فجمع بينهما بعض العلماء بأن معنى (كلتا يديه يمين) أي كلاهما كاملة ليس فيها نقص، بخلاف المخلوق فإن يده اليسرى ناقصة عن اليمنى، فلإزالة هذا الوهم قال: كلتا يديه يمين. وفي رواية الترمذي 3368 قال آدم عليه السلام: (وكلتا يدي ربي يمين مباركة).
وروي عن ابن عباس، قال: (ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم).
قوله: «إلا كخردلة»: هي حبة نبات صغيرة جدا، يضرب بها المثل في الصغر والقلة، وهذا يدل على عظمته -سبحانه-، وأنه - سبحانه- لا يحيط به شيء، والأمر أعظم من هذا التمثيل التقريبي، لأنه تعالى لا تدركه الأبصار، ولا تحيط به الأفهام.
وقال ابن جرير: حدثني يونس، أنبأنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: حدثني أبي، قال: قال رسول الله ﷺ: (ما السماوات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس)
الكرسي: موضع قدمي الله تعالى، هكذا قال ابن عباس L، والدراهم: جمع درهم، وهو النقد من الفضة، والترس: شيء يحمل عند القتال يتقى به السيف والرمح ونحوهما.
(قال: وقال أبو ذر I: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض)
قوله: «ما الكرسي في العرش»: أي: بالنسبة إليه، والعرش هو المخلوق العظيم الذي استوى عليه الرحمن ولا يقدر قدره إلا الله عز وجل والمراد بالحلقة حلقة الدرع، وهي صغيرة وليست بشيء بالنسبة إلى فلاة الأرض.
وفيه دلالة على عظم العرش بالنسبة إلى الكرسي.
وهذا الحديث يدل على عظمته عز وجل فيكون مناسبا لتفسير الآية التي جعلها المؤلف ترجمة للباب.
(وعن ابن مسعود قال: (بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام، وبين كل سماء خمسمائة عام، وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي والماء خمسمائة عام، والعرش فوق الماء، والله فوق العرش، لا يخفى عليه شيء من أعمالكم). أخرجه ابن مهدي عن حماد بن سلمه عن عاصم عن زر عن عبدالله ورواه بنحوه عن المسعودي عن عاصم، عن أبي وائل، عن عبد الله. قاله الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى ، قال: وله طرق)
قوله: «وعن ابن مسعود ... «: هذا الحديث موقوف على ابن مسعود، لكنه من الأشياء التي لا مجال للرأي فيها، فيكون له حكم الرفع، لأن ابن مسعود I لم يعرف بالأخذ عن الإسرائيليات.
وفيه إثبات صفة العلو لله عز وجل على ما يليق بجلاله وعظمته، فهو سبحانه فوق جميع المخلوقات، مستو على عرشه بائن من خلقه، فله العلو الكامل من جميع الوجوه، علو القدر، وعلو القهر، وعلو الذات.
(وعن العباس بن عبد المطلب I قال: قال رسول الله ﷺ: (هل تدرون كم بين السماء والأرض؟) قلنا: الله ورسوله أعلم قال: (بينهما مسيرة خمسمائة سنة، ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة وكثف كل سماء خمسمائة سنة، وبين السماء السابعة والعرش بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، والله سبحانه وتعالى فوق ذلك، وليس يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم). أخرجه أبو داود وغيره)
هذا الحديث يدل على علو الله وعظمته، وعظم مخلوقاته، وفيه التصريح بأن الله فوق خلقه على عرشه، بائن من خلقه، كما جاء بذلك الكتاب والسنة،
وهذه الأحاديث وما في معناها تدل على عظمة الله، وعظيم قدرته، وعظيم سلطانه، وقد تعرف إلى عباده بصفات كماله، وعجائب مخلوقاته، وكلها تدل على جلاله وعظمته، وأنه هو المعبود وحده، لا شريك له في ربوبيته، ولا في إلهيته، وتدل على إثبات صفاته، كما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله ﷺ على ما يليق بجلاله وعظمته.
وختم الشيخ رحمه الله تعالى هذا الكتاب بهذا الباب ليبين أن العباد إذا قدروا الله حق قدره، وعظموه حق تعظيمه فإنهم سيعبدونه وحده لا شريك له، ويطيعونه ويذلون له، وأن من لم يوحد الله عز وجل فذلك لعدم توقيره وتعظيمه لربه.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
[1] تنبيه: هذا الشرح مستفاد من شروح كتاب التوحيد لأهل العلم جزاهم الله خيراً، ولم يُراعَ فيه التوثيق العلمي؛ لأن الغرض ابتداءً لم يكن لنشر هذا الشرح، وإنما تم إخراجه بهذه الصورة للتيسير على طلاب العلم في برنامج دليل، والله الموفق.
[2] ابنه الشيخ إبراهيم بن سيف صاحب العذب الفائض في علم الفرائض.
[3] ينظر: التمهيد لشرح كتاب التوحيد ص أ، ب.
[4] ينظر: الإقليد في تخريج كتاب التوحيد ص38.
[5] رسائل العلامة السلفي محمد تقي الدين الهلالي 1/306.
[6] ورواه أحمد وابن ماجة مرفوعاً عنه، وصححه الألباني (2/266).
[7] المستدرك على مجموع الفتاوى 1/27.
[8] انظر: حاشية كتاب التوحيد لابن قاسم (ص 50).
[9] انظر: حاشية كتاب التوحيد لا بن قاسم (ص 51).
[10] انظر: القول السّديد لا بن سعدي (ص 54).
[11] انظر: فتاوى اللجنة الدائمة (المجموعة الثانية) 1/352، ومجموع فتاوى ابن عثيمين 2/231.
[12] وصححه الحافظ كما ذكره ابن علان في الفتوحات (3/ 95).
[13] ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية ] في الاستغاثة ص 118 وقال: إذا ذكر حكم بدليل معلوم ذُكر ما يوافقه من الآثار والمراسيل وأقوال العلماء وغير ذلك من الاعتضاد والمعاونة لا لأن الواحد من ذلك يعتمد عليه في حكم شرعي.
[14] مدينة بالمشرق فتحت في خلافة عمر I.
[15] لأنه ليس بين نبينا وعيسى عليهما الصلاة والسلام نبي؛ لما روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة I قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «أنا أولى الناس بابن مريم والأنبياء أولاد علات ليس بيني وبينه نبي».
[16] جلاء الأفهام ص 60.
[17] الفتاوى (1/213).
[18] أخرجه أبو داود (1047)، والنسائي (1374)، وابن ماجه (1085)، والحاكم (1/278)، وصحّحه على شرط البخاري، ووافقه الذّهبي. وصحّحه الألباني (صحيح ابن ماجه 896).
[19] الفرجة هي الكوة في الجدار والخوخة ونحوهما.
[20] رواه البخاري برقم (3156) حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: سَمِعْتُ عَمْرًا، قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وَعَمْرِو بْنِ أَوْسٍ فَحَدَّثَهُمَا بَجَالَةُ، - سَنَةَ سَبْعِينَ، عَامَ حَجَّ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ بِأَهْلِ الْبَصْرَةِ عِنْدَ دَرَجِ زَمْزَمَ -، قَالَ: كُنْتُ كَاتِبًا لِجَزْءِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَمِّ الأَحْنَفِ، فَأَتَانَا كِتَابُ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَةٍ، فَرِّقُوا بَيْنَ كُلِّ ذِي مَحْرَمٍ مِنَ المَجُوسِ، وَلَمْ يَكُنْ عُمَرُ أَخَذَ الجِزْيَةَ مِنَ المَجُوسِ حَتَّى شَهِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَخَذَهَا مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ «
[21] شرح مسلم للنووي (14/326).
[22] يراجع مفتاح دار السعادة (2/140).
[23] ولهذا فإن المشركين يحبون آلهتهم محبة شركية ويتضح هذا بتأمل حال المشركين وعبدة الأوثان وعبدة القبور في هذه الأزمنة فإنك تجد المتوجه إلى قبر الولي في قلبه من محبة ذلك الولي وتعظيمه ومحبة سدنة ذلك القبر ما يجعله في رغب ورهب وفي خوف وطمع وفي إجلال حين يتوجه إلى ذلك الولي بأنواع العبادة لأجل تحصيل مطلوبه، فهذه هي محبة العبادة التي صرفها لغير الله جل وعلا شرك أكبر به.
[24] أي يُسيِّر ويُجري.
[25] (8/284).
[26] برقم (4169).
[27] برقم (139).
[28] برقم (10384).
[29] برقم 811.
[30] (ويتقفرون العلم) ومعناه: يطلبونه، ويتبعونه، وقيل معناه يجمعونه.
[31] (12/140).
[32] فتح الباري (7/6).